نواصل في هذا العدد الحديث عن الوحدة الإسلامية ومظاهرها، فبعدما تحدثنا في العددين السابقين عن الوحدة التربوية نتحدث في هذا العدد عن الوحدة الفكرية من خلال مقاليْ الدكتور عبد المجيد النجار والأستاذة حليمة بوكروشة، والمقالات عبارة عن ورقتين قدمتا في مؤتمر :
وحدة الأمة الإسلامية : فرص وتحديات يومي 1 و2 أكتوبر 2003 بماليزيا
تـمـــهــيــد
وحدة الأمة مقصد أساسي من مقاصد الدين، وهي مستمدة في أسبابها من وحدانية الله تعالى في خلقه وتدبيره، وفي حكمه وتوجيهه، إذ تلك الوحدانية تقتضي أن تكون الأمة المؤمنة بها أمة موحدة لوحدة السبب في وجودها وتدبيرها ومنهج حياتها، كما أنها مستمدة في غاياتها من وحدة الهدف، وهو القيام بمهمة الخلافة في الأرض : ترقيا في الذات الفردية والجماعية للإنسان، وتعميرا في الأرض باستثمار ما فيها من خير، وذلك هو أحد مقتضيات قوله تعالى : {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}(الأنبياء : 92)، كما هو بين في ربط هذه الآية الكريمة بين وحدة الأمة وبين الربوبية من جهة كما تفيده الإشارة إلى سببها، وبينها وبين العبادة من جهة أخرى كما تفيده الإشارة إلى هدفها.
إلا أن الوحدة المبتغاة للأمة لئن كانت على هذا النحو من التأصيل العقدي سببا وغاية فإنها ليست بمتحققة في الواقع على سبيل الحتمية التلقائية مهما كان من اليقين بها اعتقادا في طرفي أسبابها وغاياتها؛ وإنما يستلزم الأمر فيها تربية مصنوعة تطال الفرد المسلم كما تطال الهيئة الاجتماعية العامة، وذلك لتُبنى النفوس والعقول بهذه التربية على ثقافة الوحدة فكرا وسلوكا، ويكون ذلك أساسا لتحققها بالفعل في الواقع، وقد بينت تجربة التاريخ أن هذه التربية على الوحدة حينما تتخلف بعض مساراتها فإن ذلك يظهر أثره ناجزا في مظاهر من الفرقة قدتشتد وقد تضعف بحسب ما يتخلف من تلك المسارات التربوية.
ومن المفاصل ذات الأهمية البالغة في تربية الأمة على الوحدة التربية الفكرية، تلك التي تتعلق بالمنهجية التي ينتهجها المسلم في النظر العقلي لتحصيل الحقيقة النظرية وحل المشاكل العملية، إذ حينما تتربى العقول على تجانس في منهجية النظر فإن ذلك يكون أحد الأسباب الهامة لتشكل لحمة من الوحدة بين أفراد الأمة، وعلى عكس ذلك فإن مناهج التفكير حينما تكون متناقضة بين أفراد الأمة وفئاتها فإن سببا كبيرا من أسباب الفرقة ينشأ فيها، ويعمل عمله في تشتيتها(1).
ولعل أثر التربية الفكرية في الأمة وحدةً في حال استقامتها، وفرقةً عند اختلالها إنما يكون أظهر ما يكون فيما ينشأ فيها من المذاهب العقدية والفقهية؛ فإن هذه المذهبية بقدر ما تكون من عامل ثراء يحفظ للأمة التنوع المثمر في إطار من الوحدة الجامعة إذ ما كانت ناشئة من تربية منهجية في التفكير متجانسة مستقيمة، فإنها قد تكون أيضا عامل تشتت وفرقة إذا ما كانت ناشئة ومتطورة عن فكر متفرقة به المناهج، غير مأخوذ بتربية جامعة تشكله على الخصال التي تقيم فيه المعادلة الصحيحة التي يتوازن فيها طرفا الوحدة والتنوع.
