تقوم حياة المسلمين في كل زمان ومكان على الالتزام بتوجيهات القرآن الكريم الذي أكرمهم به الله عز وجل، وجعله نبراساً لهم يستنبطون منه ما يهذب سلوكهم، وينظم علاقاتهم، ويحقق الأمن والاستقرار فيما بينهم، وفي علاقاتهم بغيرهم، وفي مقدمة تعاليمه السمحة الحث على العدل والعفو، والدعوة إلى التمسك بالمروءة ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق، وقد أكثر أهل الفضل من المربين والعلماء من المتح من مكارم الأخلاق القرآنية، فألفوا في ذلك المصنفات العديدة التي اقتبست منها الأجيال المتوالية. واهتدت بنورها وهي تبني حضارتها الشامخة الخالدة، وتمثل المروءة عماد تلك المكارم، والمحور الذي عليه مدار أخلاق الإسلام، حتى إن عدداً من المصنفين أفردوها بالتأليف، كل بطريقته الخاصة به، ولكن الهدف واحد، هو زرع تلك القيم النبيلة في نفوس الناس، كباراً وصغاراً، حتى يتشبثوا بالمروءة التي إنفشت في المجتمعات كانت واقيا لها من كل مكروه.
ومن المؤلفين المتميزين في هذا الموضوع الأديب أبو منصور عبد الملك الثعالبي الذي صنف كتابه تحت عنوان “مرآة المروآت وأعمال الحسنات”، ومن حسن الطالع أن يصدر هذا الكتاب الذي ظل حبيس الخزائن، بعيداً عن التداول، في هذه الظروف العصيبة التي يعاني فيها المسلمون الأمرَّيْن، ويُقذفون بتهم هم منها براء، وقد تفضل محققه الباحث النجيب ذو المروءة، والنُّبل الدكتور يونس علوي مدغري فطلب مني التقديم لهذا الإصدار المهم، فكتبت له كلمة موجزة أقتطف منها مجموعة من الفقرات في هذه النفحة لأسباب ثلاثة متكاملة فيما بينها :
أولها : إثارة الانتباه لهذا الإصدار المتميز في موضوعه ومنهجه بين مصنفات الثعالبي.
وثانيها : لفت الانتباه إلى واحدة من أبرز الخصال الخلقية في حياة المسلمين.
وثالثها : كون جريدة المحجة حاملة للواء النبل، داعمة لخُلق المروءة في رسالتها النبيلة.
ومما قلته في مقدمة هذا الكتاب الصادر عن دار لبنان للطباعة والنشر بيروت :
يزخر التراث العربي الإسلامي بمجموعة من الكنوز الغنية بمقوماتها وعناصرها الحضارية الشامخة وقيمها الخلقية الرفيعة. وقد تجاوز بعضها حدود النسبية، وارتقى إلى المطلق فاكتسى الصبغة العالية، واكتسب القيم الإنسانية الخالدة الأصيلة، وارتبط بالحس النبيل في الإنسان أيا كان، لاتصاله بجانب المروءة فيه، وبما يتفرع عنها من فضائل النبل والشهامة والإحسان وغير ذلك من الفضائل المطلقة التي لا يختلف فيها اثنان. ولا سيما بعد أن انصهرت في بوتقة الإسلام، فازدادت سموا وشموخا، وغدت قيما حضارية سامية ينتفع بنو البشر بالتحلي بها سلوكا وسيرة في كل مكان وزمان، ولا غرو في ذلك فقد قال النبي الكريم : >إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق<.
وبالنظر إلى ما لهذا المجال من جاذبية وسحر، فقد مال إلى التأليف فيه عدد من ذوي المروءة والإحسان، المتشبعين بالقيم الخلقية الرفيعة في الإسلام،الحريصين على نشر المودة والإخاء وتعميق روح الإحسان، وتهذيب سلوك الناس لإسعادهم في الدارين. ويأتي كتاب “مرآة المروءات وأعمال الحسنات’ للأديب الموسوعي أبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري (ت 429هـ) في مقدمة هذه المصنفات المتميزة مادة ومنهجا وأسلوبا، ليس لأهمية موضوعه في تراثنا الخلقي والعمراني فقط، ولا لمكانة مؤلفه وذيوع صيته ومؤلفاته في المشرق والمغرب فحسب، ولكن، بالإضافة إلى هذا وذاك، لما يتميز به من شمول وإحاطة بأنواع السلوك وما يتطلبه معيار المروءة فيه، ولكونه يُعْني بالجانب الخلقي الذي هو أساس استمرار التواصل ومنبع الدفء في العلاقات الاجتماعية. وهو جانب افتقدناه أو كِدْنا في عالمنا الذي غلبت عليه المنفعة والمادية، حتى عز العثور على الفرد المتخلق ذي المروءة والنبل، وبافتقاده تنهار المجتمعات والأمم كما قال الشاعر أحمد شوقي رحمه الله تعالى :
فَإِنَّما الأُمَمُ الأخْلاقُ ما بَقِيَتْ
فَإِنْ هُم ذَهَبَتْ أخْلاَقُهُم ذَهَبُوا
ومن حسن الحظ أن كتاب “مرآة المروءات” قد سلم من الضياع فعرفه الناس مطبوعا بأرض الكنانة منذ عقود من السنين، غير أن تداوله لم يعد اليوم ميسرا بعد أن غدا نادرا لافتقاد نسخه. ولكن، كما وُجد في هذه الأمة من يضطلع بالتصنيف في هذا الموضوع الحيوي الطريف النافع في السنين الماضية، فقد كان لابد أن يتصل فيها الخير فيوجد اليوم من زرع الله فيه بذرة الإحساس بزهمية القيم الخلقية النبيلة وضرورة سيرورتها بين الناس، فتنبه بحدسه التربوي القويم، وبفطرته الصافية إلى ما يترتب عن تداول مثل هذا المصنف وشيوعه بين الناس من قيم تربوية توجيهية كفيلة بوصل الماضي بالحاضر، وإحياء روح الفضيلة في النفوس، فسارع إلى سد الفراغ، وتولى ملء الثغرة مأجوراً مجازى بإذن الله تعالى.
وهكذا قيض الله لهذا الكتاب من يعيده إلى الذاكرة، بعد أن غدا نسياً منسيا أو كاد، ويحييه ليتجدد تداوله والانتفاع به.
وكما وفق المحقق في اختيار هذا النص لإخراجه إلي النور في هذه الأيام العصيبة في حياة المسلمين، وقد دُفعوا دفعاً إلى وضع لا يُحسدون عليه، فقد كان المصنف قبله موفقا في اختيار هذا الموضوع ليظل متداولا بين الأجيال، وكأنه كان بحدس الأديب العالم يستشرف الآفاق المستقبلية وحاجة الناس إلى مثل هذا المصباح الذي اقتبس نوره من القرآن الكريم أولا، ثم من الحديث النبوي، ثم تأتي باقي المصادر الأخرى. وقد استهل الثعالبي الباب الأول من أبوابه الخمسة عشر بسؤال موجه إلى أحد الحكماء، وهو : قد أكثر الناس في ذكر المروءة فصفها لنا وأوجز، فقال : على الخبير سقطتم، هي بحذافيرها في قول الله عز وجل {إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذَّكّرون}(النحل : 90).
قيل له : قد وصفتها ففسرها لنا، قال : أما ترون تأويلها تلاوتها؟!