{خروا سجدا وبكيا}


قال تعالى : {أولئك الذين أنعم الله عليهم من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح، ومن ذرية إبراهيم وإسماعيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا}(مريم : 58).

السجود لله، والبكاء من خشية الله خصلتان من خصال أهل الله، ومفتاحان من مفاتيح جنة الله، وطريقان إلى رضوان الله، فالزمهما، واحمل نفسك عليهما، تكن في الدنيا من السعداء وتنعم في الآخرة بجوارالنبيئين والصديقين والشهداء.

في هذه الدنيا يتقرب كثير من الناس من أرباب الأموال، وأصحاب الجاه والسلطان، أما أنت، أنت بالذات، فإني أريدك أن تتقرب من الغني الذي لا تنفد خزائنه، والملك الذي لا يعجز سلطانه : من الله جل جلاله، مالك الملك، الذي يوتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بحكمته. وإنما هما خطوتان. أرجوك أن تخطوهما، ثم بعد ذلك تكون قد وصلت، وما أنا عليكبمثقل ولا مكثر.

>  أما الخطوة الأولى التي أنصحك بها، وأدعوك للبدء بها هي كثرة السجود، فإن كثرة السجود تجعلك قريبا من مولاك جل وعلا، وانظر معي كيف جمع القرآن الكريم بين السجود لله، والقرب من الله، فبقدر ما يسجد العبد لربه بقدر ما يتقرب منه، قال تعالى : {واسجد واقترب} (العلق : 20)، اجعل هذه الآية من سورة العلق شعارك، فإنك كلما سجدت كلما اقتربت، فاقترب ما استطعت، فأنت في تَرَقٍّ مستمر، وصعود متواصل، وأنت على طريق المقربين من عباد الرحمان وأوليائه {وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما} (الفرقان : 63- 64) وها هو سيد الخلق، وحبيب الحق  يخبرك بما يشد عزيمتك، ويقوي إرادتك فيقول : >أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد<(رواه مسلم) فإذا سجدت وسجدت، فمعنى ذلك أنك بلغت في القرب من الله مبلغا عظيما.  فيا لسعادتك، هنيئا لك التوفيق. جاء ربيعة بن كعب الأسلمي إلى النبي  بوَضُوئه وحاجته، فقال له النبي  : >سل< فقال ربيعة : أسألك مرافقتك في الجنة، فقال  : >أو غير ذلك؟< قال ربيعة : هو ذاك قال  : >فأعني على نفسك بكثرة السجود<(أخرجه مسلم).

> وأما الخطوة الثانية التي أنصحك بها بعد كثرة السجود فهي البكاء من خشية الله، فإنك متى أكثرت السجود لله رق قلبك، فسالت عبرتك، وتتابعت دمعتك، وكنت سائرا على خطى النبي  الذي كان يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وعلى خطى صاحبه الصديق الذي كان لا يكاد يُسْمِعُ الناس في الصلاة من البكاء… ومتى كنت كذلك، فأنت بفضل الله من الفائزين والسعداء.

ولذلك فإني أقول لك : ابك، فإن الله لا يعذب عينا بكت من خشيته، فلقد قال رسول الله  : >عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله<. وعن أبي هريرة ] قال قال رسول الله  : >لايلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع…<(رواه الترمذي) وهو لا يعود.

ابك، فإن البكاء من خشية الله صفة من صفات العارفين، وخصلة من خصال المقربين، واعلم أنك متى بكيت من خشيته أظلك بظله يوم لا ظل إلا ظله. قال  : >سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله….. ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه<(أخرجه البخاري ومسلم).

ابك على خطيئتك، وابك على تقصيرك، وابك على قلة زادك وقرب معادك وإلا فابك على نفسك، وعز نفسك في نفسك قبل أن يعزيك المعزون، وابك على مصيبتك قبل أن يبكيك الباكون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

لكن، لا تيأس، وحاول مرة أخرى، ثم زد في السجود، ثم حاول مرة بعد مرة، فلعلك ستبكي يوما طالما أنك تكثر السجود، فإنهما لا يفترقان غالبا.أعني كثرة السجود والبكاء، ولا تكن من الغافلين، وهنا أريد أن أذكرك بموقفين من مواقف العارفين :

1- أولهما لك ولعامة الأمة وهو أن عبد الرحمن بن أبي ليلى قرأ سورة مريم حتى  انتهى إلى السجدة {خروا سجدا وبكيا} فسجد بها، فلما رفع رأسه قال : هذه السجدة سجدناها فأين البكاء؟ (1).

فهو لما لم يبك تساءلـ واستغرب وتعجب، إنهما أمران : سجود وبكاء، وهذا الأول فأين الثاني؟ لقد بدأ وسيصل، لأنه لم ينس البكاء ولم يغفل عنه، فهل بدأنا نحن؟

2- ثانيهما لك ولعلمائنا خاصة، وهو أن عبد الأعلى التيمي قال : من أوتي من العلم ما لا يبكيه، فليس بخليق أن يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله تبارك وتعالى نعت العلماء فقال :{إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى  عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} (الإسراء : 107- 109)(2).

———-

1- 2-  فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>