والتاريخ المذهبي للأمة يكاد يكون تحققا مطردا لهذه الحال من التناسب بين التربية الفكرية الصحيحة وما تفضي إليه من استقامة في معادلة الوحدة والتنوع، والتناسب بين ما يطرأ على تلك التربية من الخلل وما يفضي إليه ذلك من اختلال في تلك المعادلة ينتهي إلى التشتت والفتنة، وبيما إلى الصراع الـمُذْهِب للريح. ولكن هذا العامل من عوامل وحدة الأمة متمثلا في وحدتها في نطاق التعدد المذهبي وما للتربية الفكرية من أثر بالغ فيه لم يحظ على ما نعلم من البحث المبين لحقيقته ومسالكه بما ستحق من الاهتمام، وهو مبررنا في محاولة طرحه في هذه الورقة، بادئين بتحديد المقصود بالفكر والتربية الفكرية، ثم مبينين العناصر الأساسية للتربية الفكرية من حيث ما تؤدي إليه من وحدة الأمة في نطاق التنوع المذهبي.
الفكر والتربية الفكرية
في الانسان قوى متعددة لئن كانت مترابطة بحيث تكون فيه وحدة الذات، فإنها تحتاج في عملية التربية إلى أن تعالج باهتمام يخص كلا منها على حدة لتنميته بما يتناسب مع خصوصيته، وذلك في نطاق مراعاة الوحدة الجامعة بينها، ومن تلك القوى التي تحتاج إلى أن تفرد بمجهود تربوي يراعي خصوصياتها فينميها بحسب تلك الخصوصيات قوة الفكر، وذلك ما نعنيه في هذا المقام بالتربية الفكرية.
أ- الفكر :
قصدنا بالفكر في هذا المقام وكما نريد أن يكون مصطلحا بينا تجري عليه هذه الورقة هو المنهجية التي يجري عليها عقل الإنسان في بحثه عن الحقيقة النظرية والعملية. ولهذا التجديد أصل في المدلول اللغوي، إذ جاء في معاجم اللغة أن الفكر هو إعمال الخاطر في الشيء(2)، إشارة إلى أنه حركة العقل في موضوعات المعرفة. كما أن ذلك المدلول هو الذي استقرت عليه الثقافة الإسلامية في استعمال هذا المصطلح، وهو ما ضبطه الجرجاني في تعريفاته، إذ يقول : “الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول”(3). ومن البين أن هذا الترتيب ليس هو إلا حركة العقل في البحث عن الحقيقة.
وما هو شائع اليوم بين أهل النظر من إطلاق الفكر الذي هو منهج العقل في البحث عن الحقيقة على الأفكار التي يقع التوصل إليها في ذلك البحث ليس إلا ناشئا من إطلاق الملزوم على اللازم كما هو من عادات اللسان العربي، ولكنه إطلاق يحدث ارتباكا في تحديد معنى هذا المصطلح واستعمالاته، وهو ما آن الأوان للرجوع به إلى الأصل الذي استقرت عليه الثقافة الإسلامية مقصودا به منهجية النظر العقلي لا حصيلة ذلك النظر من الأفكار كما سنعتمده في هذا المقام، وكما اعتمدناه في مجمل بحوثنا في هذا الشأن.
ب- التربية الفكرية :
إذا كانت التربية في أحد معانيها هي تنشئة ما يراد تربيته على خصال معينة من أجل تحقيق هدف تساعد تلك الخصال على تحقيقه، فإن التربية الفكرية تعني صياغة المنهجية التي يعتمدها العقل في النظر على أسس معينة من شأنها أن تجعل ذلك النظر نظرا سديدا يفضي إلى تحقيق المقصود وهو إصابة الحقيقة بأكبر ما يمكن من الأقدار، فالعقل في نظره المعرفي مرشح بحسب ما ربي عليه من الخصال لأن يسلك مناحي متعددة مختلفة، وتلك الخصال هي التي تكون محددا أساسيا لما يصيب من الحقائق أو لما يخطئ منها(4).
