بـيان حـقـيـقـة بشأن تصحيح مفهوم مصطلح (الإرهاب) في المرجعية الأصيلة للغة العربية والقرآن
لا شك في أن خاصة المسلمين وعامتهم مأمورون ببيان الحق شرعا بنص القرآن والسنة النبوية ، ولا شك في أن هذا الأمر -أمر وجوب لا أمر تخيير- فإذا كان المسلم قادرا على البيان صار الأمر أوجب، أما إذا كان السكوت عن الحق يفضي بالناس كافة إلى فتنة شاملة ماحقة، فإن الساكت عن الحق لن يكون شيطانا أخرس فحسب، بل سوف يكون أخطر من كل أسلحة الدمار الشامل الحاضرة والغائبة.
لذلك شدد الله الوعيد بالعقوبة -وليس كاللعنة الشاملة الطاردة من رحمة الله عقوبة أشد- على من كتم الحق ولم يبينه للناس ، تشديدا لا مزيد بعده، فقال ، وهوالحق وقوله الحق، في القرآن المنزل وحيا من عنده على الناس كافة : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ؛ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا، فأولئك أتوب عليهم ؛ وأنا التواب الرحيم}( البقرة : 159- 160).
بناء على هذا الأساس الواضح المتين ، وبعد أن انتظرت طويلا أن يتصدى لهذا الأمر الجلل من هوأعلم وأقدر مني عليه ، فلم ينبر أحد لتحمل هذه المسؤولية ، ولم يزدد الخطأ في استعمال مفهوم المصطلح العربي الإسلامي ( إرهاب ) إلا انتشارا وتأثيرا سيئا في سلوك بعض الأفراد وبعض الجماعات من المسلمين ومن غيرهم ،خشيت أن أكون من أكبر الآثمين بكتمان ما ألهمني الله إياه من فهم صحيح وتأصيل لغوي شرعي لهذا المصطلح.
وقد شد عضدي وزادني إصرارا على تعميم هذا البيان على الناس كافة بلغته الأصلية العربية، ومترجما إلى الفرنسية والإنجليزية ، ما أعرب عنه بعض العلماء الأجلاء من إشادة بهذا التأصيل، عندما استمعوا إلى العرض الذي ألقيته بهذا الصدد في ملتقى ” حوار الحضارات “بنادي الفكر الإسلامي بالرباط، في محور” أثر الترجمة في حوار الحضارات ” وتحت عنوان: (عندما تنحرف الترجمة بالحوار عن مساره إلى أوخم العواقب : مصطلح “الإرهاب” نموذجا) ،
وإني ، بدوري ، أشيد بهؤلاء العلماء الفضلاء الذين أعربوا عن تواضعهم الجم للحق ، وإكرامهم لمن أدى حقه ببيانه للناس كما أمر الله رب العالمين ،وأخص بالذكر منهم العالم الجليل الأستاذ الدكتور إدريس لكريني الباحث المتخصص في مسألة (التيروريسم) Terrorisme Le، فقد فاق تواضعه للحق كل المدى إذ أعلن أمام الملإ- وهويعقب على العرض – أنه لم يكن يدرك المفهوم الصحيح للإرهاب في مرجعيته اللغوية العربية ومرجعيته الإسلامية قبل الاستماع إلى العرض- وأنه -بناء على هذا الفهم الأصيل المقنع- سوف يعيد النظر في كل ما كتبه من أبحاث حول ( الإرهاب ) بمفرده أوبالاشتراك مع غيره ، ونشره على عدد من المنابر الثقافية والإعلاميةمثل : مجلة ” المستقبل العربي ” وصحيفة “القدس العربي” وجريدة “الاتحاد الاشتراكي”،، وغيرها.
فجزى الله هذا العالم الفذ وكل العلماء على ما أسدوه للعلم من اعتراف بالفضل لأهل الفضل، وما الفضل إلا من عند الله ؛ فهوذوالفضل والنعمة، يؤتي الحكمة من يشاء، فشكرا له حتى يرضى، وليس هذا تزكية للنفس ، وإنما هوتحديث بنعمة الله {وأما بنعمة ربك فحدث}، وهوأيضا اعتراف بالفضل لأهل الفضل من العلماء الأجلاء ، وشكر لهم، واجب أداؤه شرعا (من لا يشكر الناس لا يشكر الله ).
