في الماضي، أدت نظريات “هوية” الإنسان مثل “الدارونية الاجتماعية” و”التقسيمات العرقية” و” الأديان القائلة بطبقية الخلق” إلى ظهور سياسات الصراع والبقاء للأقوى، والغزو، والاستعمار، وظهور ممارسات التسلط الطبقي، وعدم المساواة، والرق، والاستئثار بمصادر العيش. وجميع هذه التطبيقات مازالت تهيمن على السلوك البشري والعلاقات بين الأفراد والجماعات والشعوب ،تملأ حياتهم بالقلق والاضطراب والشقاء والمآسي.
كذلك أدت صعوبة المواصلات وقصر مسافات السفر، وضيق دائرة الحركة ـ في الماضي ـ إلى ظهور الحدود الإقليمية والقومية. فكان الإنسان لا يتحرك في الغالب إلا داخل حدود الإقليم، وكان الفرد يجد في المجتمع القائم على انتماءات الدم والعصبيات القبلية والإقليمية والقومية ما يشبع حاجته في الانتماء. ولذلك كانت هذ ه الانتماءات هي المصادر الوحيدة لتحديد “الجنسية” وبلورة “الثقافة”. فكانت الإقامة الدائمة والتواصل الدائم يوفران نوعا من القيم المحلية التي يمكن أن نسميها “قيم المصانعة”، وهي قيم تقوم على خجل الناس بعضهم من بعض، ومراعاة شؤون بعضهم بعضا، والتردد عن الإساءة لبعضهم بعضا، فإذا اشتدت الخلافات وانفجرت الخصومات كان للقيم المذكورة دورها في إصلاح العلاقات وترميمها. وهكذا تطور نوع من الثقافة والعادات والتقاليد التي تسهم في انسجام الأذواق محليا، وبذر بذور الخلاف عالميا.
ثم جاء العصر الحاضرـ عصر التكنولوجيا وقرية الكرة الأرضية ـ فأفرز ظاهرتين فريدتين..
> الأولى : تزويد الإنسان بأدوات فاعلة يمكن استعمالها للدفاع عن الإنسان وبناء حياته، أو لفناء الإنسان وتدمير مقومات حياته. والإيمان بالله هو العامل الحاسم في أحد الاستعمالين.
>والظاهرة الثانية : هي انهيار الحدود بين الأقطار والقوميات والثقافات، وتفتت القبائل والعائلات، ووهنت روابط الدم والإقليم إلا في أماكن معزولة ومواقف هشة متسارعة الانهيار والانحسار، ودخلت المجتمعات البشرية في طور جديد تتميز الحياة فيه بالإقامة الموقوتة والجوار الموقوت، وانقلب التجانس الثقافي إلى “خلطة” مضطربة من الثقافات والتقاليد والعادات والقيم في المدينة الواحدة، وأحيانا في البناية الواحدة، مما ساعد على تمزق الروابط القائمة، وتنافر الأذواق والتوتر في العلاقات في المواقف المختلفة، ووجد الإنسان المعاصر نفسه يعيش في تجمعات وأكوام بشرية مجردة من الروابط والانتماءات، إلا ما كان من روابط المصالح المتذبذبة والشهوات الآنية الموقوتة.
ولقد أفرزت هذه التغيرات المضطربة أزمات ثلاث.. الأولى : عدم ملاءمة “الهوية” الشائعة عن الإنسان. والثانية : عدم ملاءمة “الجنسية” المحلية التقليدية. والثالثة : انهيار نظم “الثقافة والقيم” المحلية القديمة.
أما عن الأزمة الأولى : فإن “الهوية” التي طرحتها ـ ومازالت تطرحها ـ الدارونية الاجتماعية للإنسان والقائمة على أن البقاء للأقوى، قد بررت عمليات القتل والجريمة سواء بين الأفراد والطبقات داخل كل مجتمع، أو بين المجتمعات والمجتمعات الأخرى. ولا تقتصر مضاعفات هذه “الهوية” على شعوب العالم الثالث المتخلف تكنولوجيا، وإنما تشمل العالم المتقدم تكنولوجيا، ويتفوق في أدوات القتل والدمار. فالأفراد “الأمريكيون والأوربيون” الذين يحاربون “الأسيويين والأفارقة” في جيوش تستولي على مصادر الثروة والطاقة، هم أنفسهم الذين يعودون إلى بلادهم ليقتل بعضهم بعضا من أجل ما في جيوبهم من جنيهات ودولارات.