ولكي يكون النظر العقلي الذي هو الفكر نظرا سديدا في مسعاه نحو الحقيقة ينبغي أن يؤخذ بتربية مقصودة يصبح بها مبنيا على أسس منهجية من شأنها أن تكون له دربا ينتقل به من مرحلة إلى أخرى من مراحل حركته بحيث يتأدى من المعلوم إلى المجهول في منطقية تفضي به إلى الحقيقة؛ وإنما يحتاج العقل إلى هذهالتربية في حركته التي هي الفكر بالرغم من أنه بُني في فطرته على مبادئ منطقية لأن هذه المبادئ ذاتها قد يطالها الطمس لسبب أو لآخر من الأسباب، ولأنها مبادئ لئن كانت كافية في إدراك ما هو من الحقائق بسيط في طبيعته قريب في مورده فهي غير كافية في تحصيل ما هو منها معقد بعيد، وإذن فإن الفكر يحتاج إلى أن يؤخذ بتربية يصبح بها مكتسبا من الصفات لما هو مبني على المبادئ الفطرية وما هو متطور عنها تناسبا في ذلك للحقائق في تعقيدها وبعد مواردها.
لقد ظل العقل الإنساني طيلة عهود منطبعا على صفة النظر المجرد تأثرا بتربية ثقافية يونانية وغنوصية شرقية، فكان الفكر يبحث عن الحقائق بالتعقل المثالي أو بالتربص الروحي فلم يظفر بذلك من حقائق الكون بما هو ذو شأن كبير، ولكن لما أخذ بتربية أخرى انطبع بها على صفة من الواقعية جراء الثورة المعرفية التي أحدثها الإسلام واستلمتها منه النهضة الأوروبية الحديثة جعل يبحث عن حقائق الكون بمنهجية التقصي لمظاهر الكون المحسوسة، فبلغ ذلك إلى حقائق في هذا الخصوص ذات شأن عظيم، وذلك مثال على ما لتربية الفكر من بالغ الأهمية في تحصيل الحقيقة.
وفي سياق هذا الطرح نحسب أن من أهم أسباب التنافر والتباعد بين أهل المذاهب الإسلامية هو التكوين الفكري الذي يكونون عليه، والذي بحسبه تكون تصرفاتهم في التعامل المعرفي عامة والتعامل مع الآخرين من الناس خاصة، فالفكر هو الذي يحدد كيفية ذلك التعامل، فتتحدد تبعا لذلك الصلات بين الطوائف التي تختلف مشاربها المذهبية، والعلاقات الرابطة بينها، وبناء على ذلك فإنه يكون من أهم الأسباب المقربة لأهل المذاهب بعضهم من بعض المعالجة التربوية في المجال الفكري.
ج- المذهبية والتربية الفكرية :
نشأت في التاريخ الإسلامي مذاهب متعددة ذات أبعاد مختلفة فقهية وعقدية وسياسية، وكان لها أثر بين في وحدة الأمة سلبا أحيانا وإيجابا أحيان أخرى، والمتتبع لهذه المذاهب في نشأتها وفي مواقفها وتأثيراتها يتبين له أنها كانت في كل ذلك ناتجة عن اختلاف في النمط الفكري بين أصحابها المتمذهبين بها، وذلك بحسب المنهجية التي انتهجها كل منهم في التفكير بالرغم من أنهم يصدرون جميعا عن نفس المورد في الاعتقاد. فالمنتهجون للمنهج الظاهري كان لهم مذهب، والمنتهجون لمنهج التأويل كان لهم مذهب، والمنتهجون لمنهج التأويل كان لهم مذهب آخر، وكذلك الأمر لمن غلب عليه الاعتماد على النقل منهجا في النظر بالنسبة لمن غلب عليه اعتماد العقل، ومن غلب عليه اعتماد التريّض النفسي، فكل هذه المذاهب تعود في معرض تنوعها إلى سبب من اختلاف فكري، أي اختلاف في منهجية التفكير.
