الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله
تقلبت في الفراش، وكأن صوت الآذان يردد في أذنيها : “حي على الصلاة، حي على الفلاح”. “الصلاة خير من النوم”.
وقالت في نفسها : فلأقم لأداء واجب الله… ما أجمل هذا النداء. ما أجمل نداءك يا بلال، يهز الأعماق، وما أحلى صوتك يدغدغ سكرة النوم الهادئ… ثم سكتت مرة أخرى وهي تنشد في عالم اللاشعور.
أي مد غطى البحر إذ أخطأنا المسير
من سوف يبني الأعشاش بعد رحيل الطيور؟
ومن يعيد للنفس بهاءا بعد فتور؟
سكنت أرواحنا، فكأنها على الدرب قبور
ثم تقلبت ثانية في فراشها، وهمهمت بكلمات غير مفهومة، وعادت تنشد، وكأنها تخاطب شخصا :
ترى؟ هل تحفل الذاكرة بأحلام الرجوع؟ أنى لنا أن نستفيق، وقد أصبحنا نجرجر أرجوحة القدمين على جبل الوهم الكاسح، وكثيب الرمال يحاصر حلقنا، وَهْمٌ ارتمينا في أحضانه، ونسجنا خيوطه الواهية بأيدينا حول رقابنا ونحن نلوم بعد ذلك الزمن؟
وارتفع بعد ذلك صوتها في انفعال مع الكلمات فخيل إليها أنها تلقي محاضرة في حضرة المثقفين، وأين هم المثقفون من رجل نحيف أسود اللون قاتم، أبيض العمامة، يتصدر القاعة أمامها؟ مَنْ؟ بلال؟.
ثم استطردت تقول : “لقد حق لنا أن نبكي على ما وصلت إليه أنفسنا من ضياع، لكن، هل ينفع البكاء على الأطلال، إلا أن نقول “لقد بنى الأجداد ما رأينا، فماذا صنعنا لكي يراه الأحفاد؟”
وتنهدت وهي تصوب نظرتها تجاه بلال، ثم قالت : “لقد كان أجدادنا عظاما، دخلوا الدين والتاريخ من بابه الواسع أليس كذلك يا بلال؟
وتغير المشهد، فخيل إليها وكأنها في ندوة، أو طاولة مستديرة تحاور بلال وجها لوجه، وفكرة لفكرة، وعصرا لعصر.
يالها من مقارنة ويالها من مفارقة.
أيها الجيش العظيم يامن جردته سياط أمية ابن خلف من سواد الذل والعبودية، حتى طغى بياض القلب على سواد اللون
لقد مضت السنون والقرون سريعة لتعود مرة أخرى، وتزداد الهوة بيننا وبينكم… إلى الأبد.
- ولكني سمعتك أيتها السيدة تقولين شعرا؟
- نعم يا بلال، فأنتم كتبتم من فرط المروءة والبلاغة شعرا، أما نحن، فكتبنا من فرط الضلال والحسرة ما نحسبه شعرا.
- ثم إني لا حظت -أختي -صخبا وضوضاء واختلاط أصوات.
- نعم يا بلال، لقد حفظنا مثلا من عندكم يقول : “أسمع جعجعة ولا أرى طحينا” هكذا نحن يا بلال، نتكلم ونتكلم ولا تُسمع أصواتنا المخنوقة وسط الزحام، أو المسحوقة تحت الظلال، أو حتى المسموعة من فوق ناطحات السحاب وبمكبرات الأصوات، ضاعت شخصيتنا، ندعو وهل يسمع الصم الدعاء… نقول ونقول ونقول فلا تعجبهم أصواتنا ونقرر فلا نستسيغ ما نقرر، ولا نعمل، ولا نفي بما نقول…
وتنهدت وهي تنظر في شرود..”لقد مضى ذلك العهد الجميل الذي دوت فيه صرختك من رمال الصحراء في شعاب مكة، إلى أعلى مآذن المدينة، كانت صرخةأخرجت معها تعفن الجاهلية -التي عادت من جديد- وسطوة الطبقية، لتعلن “أن لا فرق بين عربي ولا عجمي، ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى”. ترى يا بلال هل كان أمية يعي أنه يجلد كومة لحم أسود يخلعها من غبار القيد؟ لتصبح يوما ما جسدا مفتول العضلات، يعلن شهادة الرفض من فوق مآذن المدينة، ثم لتكون بعدها أطول الناس أعناقا يوم القيامة؟
ثم استطردت تقول : “ما أحوجنا إلى صرخة مثل صرختك، نسمعها وننصت إليها، ونستوعبها لعلنا نستفيق.
- فلتحاولوا إذن؟ علمت أن طموحكم كبير وأن مآذنكم شامخة عالية.