وأما عن الأزمة الثانية : فقد تحولت الجنسية المحلية إلى قيد خانق لحرية الفرد في التعبير والاختيار في الداخل، وحريته في التنقل والعمل والإقامة في الخارج.
ففي الداخل قامت علاقات “الجنسيات”المستمدة من العصبيات العائلية والإقليمية والقومية على أساس هيمنة عصبية معينة على بقية العصبيات، والاستئثار بالجاه والتملك، مما تسبب في ظهور علاقات الريبة، وعدم الثقة، والخوف، والتآمرـ وقيام المؤسسات البوليسية،ودوائر التجسس، والمخابرات، لتقصي نشاطات خصوم العصبيات الحاكمة، ومجابهتها.
وفي الخارج اشتعلت الصراعات الدولية، وقامت علاقات الدول على المخادعة والتجسس والتآمر، ثم الانتهاء إلى الصراع المكشوف، والانفجارات العسكرية المدمرة.
وفي المجال الاقتصادي أشاعت “الجنسيات” المستمدة من العصبيات العائلية والإقليمية والقومية، الاحتكار والترف في ناحية، والحرمان والفقر في ناحية أخرى وتسببت بظواهر الاستعمار والعدوان، ونهب ثروات الشعوب، في الوقت الذي تضع الدول المستعمِرة الحواجز والعراقيل، وقوانين السفر والإقامة، التي تمنع أصحاب “الجنسيات” المستعمَرة والمغايرة، من المساواة في فرص الإقامة ومصادر العيش الكريم.
لهذا كله صارت المجتمعات المعاصرة بحاجة إلى مفهوم جديد في “الجنسية” مفهوم لا تتحكم به عصبيات عرقية أو إقليمية أو مصالح مادية. ومن الإنصاف أن نقول : إن شعوب أوربا وأمريكا قد نزعت عن “الجنسيات” فيها قيود السفر والعمل والإقامة وأحالتها إلى مجرد أدوات ل “التعارف”، تماما كما يوجه إليه قوله تعالى : {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}(الحجرات : 13)، بينما يستمر”فقهاء السلطة” يسهمون في تعزيز سجون “الجنسيات” العصبية وقيودها ومضاعفاتها التي أدت إلى وفاة الأمة الإسلامية ومزقتها في الأرض كل ممزق.
وأما عن الأزمة الثالثة : أي انهيار نظم “الثقافة والقيم” المحلية القديمة فقد صار الإنسان المعاصر يعاني مما يسميه علماء الاجتماع وعلماء النفس : الإحباط وخيبة الأمل Frustration، والإحساس بالاغتراب Alienation، والشعور بالضعف Powerlessness، والمعاناة من عدم الانسجام ومظاهر الشذوذ في الحياة والسلوك Normlessness.
ولقد حل محل القيم المحلية المنهارة قيم جديدة يمكن أن نسميها ـ قيم المصلحة ـ وهي قيم تشبه مناديل الورق، التي يستعملها الإنسان للحظات أو دقائق ثم يلقي بها في سلة النفايات وبراميل القاذورات. لذلك أصبح المجتمع المعاصر يعاني من مظاهر التفكك والانحلال واللامبالاة وانهيار الصداقات والعلاقات، دون أن يحسب الناس لبعضهم بعضا كبير حساب.
لهذا كله صارت المجتمعات المعاصرة بحاجة إلى مفهوم جديد في “الثقافة والقيم” التي توفر للإنسان حاجاته في الانتماء والتقدير أينما حل وأقام، وتوفر له الأمن والاستقرار أينما سافر وعمل.
ولكن الحلول التي يطرحها المختصون لأزمة “الثقافة والقيم” مازالت حلولا متخلفة قاصرة، بل إن بعضها ليزيد الطين بلات، والويل ويلات. ومثال ذلك ما يقترحه ـ ألفن توفلر Alvin Tofflerأحد مشاهير المفكرين المستقبليين Futurists في كتبه المختلفة، مثل كتاب : ـ صدمة المستقبل Future Shockـ الذي طبع في سنة واحدة تسع طبعات بلغ عددها 27 مليون نسخة، كما ترجم إلى عدة لغات وما زال يطبع ويترجم بنفس الكثافة والانتشار.