ولكن هذا الاختلاف الفكري الذي تنشأ عنه المذاهب قد يكون اختلافا مفضيا إلى اختلاف مذهبي يشتط به النأي حتى ينتهي إلى إخلال بوحدة الأمة، فتنشب بين أصحابالمذاهب الفرقة التي قد تصل إلى حد الفتنة، وقد يكون من الرشد بحيث يفضي إلى تنوع تثري به الحياة في وجوهها المختلفة، مع المحافظة على رباط الوحدة الجامع، ومرجع كل من هذا وذاك نوعية الاختلاف الفكري الذي تنشأ عنه تلك المذاهب، فإذا كان اختلافا يحافظ فيه الفكر على أقدار من الانفتاح على الآخر، ومن السعة لقبول المخالف لم يكن ذلك سببا في اختلال الوحدة، بل كان سببا من أسباب تدعيمها، وشاهده الخلاف الفكري الذي نشأت منه المذاهب الفقهية المتعددة التي أثرت به الحياة الإسلامية في كنف الوحدة، وإذا كان اختلافا يسقط به الفكر في خصال من الانغلاق عن الذات والرفض للآخر والزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة انتهى به الأمر إلى زعزعة وحدة الأمة، وشاهده الخلاف الذي نشأت منه فرق الخوارج في ضيق أفقها وظاهرية نظرها مما أفضى إلى فتن أخلت بوحدة الأمة عهدا من الزمن، وغير بعيد منه ما هو نابت اليوممن فئات وجماعات مذهبية تصدر عن فكر حرفي ضيق، فتنال من وحدة الأمة بما تحدث جراء ذلك من تشتت وفرقة، إضافة إلى ما تحدثه من ضرر بالدين نفسه جراء ما تقدمه للناس من صورة مشوهة له على أنها هي الإسلام الحق.
إن الأسباب التي تجعل من المذاهب عناصر قلق في وحدة الأمة بما تدفع إليه من خصام بين أهلها قد يتطور إلى صرا ع تعود في شطر كبير منها إلى أن الفكر الذي صدرت عنه في مبدئها، أو الذي آل إليه أمر المتمذهبين بها هو فكر مصاغ بحيث لا ينفتح على الآخرين بالقبول، ولا يمتد إليهم بالحوار المفضي إلى التعارف، فتنخرم إذن المعادلة التي يتحقق فيها الجمع بين الاختلاف المذهبي والوحدة باختلال الطرف الثاني من طرفيها، وهو طرف الوحدة، فإذا هو اختلاف يفضي إلى الصراع والتشتــت.
وبناء على ذلك فإن الوحدة المذهبية كما نطرحها في هذه الورقة ليس المقصود لها أن تكون الأمة جمعاء مذهبا واحدا في اجتهاداتها المفضية إلى تصوراتها الشرعية وسبل تطبيقها العملية، فذلك أمر غير ممكن في ذاته، وقد يكون غير مطلوب في الدين؛ إذ الاختلاف في الفهم طبيعة في الناس، وهو إذا لم يخرج عن دائرة الحق الذي هو معلوم من الدين بالضرورة فإنه قد يكون سبب ثراء تنمو به الأمة في مختلف جوانب حياتها.
وإنما المقصود بالوحدة المذهبية كما نفهمها وندعو إليها أن تكون المذاهب الناشئة في الأمة في نطاق ما هو صحيح من الدين قائمة فيما بينها على علاقة اعتراف متبادل بحق الوجود وحق البقاء والنماء، وعلى علاقة حوارية تنطلق فيها مما هو مشترك بينها، ويعذر بعضها بعضا فيما هو مناط اختلاف، فإذا هي تتكامل ولا تتناقض، وتلتقي عند تحقيق المصلحة الجامعة للأمة مع احتفاظها بخصوصياتها، كالجداول التي تسعى من المناطق المختلفة لتكون النهر الكبير الجامع بينها. ومن أهم ما يعالج به هذا الاختلال لتستقيم تلك المعادلة على نصابها الصحيح إصلاح فكري تؤخذ فيه العقول بالتربية على منهجية في التفكير تقوم على خصال يتسع بها أصحاب المذاهب لبعضهم بعض بالقبول، ويمتد بعضهم إلى بعض بالتعاون في البناء الحضاري ضمن وحدة جامعة للأمة.
