كم هو الحزن جاثم على قلوبنا، وكم غيومه مسيطرة على أحوالنا، وكم تعيش الأمة كلها -لا أهل فلسطين وحدهم- في حزن وهمٍّ بالغَين.. فإن القلوب لتحزن، وإن العيون لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا شيخ ياسين لمحزونون…
رمز للكرامة
لقد فقدت الأمة رمزا للكرامة بعد أن كادت تموت في بلادنا، وفقدت الأمة قائدا ربانيا، عاش بالإسلام، وعاش للإسلام، كان -مع ما أصابه من شلل- القدوة الحسنة، والأستاذ المربي، والشيخ المرشد؛ فقد كان مع عجزه قمة الصمود، وكم عجزت الآلية العسكرية الإسرائيلية -فضلا عن مناوراتهم الدبلوماسية والسياسية- أن تنال منه، لكنَّ قدر الله، واصطفاءه لشيخنا أن يختم له بالشهادة التي طالما تمناها، وسعى إليها.
تمناها بصدق فنالها
إننا في الوقت الذي نحزن فيه على فراق قادة الأمة الربانيين، فإن فراقهم واستشهادهم لأكبر دليل على صدق حياتهم، فما نحسب الشيخ أنه كان صاحب كلمات يقولها، ولا مؤتمرات يحضرها، ولم يسعد يوما بأنه أصبح رفيع المستوى يقابل أعلام الكفر والضلال، ولكنه كان رفيع المستوى بجهاده، وخدمته لدينه وقضيته.
إن من عرف الجهاد، ما تخلت أمنيته أن ينال الشهادة، فما بالنا بمن كان شيخ الجهاد وقائده في بلده! ربما كان استشهاد شيخنا استجابة دعاء في وقت السَّحَر، توجه به شيخنا بقلبه لربه. إنه وإن لم يحمل سلاحا يجاهد به -مع كونه المخطط الأول لعمليات الجهاد ضد الإسرائيليين- لكنه تمناها وسألها الله بصدق، فاستجاب الله -تعالى- دعاءه، ووهبه عطيته {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
إن شيخنا أدى دوره، ونحسبه ممن ينطبق عليه قول الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}.
درس للقادة والزعماء
إن في استشهاد الشيخ ياسين عِبَرا ودروسا للأمة على كافة مستوياتها:
فهو درس للقادة والزعماء وأصحاب المناصب العلا؛ أن يتذكروا ذلك الشهيد وتضحيته بكل ما يملك، وأنه بذل كل ما استطاع لدينه ودعوته، وهم يمتلكون من الأدوات ما يدافعون بها عن الأمة وكرامتها، وأن يسعوا لإعادة الحق المغتصب، بشيء من الإخلاص لله، ثم الإخلاص لهذه الأوطان التي يقودونها، وآلت إليهم زمام أمورها، بنوع من التخطيط والتفكير، اتقاء ليوم يرجعون فيه إلى الله، {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.
فليتذكر قادة أمتنا ذلكم الرجل المشلول الذي لم يملك سلطة ولا قانونا ولم يقد شعبا كاملا، ولكنه حرك الشعب، وربى وجنَّد كتيبة منهم، نحسبها من أخلص كتائب الجهاد في الأمة، فهل استشهاده سيحرك بقايا الخير في قادة الأمة، أم سينعونه بالكلمات، أم سيصمتون كأن الأمر لا يعنيهم؟
درس لكتائب المقاومة
إن في استشهاد الشيخ ياسين دروسًا لكتائب المقاومة الفلسطينية، من حماس والجهاد وفتح وغيرها، تحميسًا لجند الله أن ينهضوا، جهادا في سبيل الله، عسى الله -تعالى- أن يرزقهم فتحا قريبا، ونصرا مؤزرًا، يعز الله به الإسلام وأهله، ويذل به كل متجبر عنيد.
ونذكر قادة الاستشهاد والجهاد والمقاومة في الأمة، أن دم شيخنا غال وليس بالرخيص، وأن الله -تعالى- قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وإن كان قائد الاستشهاد قد استشهد، فأقل ما يجب أن يغتال قائد الكفر والشر شارون، ليعلم يهود الصهاينة، وصهاينة اليهود أن دم قادتنا ليس هدرا، فخطِّطوا وأخلصوا، فعسى الله أن يقر أعيننا بقتل شارون وعصابته.
درس لرافضي العمليات الاستشهادية
وفي استشهاد الشيخ ياسين وقفة لمن لا يرى جدوى من العمليات الاستشهادية، وأن مائدة المفاوضات هي الحل، فالأمة في حاجة إلى تنوع أشكال الجهاد، فنحن في حاجة للجهاد العسكري، وهو أول لغة يفهمها الإسرائيليون، وفي حاجة إلى الجهاد الدبلوماسي إنْ صاحبه إخلاص لله، ووفاء للوطن، وجهاد فكري وثقافي، وجهاد اقتصادي، فمعركة التحرير لإعادة الأرض المغتصبة لم تنته بعد، وما زالت مستمرة، فواجب علينا أن نوزع الأدوار جهادا في سبيل الله.
درس للسلطة الفلسطينية والفصائل
وفي استشهاد الشيخ ياسين تنبيه للسلطة الفلسطينية، والفصائل الفلسطينية كافة أن تتكاتف فيما بينها، وأن يجتمعوا على كلمة سواء، خدمة لقضيتهم، وأن يتذكروا قول ربنا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}. وأن يضعوا نصب أعينهم قول رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). وليعلم شعبنا في فلسطين -بكافة فصائله واتجاهاته-أن هناك قضايا كثيرة يمكن أن نلتقي حولها، وإن كانت هناك اختلافات في جوانب أخرى، فليكن التعاون في المتفق عليه، مع العذر في المختلف فيه.