وتجدر الإشارة ، قبل الخوض في تصحيح مفهوم المصطلح العربي ( إرهاب ) ، إلى أن المفهوم الخاطئ الذي انتشر استعماله بكثافة وتركيز شديد في وسائل الإعلام ، وعلى ألسنة معظم العلماء والأدباء والمفكرين المسلمين أنفسهم، قد أفضى بكثير من الشباب المسلم المتحمس غير المتفقه في الدين، إلى تبني هذا الخطإ الفادح كأساس لمفهوم فريضة الجهاد ، فزاد ذلك من انتشار ظاهرة العنف المناقض لسماحة الإسلام ورحمة الله التي وسعت كل شيء من إنسان وحيوان ونبات وجماد، ولا شك في أن وزر نتائج هذه الممارسات المنحرفة الخطيرة لا يتحمله الشباب المسلم المنحرف وحده، ، بل إن العلماء الذين لم يبينوا للناس وجه الحق ناصعا كما بينه الله في القرآن، ليتحملون منه القسط الأوفر ،
وإليكم الآن بيان تصحيح مفهوم المصطلح:
معنى “الإرهاب” كما يجب أن يفهم من “آية الإرهاب”
1- لماذا حدث الخطأ في ترجمة المصطلح الغربي “Terrorisme” إلى العربية؟
أ- لأن مجامع اللغة العربية أربعة يوحدها الافتراق ويفرقها الاتحاد، ولا سلطة لها على الاجتهادات الفردية، وليست لها استراتيجية لغوية تراعي كل المستجدات الطارئة ذات الأبعاد الدينية والقومية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وخير دليل على صحة هذا الأمر هوصدور تعريفين اثنين للإرهاب في آن واحد عن مجمعين إسلاميين اثنين، كل منهما يعتبر نفسه أعلى مؤسسة دينية ناطقة باسم الإسلام والمسلمين في العالم!
ب- لأن معظم الباحثين اللغويين العرب المعاصرين لا يكلفون أنفسهم عناء البحث المتأني العميق في أصول تراث اللغة العربية وعرضه على محك القرآن الكريم وتحري ما يناسب اللفظ الأجنبي تماما من الألفاظ العربية قبل العدول في نهاية مطاف البحث الجاد الشامل عن الترجمة إلى التعريب.
جـ- لأن هذه الفوضى هدمت معظم حصون اللغة العربية، ومكنت أعداء الأمة من العبث بلغتها وتحميل ألفاظها ومصطلحاتها ما لا تحتمله، وهذا ما أغرى الأعداء بمحاولة هدم القرآن الكريم آخر وأهم حصون هذه اللغة.
د، لأن المشتغلين بالترجمة لم يعتبروا مهمتهم واجبا شرعيا لا يتحقق على الوجه المحمود إلا إذا وافق روح القرآن الكريم، المرجع الأساسي الأوثق لهذه اللغة ؛ وأن التعريب في بعض الأحوال أحوط من الترجمة، وأعتقد أن كتاب الله الحكيم المنزل باللسان العربي المبين لا يتضمن كلمات مترجمة بل كل ما فيه من كلمات أجنبية معرب إلى حد تماهيه مع العربية الأصيلة !
2- لماذا الإصرار على هذا الخطإ ؟
أ- لأن الوهم هيمن على الحقيقة والغفلة حارسه اليقظ، فكل من يتحدث عن الإرهاب يتوهم أنه يتحدث عن “الترورسم”، حتى ولوعبر عنه بلفظ عربي لا علاقة له به!
ب- لأن الخشية من بطش أمريكا الصليبية الصهيونية صار هاجسا قويا لم يسلم من تأثيره حتى بعض العلماء الذين صاروا يضربون صفحا عن الاستشهاد بآية الإرهاب {ترهبون به عدوالله وعـدوكم}، ومن اضطر إلى الاستشهاد بها كما حدث لبعضهم في أحد البرامج التلفزية المباشرة تحت ضغط أسئلة بعض المشاهدين وتدخلاتهم ذكرها مبتورة وكأنه يتستر على كلمة “ترهبون” لنفي التهمة عن القرآن حتى لا تلصق به التهمة هوأيضا بالتبعية !