فما هي تلك الخصال؟ وكيف تفضي إلى إقامة هذه المعادلة؟
أسس التربية الفكرية ودورها
في الوحدة المذهبية
إذا كانت الوحدة المذهبية كعامل من عوامل وحدة الأمة أو مظهر من مظاهرها تعني كما أشرنا إليه التكامل بين المذاهب فيما يختص به كل منها من مجال من المجالات المتعددة لحياة الامة، وإذا كانت تعني أيضا امتداد بعضها إلى بعض بالاستفادة المتبادلة تصحيحا لما هو خطأ واقتباسا لما هو صواب، وتنافسا شريفا في السبق لما فيه الخير، فإن ذلك ليس بالأمر الميسور حصوله بصفة تلقائية مهما كان من انتساب الجميع إلى ذات العقيدة، وتسليم الجميع بذات ما هو متوجب من وحدة الأمة كأحد مقتضيات تلك العقيدة،وإنما هو أمر يحصل بأن يؤخذ المنتسبون إلى المذاهب بتربية فكرية تتأسس بها منهجيتهم في النظر فهما وتقديرا وحكما وتمييزا على جملة من الأسس من شأنها أن تجعلهم تنفسح نفوس بعضهم إلى بعض بالقبول، وتمتد عقول بعضهم إلى بعض بالحوار ثم بالتعارف المثمر، فإذا هي الوحدة المذهبية بالمعنى الذي شرحناه، كأحد أهم مظاهر وحدة الأمة. ومن أهم الأسس في التربية الفكرية المفضية إلى تلك الوحدة المذهبية ما يلي :
أ- حرية الرأي :
قد يتبادر إلى الذهن أن حرية الرأي في التفكير والتعبير هي باب من أبواب الفرقة وليست سببا للتقارب، وذلك بما تتيح من فرص لإنتاج الأفكار والآراء المختلفة والتمسك بها والدفاع عنها مما يكون له أثر في تعدد الرأي المفضي إلى الاختلاف والتباعد؛ ولذلك يعمد البعض إلى التقييد من حرية الرأي حفاظا على الوحدة الجماعية كما يزعمون، وقطعا للطريق المفضية إلى التشتت والفرقة.
وفي هذاالتصور وما ينتج عنه من التقييد خطأ بين؛ وذلك لأنه عندما تتاح حرية الرأي للمسلم، ويتربى عليها في تفكيره: اجتهادا في إنتاج الآراء، وإصداعا بها ودفاعا عنها، فإن كل خواطره وأفكاره ومنازعه تُطرح بحكم حرية التعبير على مائدة النظر ومحك الحجة، وتُمتحن بالحوار مع الآخرين من خلال عرضها والدفاع عنها، وحينئذ يتبين لديه الصادق منها من الخاطئ، والقوي من الضعيف، ويكون ذلك سبيلا للالتقاء مع الآخرين من المخالفين لمذهبه بالثبات على ما تبينت حقيته بالحوار الحر، والرجوع عما تبين بطلانه بذلك الحوار.
وأما حينما يتربى المسلم على القمع الفكري في نطاق المذهبية المغلقة، فإن الكثير من الخواطر والأفكار التي تنشأ في الذهن تبقى حبيسة فيه بحكم القمع المعلن أو المضمر، وشيئا فشيئا ترتقي تلك الأفكار في النفس إلى درجة اليقين الجازم بأنها حق حتى ما كان منها في نفسه مظنونا أو موهوما، إذ هي لم تمتحن بتداولها مع الآخرين على محك الحجة، كما يرتقي في نفس الآن ما يُرى من أضدادها الواردة من الآخرين إلى درجة اليقين بأنها باطل ضال حتى ما كان في نفسه حقا، وينتهي الأمر بهذا المقموع في رأيه إلى أن يكون منافرا للآخرين من حملة الأفكار المخالفة لأفكاره، ناشزا عنهم ناميا في اتجاه معاكس لاتجاههم، ولا يلبث ذلك كله أن يعبر عن نفسه في مظاهر عملية من الخصام والصراع التي قد تبلغ مبلغ الاقتتال.
وقد كانت السيرة النبوية قائمة في تربية الأصحاب على الحرية في الرأي تفكيرا وتعبيرا كما هو متداول معروف(6) ، وبذلك تربى أولئك الأصحاب على الفكر الحر الذي يبدي الرأي ويدافع عنه، ويتلقى الرأي الآخر بالفهم والحوار، فكان ذلك سببا من أهم الأسباب التي حفظت الوحدة الإسلامية حينما تعرضت للامتحان القاسي بُعيد وفاة الرسول متمثلا في الموقف من خلافته لقيادة الأمة، ثم في الموقف من حروب الردةحينما اختلفت الآراء فيهما بما يشبه بذورا لمذهبية متقابلة، وما حفظت تلك الوحدة إلا بالحرية في الرأي التي بها وقع تداول الأمر بين الصحابة رضوان الله عليهم في كل من الموقفين، وانتهوا فيه بالحوار الحر إلى ما حفظ وحدة الأمة في أكثر الظروف مظنة لا ختلالها(7).