- نعم، ولكننا لم نعد نحسن الصراخ. بل نستطيعه: الصرخة تحتاج إلى أخذ نفس عميق، وأخذ النفس يحتاج إلى هواء نقي، ونحن قد لوثنا الهواء من حولنا، لوثنا البيئة والمدنية النكراء ولوثنا العقول والقلوب… ألا تدري يا بلال أننا صنعنا أصناما جديدة، ودخلنا جاهلية جديدة؟. لقد احتوتنا الأصنام الجديدة، وما أكثرها وأصبحنا ندور في دوامتها، تماما كما كان كفاركم يطوفون حول هبل، وعربكم ومسلموكم يطوفون حول الكعبة.
- ولكنكم في زمن العولمة، لكم مبادئ، وعلومكم كثيرة وعزائمكم قوية.
- أي مبادئ، وأي علوم هي يا بلال. لقد مضى على زمن المبادئ وقت طويل. فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وداسوا على القيم، وآخرون صلوها لغير قبلتها، لقد قربنا المسافات، وأصبح لكلٍّ وجهةْ هو موليها، ولكل قبلته، لقد أصابنا المقت الكبير.
- إني أرى في حديثك تشاؤما، وفي نبرات صوتك حزنا… أخبريني أيضا عن أحوالكم.
- كيف لا أيها الرجل الطيب، وقد تحققت التنبؤات المخجلة لنا؟ لقد ولدت الأَمَة ربتها، وتطاول الحفاة العراة العالة رعاء الشاء في البنيان، وها نحن يا بلال نغرق في سقوط المدنية، نغرق ونغرق ونغرق، المنار يبدو أمامنا، لكنه بعيد المنال وصعب الوصول.
- فهلا استنجدتم بغواص؟
-فحتى البحار اختلفت بيننا وبينكم، فبينما كان ركوب البحر لديكم مدعاة للشهادة والشرف، أصبح لدينا رغبة في السطوة، ورمزا للقوة، حتى بحارنا اختلفت ألوانها واشتدت تياراتها المتناقضة.
وهذا الذي نخشى الغرق فيه -نحاول أن نقاوم ولكن التيار جارف والحبال ضعيفة، والعزائم أيضا ضعيفة، ومن تمسك بها سرعان ما يتعب. لقد ولى زمن الصبر والمثابرة، فلا يلبث أن يتخلى عن الغوص ليعود إلى أصحابه على الشط، حيث تجلبه تيارات العشق المصرعة.
- إني لآسف لكم.
- نعم، لقد ظهر الفساد في البر والبحر، واعترت الموضة كل شيء. ونصبت المحاريب والمنابر، وصعد فوق بعضها أناس متشدقون تكلفوا الكلام والفصاحة في خطبهم. حلقوا الذقون وأفتوا بغير علم ليقال : من هؤلاء؟ قال هؤلاء… فقد قيل.
- إنه لغريب أمركم فما شعاركم إذن؟
- أه يا بلال، تسألني ما سبب حسرتي، ما سر انطوائي، فماذا عساي أقول؟ تهاويت يوم حاولت أن أصرخ وأقول : لا، لقد اتهموني بالجنون وهددوني بالحجز والقصور إذ حاولت إبداء رأيي في غول أو شبح كبير صنعوه تمثالا لهم، ثم عبدوه، إنه المال، لقد جعلوا له رأسا كالأفعى القاتلة، فأحبوه وخافوه وقدسوه حتى أنساهم ذكر الله. بل الأغرب من هذا أنه أصبح برأسه المخيف هذا يكتسح الأراضي ويسيطر عليها بأسماء مختلفة ما أنزل الله بها من سلطان -وهذه مفارقة أخرى -فبينما وصلتهم الأراضي ببعضها ليكونوا شعوبا وقبائل ليتعارفوا، أصبحنا شعوبا وقبائل متناحرة، نعيش اخوة دموية، أخوة القيد الواحد والضعف الواحد والضياع الواحد والدمار الواحد، وقتل الواحد للواحد من أجل أن يحيا للمال رأسه وينمو ويزين ويورد خديه بدماء الناس، بأعراض الناس بالخمر والميسر بالأنصاب بالأزلام لنقول : “إن رأس المال بصحة وعافية”. فأيننا من الدين يا بلال؟ أيننا من فتوحاتكم الاسلامية، إن أردت دليلا فلتقرأ عن الكشوفات الجغرافية وما كان فيها باسم الدين فلتقرأ عن الإمبريالية الغاشمة وما كان منها باسم إخراج االشعوب الضعيفة من التخلف والعبودية فلتقرأ عن الصهيونية باسم الارتباط بأرض الميعاد والأرض المقدسة.
لقد أصبحنا عبيدا سودا وبيضا مجردين عن اللون لأبي جهل جديد وابن خلف جديد، أصبحنا عبيد المال ولرجال المال ومؤسسات المال وكل ما يحتاجه رأس المال.