3- كيف يجب تصحيح هذا الخطإ ؟
أ- يجب أن يلتزم جميع العرب والمسلمين بالعدول عن استعمال مصطلح “الإرهاب” العربي بحمولته الغربية الغريبة الدخيلة في كل مجالات الإعلام والكتابة والتأليف ؛ وأن يستعملوا بدلا عنه المصطلح الإسلامي الأصيل “الحرابة” و”حرابي”، وأفضل من ذلك أن يستعملوا المصطلح الغربي “Terrorisme” بصيغته الأصلية معربا : “ترورسم”،
ب- يجب إعادة النظر في كل المعجمات اللغوية العربية سواء ما كان منها مختصا باللغة العربية منفردة أومزدوجة، وتصحيح الخطإ بإرجاع الأمور إلى نصابها على أساس من القرآن الكريم والمراجع اللغوية العربية الأصيلة القديمة المعتبرة وأن تجمع هذه المصطلحات المصححة في معجم خاص بعنوان : “معجم المعاني الدخيلة على المصطلحات العربية الأصيلة”، على غرار “معجم الأخطاء الشائعة” و”معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة” للأديب الشاعر والباحث اللغوي الفذ محمد العدناني ؛ و”معجم الخطأ والصواب في اللغة” للدكتور إميل يعقوب،
ولا شك في أن هذه الحركة التصحيحية قديمة قدم اللغة العربية، خاصة بعد انتشار الإسلام بين غير العرب، وهي حركة لا مسوغ لتوقفها أبدا، بل إن مواكبتها لتطور اللغة العربية في الزمان والمكان ليعتبر واجبا شرعيا على العلماء والأدباء والمفكرين المسلمين، بأدائه يصان القرآن الكريم من عبث العابثين، وتفهم معانيه على وجوهها الصحيحة،
جـ- يجب إشاعة المفهوم القرآني الصحيح لمصطلح “الإرهاب” في كل وسائل الإعلام وكتب التربية والتعليم، وفي بعض النشرات المجانية، وهذا أضعف الإيمان، في مواجهة الهجمات الشرسة التي يتعرض لها الإسلام وأهله سرا وعلنا وبلا هوادة،
د- يجب تصحيح كل المفاهيم الخاطئة المقحمة على المصطلحات العربية الإسلامية التي لها صلة بمصطلح الإرهاب مثل “الأصولية” و”السلفية” و”الجهاد”، وقد بدأ هذا العمل الجليل الدكتور محمد عمارة بكتابه “معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام”، فجزاه الله عن الإنسانية خيرا.
4- ما هوالمعنى الصحيح للمصدر “إرهاب” ومشتقاته في القرآن الكريم ؟
إن المتصفح للمصادر اللغوية القديمة المعتبرة كلسان العرب والقاموس المحيط وأساس البلاغة ومعجم مفردات القرآن الكريم وغيرها، لا يجد أثرا للمعنى الغربي الدخيل على مادة “رهب” الذي تبنته المعاجم العربية المتأخرة دون أي تمحيص ؛ إذ المعنى العربي الأصيل ينحصر ما بين خشية الله والخوف الغريزي من احتمال وقوع الأذى ، أوبعبارة أخرى ما بين “الرهبانية والرهبة”، وعلى هذا الأساس يكون معنى “الإرهاب” هوالتخويف من احتمال وقوع الأذى لا التخويف بإيقاع الأذى ! وبالتالي فالقوة التي يجب إعدادها “للإرهاب” هي قوة ردع لدرء أي هجوم محتمل من العدو،
وبيان ذلك بالتفصيل كما يلي :
يقول الله ـ عز وجل ـ في “آية الإرهاب” من سورة الأنفال :
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}،
تتضمن هذه الآية التي آثرت أن أسميها “آية الإرهاب” ثلاث معادلات هي :
المعادلة الأولى :
إعداد القوة الرهيبة +رباط الخيل = القوة الرادعة.