وفي التجربة العملية للتاريخ الإسلامي يتبين أنه كلما أتيحت حرية الرأي لأفراد الأمة انتظمت الوحدة الثقافية وإن تعددت المذاهب، وكلما ساد القهر الفكري بأي شكل من أشكاله تشتت تلك الوحدة ونشأ الصراع. ومن شواهد ذلك ما كان يسود من تعاون بين الأئمة المؤسسين للمذاهب الفقهية الكبرى وأتباع مذاهبهم في العهد الأول الذي كان يسوده الاجتهاد الحر، حتى إذا ماجاء عهد الجمود الذي انغلق فيه الاجتهاد وصودرت حرية الرأي أصبح أولئك الأتباع في تعصب مذهبي يفضي في كثير من الأحيان إلى الفرقة والخصام.
ب- النقدية والمقارنة :
ونقصد بها الانفتاح على الآراء المختلفة عند إعمال العقل في قضايا المعرفة بما فيها المتقابلة والمتناقضة، والنظر فيها نظر المقارنة بينها في غير حجب لشيء منها واستبعاد له من دائرة البحث. وهذه النقدية المقارنة هي خصلة فكرية إذا ما تربى عليها عقل سليم وأصبحت خاصية راسخة فيه فإن من شأنها أن توجهه وجهة التقارب مع المخالفين له في الرأي، وان تجعل المتكونين عليها من أهل المذاهب ينفتح بعضهم على بعض ويأنس بعضهم لبعض ويعتذر بعضهم لبعض، فيكون التلاقي العاصم من الخصام والتعادي، والتعاون العاصم من الفرقة والتشتت.
وبيان ذلك أن الانفتاح على المذاهب والآراء الأخرى، والمعرفة بمضامينها من الأفكار مهما تكن مخالفة لما يراه الناظر فيها، ومقارنتها بغيرها مما هو معلوم معهود، من شأنه كله أن ينشئ في النفس نوعا من الاستئناس، وينفي منها الشعور الطبيعي بالغربة إزاء ما هو مخالف أو مناقض، كما أن من شأنه أيضا أن يتيح الفرصة للاطلاع على وجوه الحق التي قد ينطوي عليها المخالف من المذاهب والآراء، وذلك من خلال المقارنة الناقدة، وكل هذه دواع للتقارب نفسيا وفكريا مما يتيح مناخ الألفة والتعاون، أو يحول على الأقل دون التعادي والفرقة.
وأما التربية الخطية في الفكر، وهي تلك التي تكون المسلم على الاقتصار في النظر على الرأي الواحد، وتستبعد المخالفات له من الآراء من دائرة النظر والبحث في خطية لا تتيح الالتفات ذات اليمين أو ذات الشمال لرؤية ما هو خارج عن الخط المرسوم، فإنها تربية فكرية تنشئ في النفس روح العداء لما هو مجهول ـ والانسان عدو ما يجهل ـ وهي سبب متين من أسباب الفرقة المذهبية بين الطوائف الإسلامية.
وعند التبين يظهر أن أكثر أهل المذاهب افتراقا هم أولئك الذين يفتقرون إلى المعرفة بما عند الآخرين من الآراء والأفكار، المقتصرون على ما عند الذات من الآراء بحسبان أنها الحقالذي لا حق غيره، وعلى العكس من ذلك فإن أكثر العلماء سماحة مع الآخرين وإعذارا لهم وتعاونا معهم هم أولئك الذين اتسعت معارفهم بالمذاهب واطلاعهم عليها، واتسعت مشاركتهم في العلوم المقارنة التي تجمع مختلف الآراء ومتناقضاتها، وأما المقتصرون في معارفهم على العلم الواحد والمذهب الواحد، فإنه كثيرا ما يؤدي بهم ذلك إلى التعصب الرافض للآخرين المنافر لهم.
