نفحات – كيف نستعيد أمننا


يبدو أن الأوراق قد اختلطت في العالم بصفة عامة، وعالمنا الإسلامي بصفة خاصة، وتزايدت وثيرة هذا الاختلاط مع ما صاحب مطلع السنوات الأولى من الألفية الثالثة من مستجدات وتحديات، أسفرت بين عشية وضحاها عن تعرية الواقع وإزاحة غطاء الأمن في معظم أنحاء العالم، وصاحب ذلك شيوع مصطلح الإرهاب الذي غدا مفهومه ملغوما موجها وملتبسا إلى حد كبير، وقد أدت التفاعلات المرتبطة بهذا المفهوم إلى إصابة العالم الإسلامي وقلبه النابض العالم العربي بخسائر متعددة، ولعل أخطرها أنه افتقد الأمن في ربوعه، وغدا متهما بالإرهاب في الآن نفسه، غير قادر على التحكم في آلياته، عاجزا عن الدفاع حتى عن نفسه لرد تهمة هو بريء منها، وإن ألصقت به للاشتباه فقط. وإلا فكيف لمن هو مستهدف وفاقد للأمن أن يستهدف غيره ويمارس علية الإرهاب؟!

لقد تبدلت طمأنينة النفس لدى الأفراد و المجتمعات قلقا وإحباطا، بعد أن تفشى التطرف، واستفحلت التيارات الهدامة وانتشرت المخدرات المادية والمعنوية و تعدد ضحايا الملذات التي تهبط بالإنسان وتدنسه، وعمت الجريمة المنظمة و العشوائية وساد العنف في القول والعمل، وغابت قيم التسامح، وضعف الوازع الخلقي أو انعدم، وطغت الأهواء وتضخمت الذوات وحلت المصالح الفردية محل المصالح العامة، والأهواء عمياء تقودها الشهوات بعد أن تطفئ نور العقل فتنوعت التهديدات الداخلية والخارجية، حتى غدا الإنسان يخشى نفسه، وأصبح المجتمع الصغير والكبير يتوجس خيفة من أبناءه ولم يعد عدد من الأفراد والجماعات يتورعون عن تهديد أمن أقرب الناس إليهم، لأنهم مسخرون لنشر الفوضى وسفك الدم البريء وزعزعة البلاد والعباد دون تقدير للعواقب.

قد يقول قائل إن هذا الحصاد ما هو إلا ثمرة غرس سابق، وتفريط متوال، وإهمال شامل وعام، وانفلات لزمام الأمور من الأيدي، لأن تربية الأجيال الصالحة تتطلب تصورا وبرنامجا طويلا ومستمرا وبحثا ودرسا وتحليلا للوسائل والأهداف، وتستلزم تشخيص الداء والبحث عن سبل الوقاية قبل استفحال الداء الذي قد يظهر فجأة، وقد يظل كامنا متربصا إلى أن تتهيأ الأسباب فيجهز على جسم الأمة دون هوادة، وقد يفتك بها ما لم تحسن تدارك الأمر بما يتطلبه الوضع العام من حكمة واستعجال وتقديم للأولويات.

قد يكون فقدان المجتمع لقدرته على مواجهة الأحداث والوقائع الفردية أو الجماعية لمختلف أشكال العنف ظاهرة عرضية، وقد يكون إفرازا لوباء متفش في هذا المجتمع أو ذاك، ينبغي استئصاله قبل أن يغدو مزمنا فينخر كيان الأمة بكاملها، عن طريق الدواء المناسب الناجع، تحقيقا للمصالح والمقاصد المعتبرة، ودفعا لكل أنواع البغي والجور، لتستعيد النفوس طمأنينتها وتسترجع سكينتها، ليس في مجال الأمن المادي فحسب، وليس على صعيد معين أو محدود فقط، بل في مختلف المجالات والواجهات التي تكفل تحقيق الأمن المتكامل الشامل للأفراد والجماعات، داخليا وخارجيا، ماديا وروحيا، وبذلك يعم السلام، وتعود القيم الخلقية النبيلة إلى طبيعتها في توجيه السلوك.

لقد غدا هذا الموضوع هاجسا، لأنه ليس هينا، وعلاجه يعد من صميم البحث في التدابير الكفيلة بحفظ النظام العام السائر على سنن الله، الملتزم بالنواميس الفطرية التي فطر الناس عليها، وأقام ضبط العلاقات بين بعضهم وبعض على ضروب العدل والتوازن والحوار والتعايش، والأمن بهذا التصور الشمولي ومفهومه الفكري والسياسي والمدني، وبأبعاده الثقافية والاجتماعية والاقتصادية مسؤولية الجميع، ولم تعد تقتصر على فرد أو فئة أو جماعة أو حتى على دولة بعينها دون أخرى، بل أدى ما يعرفه العالم من تداخل وترابط، بل وقدرة على الاختراق عن طريق وسائل الاتصال وتقنياتها المتطورة، إلى أن أصبح الشغل الشاغل للعالم بأسره.

غير أن الأمة الإسلامية معنية أكثر من غيرها، لأنها بمثابة الخصم أو المتهم، وهي الضحية، ولأن هذه الأمة موطن حضارات عريقة، ومهبط ديانات سماوية، وقبلة شريفة للمسلمين في كافة أنحاء العالم، ولما يرتبط بذلك كله من مقومات دينية وأمنية وثقافية متكاملة، من طبيعتها ترسيخ أخلاق التسامح والتعايش وحسن الجدل وما إلى ذلك، فهي معنية أكثر من غيرها، لأن دينها دين الأمن والسلام، ولارتباط هذه القضية بالتربية فقد دعا بعض الباحثين مؤخرا إلى ضرورة إدراج مادة الأمن القومي في البرامج الدراسية الرسمية للجامعات العربية والإسلامية وفق رؤية تصورية بنائية، ومنهج علمي موضوعي لتوضيح الأمور وتصحيح المفاهيم.

د. علي الغزيوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>