ورباط الخيل أيضا ليس إلا جزءا متميزا من الإعداد، والهدف من الإعداد هوتحقيق القوة الرادعة لأي هجوم محتمل لا القوة البادئة بالهجوم،
المعادلة الثانية :
القوة الرادعة + مخافة الله = الإرهاب
فالهدف من الإرهاب هووجوب اقتران مخافة الله بالقوة الرادعة لتحقيق العدالة والرحمة بين الناس كافة بالضرب على أيدي الظالمين المعتدين على أنفسهم إذا ما تعدوا حدود الله، وإن لم يكن ذلك كذلك فكيف نفسر أمره سبحانه في قوله : “وإياي فارهبون”، وإذا كان الله يرهب عباده، فهل هو”إرهابي” بالمفهوم الأمريكي ، يجب إعلان الحرب عليه وعلى رسوله محمد ؟!
المعادلة الثالثة :
الإرهاب + رحمة الله = السلام
الناس ليسوا سواسية في تقدير الحق واحترامه، وليسوا ملائكة معصومين، إنما هم بشر يصيبون قليلا ويخطئون كثيرا، ونوازع الشر فيهم أقوى من نوازع الخير، ولوطبق المسيحيون أنفسهم قول نبي الله عيسى عليه السلام : “إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فسلم له خدك الأيسر، وإن أخذ منك القميص فزده المعطف” لأكل بعضهم بعضا، لذلك كان من رحمة الله الواسعة بعباده أن يسخر للحق جنودا أقوياء يردون الناس إلى جادة الصواب لتجنيبهم عواقب انحرافاتهم الوخيمة، وبنى تحقيق السلام على أركان الرحمة الخمسة :
1- البيان والتبليغ :
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}(النحل : 44).
2- التخيير :
{لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويومن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم}(البقرة : 256).
3- الردع :
{ تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون }(البقرة : 229)،
{ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه }(الطلاق : 1).
4- الجهاد :
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين}(البقرة : 190).
5- المهادنة أوالتوبة والصلح :
{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هوالسميع العليم}(الأنفال : 61).
الحدود القرآنية لمفهوم مصطلح “الإرهاب”
يقول الله ـ عز وجل ـ في “آية الإرهاب” من سورة الأنفال :
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم؛ وأنتم لا تظلمون }(الأنفال : 60)،
فالعناصر التي تتكون منها هذه الآية تسعة، وهي على التوالي كما وردت في القرآن الكريم :
1- الإعداد
2- الاستطاعة
3- القوة
4- رباط الخيل
5- الإرهاب
6- عدوالله
7- عدوالمؤمنين
8- أعداء آخرون يعلمهم الله
9- الإنفاق في سبيل الله
وعند التمعن في هذه العناصر يتبين لنا ما يلي :
أ- لفظة “الإرهاب” محاصرة ما بين أربعة عناصر من الأعلى وأربعة عناصر أخرى من الأسفل.
ب- عنصرا “الاستطاعة” و”القوة” محاصران ما بين عنصري “الإعداد” و”رباط الخيل”.
جـ- “الاستطاعة” مفتوحة على جميع الواجهات، تستغرق الماضي والحاضر والمستقبل.
د – “القوة” لا حدود لها، ولذلك جاءت في صورة نكرة مسبوقة ب (من) التبعيضية، وكذلك “رباط الخيل”.
هـ- “رباط الخيل” يدل على الإعداد والاستعداد، ولا يحتمل مفهوم الهجوم، لأن الإعداد أصلا موجه إلى الردع فقط من أجل منع الخصم من التفكير في الإقدام على الاعتداء نظرا لوجود القوة المضادة المستعدة لدحره، وهذا هومفهوم “الإرهاب” الحقيقي : “الإرهاب في المفهوم القرآني الأصيل المحكم هومجرد إعداد القوة العادلة الرادعة دون اللجوء إلى استعمالها إلا في حالة الاضطرار القصوى عندما تسول للعدو نفسه المغرورة الأمارة بالسوء أن يعتدي على المستأمنين، فيكون في الوقت نفسه معتديا على نفسه، والاعتداء على النفس في حد ذاته تعد لحدود الله : “ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه”. وهنا ينتهي الحد الأول لمفهوم الإرهاب.