لقد عالج ـ توفلرـ التغيرات الكاسحة التي تحدثها التكنولوجيا في شبكة العلاقات الاجتماعية على المستويات المحلية والعالمية، واجتهد أن يضع شبكة علاقات جديدة لمجتمعات المستقبل. ولقد كان في تشخيصه دقيقا عميق الحس؛ فهو مثلا يذكر أن التكنولوجيا الحديثة حولت المجتمعات الحديثة إلى من أسماهم ـ البدو الجدد
mads TheNewNoالذين يركبون الطائرات بدل الجمال، وينزلون في المطارات بدل المضارب، وينامون في الفنادق بدل الخيام، ويحملون الحقائب بدل ـ الأخراج والأكياس ـ وكذا… وكذا…
ولكن معالجاته وحلوله جاءت بالطامات الكبرى. فهو ـ مثلا ـ يقترح “النسبية المطلقة” في القيم والأخلاق والسلوك، ويدعو إلى تبرير جميع ألوان الشذوذ والانحراف، وتدمير الأسر، والروابط الاجتماعية، وإلى إيجاد مؤسسات الأمومة، وتفريخ الأطفال بالجملة، والزواج المؤقت، واستئجار الأرحام، وبيع النطف، والسماح بالأسر التي يكونها ذوو الشذوذ الجنسي، وبالصداقات الموقوتة، على أن يكون المحور الذي تدور في فلكه كل هذه الظواهر المقترحة هو توفير الطاقات العاملة لمراكز الإنتاج والعمل (1).
ولو تعدينا ـ ألفن توفلرـ إلى غيره من مشاهير المفكرين من أمثال : ثيودور روزاك، ودانيال بل، وفرتز شوماخر، وديفيد بربل، ورينه دوبو، لوجدنا أيضا أن إبداعاتهم تقف عند تشخيص الأزمة القائمة في “الثقافة والقيم”. أما المعالجة والحلول فلا تتعدى صيحات التحذير، واستنفار المختصين، والدعوة إلى تضافر الجهود، للبحث عن شبكة علاقات اجتماعية جديدة، مع مراعاة الانفتاح على ثقافات العالم كله، والاستعداد لتقبل البديل المنقذ المناسب (2).
وهناك فريق ثالث يحمل اسم ـ الواقعيين ـ, وهؤلاء يبررون الصراعات الداخلية والحروب الخارجية على أساس أن الحياة تنظمها قوانين البقاء للأقوى أو ما يسمى ب”الدارونية الاجتماعية”. وهذه فلسفات تبرر عمليات الصراع والقتل والتدمير وترك الإنسان المهزوم لمصيره في الهلاك، إذا نزلت به الكوارث العسكرية والطبيعية والأزمات الاقتصادية (3).
وحين نمعن النظر في الخارطة الفكرية للعالم المعاصر : عالم قرية الكرة الأرضية الذي استحالت فيه القارات إلى حارات، والأجناس إلى عائلات، والأقطار إلى بيوت، لا نجد منقذا إلا أن تتوجه البشرية إلى عنصر الإيمان بمفهومه الإسلامي لتستمد منه “هويتها” و”جنسيتها” و”ثقافتها”، وليمدها بقيم التقوى التي تلازم البدو الجدد-حسب تسمية الفن توفلر- أينما رحلوا وأينما حلوا، وتشدهم إلى قوة أعلى هي معهم أينما كانوا، تراقبهم ويراقبونها، ويحسبون حسابها أينما كانوا؛ قوة الله القائل : {وهو معكم أينما كنتم} (الحديد : 4)، {و نحن أقرب إليه من حبل الوريد} (ق : 16)
………………………………….
(ü) عنوان كتاب الأمة رقم 30 من تأليف د. عرسان الكيلاني.
1- 262-95 Shock PP Futuer, Toffler Alvin
2- راجع ـ فلسفة التربية الإسلاميةـ للمؤلف : ص 57 ـ 63، 258 (طبعة ثانية).
3- راجع ـ أهداف التربية الإسلامية ـ للمؤلف، ص 269ـ 271.