-وكأنك تتحدثين عن شخص ذي كيان؟
نعم، إنه شخص ذو كيان كبير ما دام له رأس ويخافه الناس ويقدسه الناس ويعبدونه. إنه غول لكن ذو شعر ناعم يحتاج إلى ماشطات، ولعلك تسألني من هن الماشطات؟
- نعم، لقد آثرت فضولي.
- اسمع إذن، إنهم كثيرون، بدءا بالفتاة الجميلة المتبرجة المثقلة بكل أنواع العطور والزيوت والمساحيق في بيت المال، التي تشرف على خدمة السيد، بابتسامتها الرقيقة وميوعتها في وجه الزبناء والمتعاملين والمخمورين والزناة، وظُنَّ شَرًّا ولا تسل عن الخبر”
إنها الأخت والابنة والزوجة والأم، إنها المرأة ذات العرض المفكك، المفقود، مرورا بالأخ والزوج والأب الذي هيأها لهذه الخدمة “الجليلة”، إنه الديوث الماكر، وانتهاءا بالعالم الجليل الذي لا يرى بأسا في أن يغدق الناس عليه مما عندهم لبيع فتواه.
هل رأيت سيدي كيف تشترك ابتسامة الفتاة وعرض السيدة وعطر المرأة وانحلال الأسرة وتهتك الأب وفتوى العالم في توغل أنياب هذا الرأس المتوحش (رأس المال) في أجسادنا حتى العظم بل حتى النخاع. وإن تعجب فعجب قولهم هذا حلال وهذا حرام!.
- فأنتم في ضلالة إذن.
- نعم {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا}… دعني أريك مد الضلالة أيضا.
إلى جانب رأس المال الناعم، هناك جسد رشيق يعجب أصحاب الهمم الهابطة، تأسست على إثره دور كثيرة كثيرة، هي أوكار الدعارة والفساد، أو هي دور سموها مؤسسات القرض بالفوائد، بدت للناس كبيوت للعمل الانساني الكريم، فاحتشد الناس على أبوابها للنيل من هذا العطاء، والفيض الكريم, من هذا السم اللذيذ، أو هي في شكل شركات متعددة الجنسيات، وشرحوا لنا أنها لا تميز بين أبيض ولا أسود، وأنها تستعلي على كل الجنسيات، وكأنهم يريدون محاكاة ما صنعتموه أنتم في خليتكم الإسلامية الاولى، أنت بسوادك النازح من أعماق الحبشة, وسلمان القادم يجوب الأرض بحثا عن الحقيقة من فارس، وصهيب الآتي من تخوم الروم أيضا.
واستطردت تقول : ثم، ثم إلى جانب الرأس والجسد، هناك الخصوبة يا بلال. لقد فرخ الغول وباض رأس المال في بيوت أنشأت لذلك. فظهرت الكتاكيت الصغيرة بريش مختلف ألوانه متشابه وغير متشابه يحسبه الظمآن والجوعان من الفقراء ماءا ولحما طريا، لكنه نار الهشيم وماء الحميم، شربنا منه فقطع الأمعاء وأردانا خاسرين. هل رأيت يا بلال كم هو مر عيشنا وحياة جحيم قبل الجحيم؟
-ا هدئي أيتها السيدة، لا تخافي ولا تحزني، لازالت الدنيا بخير ما دامت هناك قلوب تتحرق على الحق وتغير على الدين. ألم يقل الله تعالى : {ولنبلونكم بنقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}.
إن الابتلاء امتحان على الصبر، والله تعالى أكد بقوله {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} فلا بد يا بنيتي لليل الضلالة أن ينجلي، عليكم فقط أن تتسلحوا بالايمان والأمل ولا تقنطوا من رحمة الله. فالله يقول : {وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله}. فهذا الغول المخيف، رأس المال هذا يمكن أن تحولوه ولكن مع الإصرار والمثابرة إلى ضيف طيب رقيق كريم، الرأس العاري الممشوط يمكن أن يغطى ويستر برداء الصدقة والمعروف والجسد العاري النحيف الجذاب يمكن أن يصبح أَهْيَفًا بطاعة الله. بالصلاة وقيام الليل، ودور الأموال يمكن أن تحول إلى أبناك إسلامية ودور الدعارة هذه قد يصدر فيها أمركُنْ فتتحول إلى مساجد، وتصبح مآذن عالية يذكر فيها اسم الله. والقبائل المتناحرة يمكن أن يشع فيها النور وتسطع شمسها من جديد فتتحد يدا واحدة لتكسر قيد العبودية والضلال، وتعود بكم كما كانت على عهدنا، وعند تكسير القيود تصرخون من كل أعماقكم كما صرخت أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، الصلاة خير من النوم.
ثم تقلبت في الفراش مرة أخرى لتستفيق وهي تقول : ياله من حلم جميل، ليته يتحقق. وتنهض وهي تقول : “إنه وقت الصلاة، لقد كان الآذان الأول آذانا كاذبا”.
ذة. سعاد برادة