و، أما الحد الثاني لمفهوم “الإرهاب”، فيتكون هوأيضا من أربعة عناصر تتأكد من خلالها مواصفات الأعداء الذين يجب الإنفاق في سبيل الله من أجل إعداد القوة لردعهم نفسيا ومعنويا قبل كل شيء دون استعمال أي سلاح مادي، وهذا ما كان حاصلا قبل انهيار المنظومة الشيوعية، ما بين “الاتحاد السوفياتي” و”الولايات المتحدة الأمريكية”، فكلاهما كان يعلم أن صاحبه قد أعد لردعه ما لا قبل له به من قوة ظاهرة وخفية، فتحولت الحرب من جراء ذلك الاستعداد المتقابل من حرب ساخنة إلى حرب باردة حسم أمرها الجواسيس والعملاء.
ومن الجدير التنبيه إلى أن عدوالله هوأول من يجب الاستعداد والإعداد لإرهابه وردعه، لأن عدوالله لاشك في أنه عدولنفسه قبل أن يكون عدوا لغيره. والله لا يريد ظلما للعباد، ولذلك سخر بعضهم لبعض وسلط بعضهم على بعض كي تتحقق قاعدة الفتنة الربانية، فينجومن نجا عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، من البشر كافة ، وليس من المسلمين خاصة ؛ لأن الإسلام دين الإنسانية كافة : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
ولقد جرت العادة على أن لا يستشهد المسلمون في سياق الحديث عن إعداد القوة بآية الإرهاب إلا منفصلة عن سياقها القرآني العام في السورة نفسها، وربما اقتصر بعضهم في أحيان كثيرة على ذكر الجزء الأول منها فقط {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}،
والحقيقة هي أن المعنى الدقيق للفظة “الإرهاب” الواردة في هذه الآية لا يمكن تحقيقه بخصوصيته وعموميته معا إلا داخل سياقالآيات الإحدى عشر من الآية 55 إلى الآية 65 من سورة الأنفال، فمن خلال هذه الآيات تتحدد بوضوح الأسباب الوجيهة لإعداد القوة الرهيبة من أجل إرهاب الأعداء على أساس خمسة أركان، بها وحدها يتحقق السلام في العالم :
> الركن الأول :
إن تكرار الأعداء لنقض عهود الصلح أوالهدنة التي عقدوها مع المسلمين لهو دليل قاطع على أن هؤلاء الأعداء لا يوثق بهم ولا يؤمن جانبهم أبدا، خاصة وأن النقض لم يتكرر مرة أومرتين فحسب بل هويتكرر في كل مرة، ومن المعقول إذا أن يؤدي هذا النقض المتواصل للعهود بالمسلمين إلى انعدام ثقتهم، وإلى خوف مستمر من احتمال وقوع خيانة الأعداء لهم ومباغتتهم بالاعتداء عليهم، ولذلك فمن حق المسلمين أن يردوا على نقض العهد بالمثل وأن يعدوا العدة الكافية لردع أعدائهم،دفاعا عن أنفسهم وعن عقيدتهم. (الآيات : 55 -58).
> الركن الثاني :
بعد أن أدان الله أعداءه وأعداء المؤمنين، وخول للمسلمين حق الرد بالمثل، طمأنهم وبشرهم بأن الله معهم، وبأن الكفار الذين كفروا بالله ونقضوا عهودهم (ونقض العهد في حد ذاته كفر بالعهود)، لا يعجزون الله أبدا مهما تجبروا واغتروا بما حققوه من أغراضهم الدنيئة، بمبادرتهم إلى نقض العهود وخيانة المسلمين.(الآية 59)،
> الركن الثالث :
لا شك في أن الله لا يعجزه شيء أبدا، لكن حكمته ـ سبحانه وتعالى ـ تقتضي من المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب وفق سنة الله التي لن تجد لها تحويلا ولا تبديلا، ومن مقتضيات هذه السنة في هذا المقام، أن يبادر المسلمون كافة إلى امتلاك ناصية القوة الروحية والمعنوية والمادية بأقصى ما يمكنهم من الإنفاق والجد والاجتهاد، لتحقيق سلام الله في الأرض، ليس من أجل المسلمين فحسب ، بل من أجل الناس كافة على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وعاداتهم وعقائدهم ، ومن أجل كل مخلوقات الله في الكون من حيوان ونبات وجماد أيضا،فالكل قد أصبح مهددا بالدمار الماحق في هذا العالم المفتون، على يد رجل واحد مجنون تقمص كل شخصيات أعداء الإسلام التقليديين، وراح يقودهم جميعا إلى حتفهم وهو يتوهم أنه فرعون هذا العصر بلا منازع والمسيح المخلص في آن ! (الآية 60)،
> الركن الرابع :