ولو مثلنا لهذا الملحظ بالإمام الطبري في القديم والإمام محمد الطاهر بن عاشور في الحديث بما عليه كل منهما من سعة علم بآراء الآخرين ومذاهبهم، وما أثمر ذلك من تسامحهم وإعذارهم لكان مصداقا لما قلنا، ولكان مصداقا له أيضا لو مثلنا في الحال المقابلة بما نرى اليوم من تشتت بل من صراع بين الجماعات المتمذهبة بمذاهب شتى جراء ما تربت عليه في تكوينها الفكري من انغلاق تعليمي على المذهب الموحد، وصرف للنظر عن أي مذهب غيره، مما أفضى إلى اعتقاد أنه هو الحق المطلق، واعتبار أن ذلك الغير هو الباطل المطلق الجدير بالعداء والرفض، فإذا هي فرقة وخصام واختلال في وحدة الأمة(8).
جـ- الشمولية والكلية :
هي خصلة فكرية يكون بها الفكر منتهيا في تكوين الرأي وتقدير الأحكام إلى استخلاص الكلي من النظر في الجزئيات الكثيرة والعينات الشخصية المتعددة، وتقابلها صفة الجزئية التي إذا ما اتصف بها الفكر انتهت به إلى تكوين الرأي وتقدير الحكم من الجزئية الواحدة من مادة البحث والنظر.
وحينما يربى المسلم على النظر الكلي الشامل الذي يتناول به الموضوع في جزئياته وتفاصيله لينتهي منها إلى الرأي العام المبني عليها كلها، فإنه سيكون بذلك ملتقيا مع الآخرين على صعيد نفس النتيجة التي انتهوا هم إليها بنفس المنهج، أو على صعيد ما يقاربها على الأقل، إذ الكل قد صعد إلى الموقع الكلي الذي يتراءون فيه على صعيد واحد فيما يشبه الجماعة من الناس حينما يتفحصون باستقصاء عمارة في جزئياتها الداخلية، ثم ينتهون من ذلك إلى الخروج منها لتكوين الفكرة الكلية عنها، فإنهم حينئذ يلتقون في هذا الخارج وهم على علم متجانس تكون لديهم عن تلك العمارة استخلاصا لصورتها الكلية من جزئياتها التفصيلية، فكذلك الأمر بالنسبة لرواد المعرفة في الخلوص من الجزئيات إلى الكليات في تصور الحقائق وتقدير الأحكام.
وأما من يتربى على النظر الجزئي فإنه سيجد نفسه مخالفا للآخرين مناقضا لهم، إذ هو يبقى حبيس الجزئية من مادة نظره، يصدر في حكمه مقتصرا عنها، في حين يصدر الآخر في حكمه عن جزئية أخرى، فينتهي كل إلى واد لا يلتقي فيه مع الآخر، وهو ما يشبه حال أفراد الجماعة الذين ارتادوا العمارة، ولكن كلا منهم صدر في تصور حقيقتها اقتصارا على مشاهداته في الغرفة التي بقي حبيسا فيها، وهي غير الغرف التي صدر عنها الآخرون، فإذا لكل تصوره الخاص المخالف لتصورات الآخرين، فلا يكون بينهم التقاء في التصور ولا في التقدير، وإذا ما خرجوا تخاصموا وافترقوا بسبب اختلاف الصور التي حصلت لهم من ذلك النظر الجزئي.
وفي التاريخ الثقافي السياسي الاسلامي نجد الخوارج هم أكثر الناس افتراقا فيما بينهم حتى فاقت فرقهم في العدد فرق أي مذهب آخر، وأكثرهم افتراقا مع المسلمين بصفة عامة، ونحسب أن من أهم أسباب ذلك ما كانوا عليه من فكر جزئي بالرغم مما يُرى من صدقهم الديني وحسن نيتهم، فقد كانوا يتخذون الموقف الخطير بناء على جزئية واحدة من جزئيات الأدلة الشرعية دون نظر إلى الجزئيات الأخرى في نفس موضوعها، فيكون بينهم الافتراق، وذلك على نحو ما حدث في موقفهم المشهور من التحكيم ناشئا من نظرهم الجزئي الضيق في استخلاص معناه من الأدلة وتنزيله على الواقعة التاريخية(9).