درس لحكومات وشعوب العالم
وفي استشهاد الشيخ ياسين درس لمن يزعمون أن إسرائيل تعيش في رعب كما يرى كثير من الأوربيين والأمريكيين، ومن حقها أن تدافع عن نفسها، فهل ستظل المصالح هي الحاكمة في العلاقات بين الشعوب، أم آن أن يأتي اليوم الذي تكون فيه الإنسانية صاحبة كرامة، تدافع عن الحق المغتصب، وتعيده لأهله؟
إن أهل الجاهلية الوثنيين، الذين لم يعرفوا شيئا عن الديمقراطية الغربية، ولم يكن عندهم طغيان في الحياة الاقتصادية من ثراء وغنى فاحش، وامتلاك لأدوات الحضارة، أنشئوا حلف الفضول، لينصروا المظلوم من الظالم، ويعيدوا له الحق المسلوب، ولما أخذ العاص بن وائل تجارة من رجل من أهل اليمن، وصرخ بأعلى صوته من فوق جبل أبي قبيس، هبوا جميعا، حتى أخذوا الحق المغتصب، حتى لا يقال عن العرب: إنهم لا ينصرون الضعيف. ولكن أهل فلسطين صرخوا بدمائهم، وصرخوا بتدمير منازلهم، وأسمعوا العالم كله، ولكن العالم صامت لا يتكلم، عاجز لا يتحرك، وليته وقف عند هذا، بل وقف مع الظالم ضد المظلوم. لَجاهلية العرب القديمة أحب إلى الله -تعالى- من جاهلية القرن الحادي والعشرين، أو سمِّها إن شئت جاهلية الظلم واختلال الموازين.
يا إخوتنا في الإنسانية، نحن اليوم ضعاف، ولكننا لن نبقى هكذا، ولن ننسى لكم أبدا أنكم لم تقفوا معنا، ولم تساعدونا، بل كنتم ظلمة في رأيكم، ظلمة في تعاملاتكم، والأيام دول {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
درس لشباب الأمة
وفي استشهاد الشيخ ياسين درس لشباب الأمة؛ أن يكون الشيخ -هو وأمثاله- قدوة لنا، وأن نقرأ في سيرته، وأن نأخذ من حياته تقويما لحياتنا؛ فقد كان للأمة، مدافعا عن قضيته ووطنه ودينه، فهل سنظل -نحن الشباب- لاهين في حياتنا، غارقين في سباتنا، لا هَمَّ لنا في الحياة، لا ندري من أين جئنا ولا إلى أين المسير، كما هو حال كثير منا؟
إن استشهاد الشيخ ياسين عند عقلاء الشباب -والشيوخ أيضًا- يجب أن يكون نقطة تحول، ودافعا لتصحيح كثير من سلوكياتنا، فإنه رغم عجزه البدني، إلا أنه طلَّق العجز، وتزوج الحماس، فأنجب كتائب عز الدين، مقاومة إسلامية جعلت الله غايتها، والرسول قدوتها، والقرآن شرعتها، والجهاد سبيلها، والموت في سبيل الله أسمى أمانيها.
إننا نتعلم من استشهاد الشيخ أن يكون أحدنا صاحب هدف في الحياة، يسعى لتحقيقه، وأن يقوِّم سلوكه، وأن يؤدي كل منا دوره تجاه نفسه، وتجاه ربه، وتجاه دينه، وتجاه أمته، بل تجاه الإنسانية كلها {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
واجبات عملية
وفي رد فعل لاستشهاد الشيخ الجليل، أرسل لنا الدكتور صلاح الدين سلطان -أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، والرئيس السابق للجامعة الإسلامية الأمريكية- رسالة استنفار، يقترح فيها واجبات عملية، يطالب -على حد قوله- كل ذي عقل ودين وقلب سليم يريد الله والدار الآخرة أن يقوم بها، معتذرًا إلى الله من كل مَن يقعد عن نصرة الأقصى والشعب الفلسطيني.
هذه الواجبات هي:
1- الصوم يومي الإثنين والخميس، والدعاء للشهداء عامة، وللشيخ أحمد ياسين خاصة، والإلحاح على الله بالدعاء أن يهلك شارون وجنده ومن عاونه أو سكت عليه.
2- صلاة الغائب على روح الشهيد بعد صلاة الجمعة الموافق 26/3/2004، مع استحضار روحه المتوثبة التي لم يقعدها الشلل، ولم يضعفها السجن حتى لقي الله شهيدا.
3- التحرك في كل مكان في العالم بعد صلاة الجمعة، وإعلان يوم الغضب على إسرائيل وحلفائها من الحكومات الأمريكية والأوربية.
4- مطالبةالحكام العرب والمسلمين بقطع جميع العلاقات مع العدو الإسرائيلي. وهذا دون الحد الأدنى من الواجب ديانة أو سياسة.
5- مقاطعة جميع السلع الإسرائيلية والدول المعاونة لها؛ مقاطعة شعبية وحكومية.
6- إصدار الفتاوى الشرعية من العلماء والمجامع الفقهية التي توجب على حكام المسلمين فتح باب الجهاد المقدس ضد العدو الإسرائيلي.
7- حث الأحرار في العالم على أن يعلنوا وقفتهم الشجاعة ضد الإرهاب الإسرائيلي، في قتلهم الشيوخ والأطفال والنساء والشباب، وتجريف الأرض، مما يعد سببا مشروعا دينا وقانونا للرد بالمثل على هذا المعتدى.
رحم الله شيخنا الجليل، وتقبله في الشهداء.
(ü) الباحث الشرعي بموقع إسلام أولاين