بناء على ما سبق ذكره في الركن الأول فإن أعداء الإسلام لا يمكن أن يجنحوا للسلم أبدا، فهم مجبولون على الكذب والخيانة ونقض العهود، ولذلك فإن الله عز وجل ينبه المسلمين إلى أنهم لن يأمنوا مكر الأعداء وشرهم إلا إذا أعدوا لهم القوة التي ترهبهم، ففي هذه الحال فقط يمكن للمسلمين أن يحققوا سلاما عالميا حقيقيا عادلا وشاملا، وهذه مسؤوليتهم العظمى تجاه البشرية كافة لا فكاك لهم منها ؛ وهم سوف يحاسبون عليها إذا ما فرطوا فيها، لأنهم خير أمة أخرجت للناس : {كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تامرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله }(آل عمران : 110)، فالإيمان لن يتحقق في هذه الأمة إلا بعد قيام أفرادها وشعوبها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق شروطهما المرعية في شريعة الله وما وافقها من الأعراف والقوانين البشرية، وكلاهما يحتاج إلى قوة رهيبة تجعل الناس يرهبون الله عز وجل ويكفون عن ظلم أنفسهم وعن الاعتداء على بعضهم.(الآية 61).
> الركن الخامس :
ويختم الله ـ سبحانه وتعالى ـ كلامه الحكيم في محور “الإرهاب” بأعظم بشرى يزفها إلى المؤمنين، حيث يؤكد لهم أنهم بعد اكتسابهم لقوة الإرهاب الرادعة، فلن ينجح أعداؤهم أبدا مهما حاولوا أن يخدعوهم، لأن الله قد تكفل بنصر دينه وبنصر المؤمنين به؛ وسوف يبارك التأليف بين قلوبهم ليزدادوا قوة ومنعة، وهو حسبهم ونعم الوكيل، فليحرض بعضهم بعضا على قتال من اعتدى عليهم، ولسوف ينتصرون بإذن الله ،كما انتصر أسلافهم الأبرار رغم قلة أعدادهم وعددهم، (الآيات : 62- 65)،
وإن العارف بالقرآن الكريم وبتاريخ الإسلام إذا تأمل واقع الحال في هذه الأيام التي اشتد فيها التضييق على المسلمين في كل مكان بذرائع واهية، كاتهامهم ظلما وبهتانا بأن إرهابهم حرابة وبأن دينهم مدرسة لتفريخ الحرابيين، سرعان ما يتنبه إلى أن الحال لم تتغير كثيرا إلا في اتجاه ما أراده الله للإسلام من استدراج لأعدائه إلى الغرور بقوتهم الطاغية ،كي يعجل بانهزامهم أمام الإسلام المتنامي مده باطراد في عقر ديارهم بالذات !
فالذين جبلوا على نقض العهود وكراهية الإسلام والحقد على المسلمين بالأمس البعيد، هم اليهود المغضوب عليهم الذين تصهين معظمهم اليوم وسولت لهم أنفسهم الخبيثة أن يمتلكوا زمام العالم كله بالقهر والفتك والتدمير والكذب والبهتان، فكأن هذه الآيات الكريمات لم تنزل منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وإنما نزلت هذه الأيام، ولست أشك في أن اليهود الحرابيين المتطرفين هم أشد الناسحقدا على هذه الآيات بالذات، ولا أستبعد أن يكون لهم من قريب أومن بعيد دور ما في انتزاع عبارة “ترهبون” من صلب القرآن الكريم انتزاعا ثم تحميلها معنى العنف والتخريب بقصد تحويلها إلى قنبلة شديدة الانفجار قوية التأثير واسعة الانتشار تخرب أول ما تخرب هذه الآيات المحكمات التي تفضح سلوك اليهود وكل من سار على دربهم، كي يتسنى لهم بعد ذلك الانتقال بسرعة إلى تخريب القرآن كله من الداخل، وإذا خرب القرآن فعلى الإسلام والمسلمين السلام ولـ”الشعب الصهيوني المختار” البقاء والدوام! وهيهات أن يتم لهم ذلك ، {والله متم نوره ولوكره الكافرون} الصف : 8)، {ليحق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون}( الأنفال : 8)،
فالإرهاب إذا، رباني المبدإ والغاية، وهوأداة بناء لا أداة تخريب، وهوأدعى إلى تحقيق الأمن والسلام، لا إلى تأجيج نيران الحقد والكراهية والحروب الضارية الظالمة، ونحن ـ المسلمين ـ أصحاب رسالة السلام الحقيقي الشامل العادل على عاتقنا تقع مسؤولية إنقاذ البشرية مما يهددها من دمار ماحق، {والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون}( يوسف : 21)،
على هذا الأساس يجب تصحيح مفهوم الإرهاب في أذهان الناس، وإلا صار الله ـ سبحانه ـ “حرابيا” بالمفهوم الأمريكي، وصار كتابه الحكيم القرآن الكريم مدرسة متطرفة لتفريخ “الحرابيين” كما ادعى مراسل (سي،إن،إن C،N،N) عندما كان يقوم بتغطية إعلامية من موقع زيارته لأحد الكتاتيب القرآنية في باكستان ! وتبعا لذلك فسوف يصير محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زعيم مؤسس لقاعدة (أسامة بن لادن)، ويصير من حق أمريكا أن تبيد كل أتباعه المسلمين أينما كانوا لتريح العالم منهم وتستريح.
أوليس الله ـ سبحانه ـ هوالقائل في ثلاث سور من القرآن الكريم :
1- {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم، وإياي فارهبون}( البقرة : 40]،
2- { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون}( الأعراف : 154]،
3- { إنما هوإله واحد، فإياي فارهبون}(النحل : 51)،
فليستفق المسلمون من غفلتهم، وليتنبهوا إلى خطر المفاهيم المحرفة الدخيلة على مصطلحاتهم الأصيلة، وعليهم من الآن فصاعدا ألا يستعملوا مصطلح “الإرهاب” إلا في معناه القرآني الأصيل، أما مصطلح “الترورسم” فليستعملوه كما هومعربا لا مترجما، وإن كان لا بد من ترجمة فإن أقربها إلى مفهومه الغربي الأمريكي هو”الحرابة”، ولا بد من الإشارة بعد هذا إلى أنني لم أعثر في ما رجعت إليه من كتب التفسير على غير المعنى الذي بينت حدوده كما هو ثابت في المفهوم العربي الإسلامي الصحيح، وبهذا أكون قد أعدت الأمر إلى نصابه، ورفعت، بتوفيق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الالتباس عن مفهوم هذه اللفظة العربية الأصيلة التي حولها تقصيرنا وغفلتنا، وتربص الأعداء بنا إلى مصطلحسياسي مغرض ؛ ووضعتها في حدودها القرآنية بتركيز دقيق ليس الغرض منه إلا بيان الحق والذود عن بيضة الإسلام وصيانة القرآن العظيم من عبث العابثين، ولفت انتباه العلماء والمفكرين والأدباء والشعراء وعامة المسلمين إلى أبعاد الرؤية الإسلامية الصحيحة التي يجب أن ينهلوا منها، كل حسب اختصاصه وحاجته، ما يرضي الله ـ عز وجل ـ أداء لأمانة البيان والتبليغ التي أمرنا الله بأدائها، وتوعد من كتم الحق وأحجم عن البيان باللعنة العامة الشاملة : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ؛ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا، فأولئك أتوب عليهم ؛ وأنا التواب الرحيم}(البقرة : 159- 160)،
بهذا أكون قد أديت أمانة التبليغ وبينت للناس ما اجتهدت قدر طاقتي في تمحيصه وتخليصه ؛ وبرأت ذمتي من تبعة الكتمان، والله يعلم أنني ما قمت بهذا الواجب إلا امتثالا لأمره مساهمة في التعجيل بتحقيق سلام إسلامي عالمي شامل وعادل ، لا يضيق ذرعا بعباد الله مهما اختلفت عقائدهم ، سواء أكانوا يهودا أم نصارى أم حتى ملحدين، فالله رب العالمين هوالكفيل بمحاسبة الجميع،
> حرر هذا البيان بمدينة تازة في المغرب الأقصى ، فجر يوم الجمعة 01 ذوالحجة 1425 (23 يناير 2004 )،
عن كتابه المخطوط بعنوان : (حرب المصطلح آخر حروب القرن )