ويعاني المسلمون اليوم كثيرا من مظاهر الفرقة والتدابر بين المذاهب والطوائف والحركات والاتجاهات بسبب من هذا التقدير الجزئي الذي طبع الكثير من الأذهان، فكل ينظر في حديث نبوي واحد أو آية قرآنية واحدة، ومنها يصدر في تقرير رأيه وبناء موقفه، وذلك في غير جمع بين الأحاديث والآيات الواردة في نفس الموضوع لتعالج بالنظر الكلي المفضي إلى الرأي الصواب الذي يلتقي عليه الأكثرون، فتكون بينهم الوحدة والوفاق، ولعل الأغلب مما تعانيه الأمة اليوم من الافتراق، وما تتعرض له من المحن ناشئ من المواقف التي تبنى على جزئيات من الأدلة الشرعية في غير نظر شامل إلى مجموع ما هو وارد في الموضوع الذي وردت فيه وعلاقته بأسبابه وبمناطاته ومقاصده ليستبين فيه الحق الذي تلتقي عليه الأغلبية، وتحفظ به الوحدة.
د- الواقعية :
المقصود بهذه الصفة تربية العقل السليم على أن يتطبع تفكيره في تقدير المواقف والأحكام، وإيجاد الحلول للمشاكل المطروحة بطابع الانطلاق من الواقع المعاش في حياة الناس، وأن يتخذ ذلك معطى أساسيا من معطيات البحث والتقدير ويقابل هذه الصفة الفكرية صفة المثالية المجردة التي تبنى فيها الآراء والحلول من المثال الحاصل في الذهن على غير اعتبار للواقع الذي تجري به الحياة ومقتضياته العملية.
وحينما يكون الفكر تجريديا مثاليا في تقدير الأحكام والمواقف فإن كل فرد أو مجوعة أو أصحاب مذهب يبنون لهم بهذا المسلك آراء وتصورات مثالية قابلة لأن يذهب فيها كل منهم مذهبا خاصا به، إذ هي غير خاضعة لميزان الواقع الموضوعي الذي يراد معالجته، فيكون إذن سبب هذا الاختلاف في التقدير وتشبث كل بما انتهى إليه في تعصب يلغي الآخرين وتصوراتهم المثالية المخالفة.
وأما حينما يتكون الفكر على الواقعية، فإنه يكون منطلقا من معطيات الواقع الذي هو مادة موضوعية مشتركة بين الناظرين، فيكون ذلك منطلقا موحدا يجمع الباحثين والناظرين على صعيد موحد يتحاكمون فيه إلى ماهو موضوعي مشترك، فيكون بينهم التلاقي في المنطق الذي ينتهي في الغالب إلى التلاقي في المنتهى من النتائج، فتتوفر ضمانات الوفاق، وتضيق أسباب الفراق.
وإذا عدنا إلى مثال الخوارج فإننا نجد من أسباب فرقتهم للمسلمين وافتراقهم فيما بينهم ما هم عليه من المثالية الغالية في معالجة المشاكل الطارئة، بحيث بنوا مواقفهم على المقتضيات النظرية المجردة من نصوص القرآن دون اعتبار لملابسات الواقع، فإذا هم في كل موقف ينقسمون أشطارا فيما بينهم، ويزدادون ابتعادا عن سائر المسلمين. وقد كان علي ] على حكمة عظيمة حينما أوصى من أرسله إليهم ليحاججهم بأن يجادلهم بالسنة لأن القرآن حمال ذو وجوه، وأما السنة فهي تطبيقات واقعية عملية.
واليوم نجد الجماعات والفرق الأشد رفضا للآخرين، والأشد عداوة لهم بما يصل إلى التكفير هم أولئك الذين ينتهجون منهجا مثاليا ينطلق من الفقه النظري المجرد، وتصرف فيه الأنظار عن الواقع وملابساته في سبيل تقدير طرق علاجه، ومن هناك ينشأ الإلغاء لهذا الواقع وأهله، والعداء لهم والفرقة عنهم على نحو ما هو مشاهد في أحوال البعض من الجماعات في مختلف البلاد، وخاصة منها تلك التي تتأسس على قاعدة من الشباب الأكثر قابلية للمثالية وابتعادا عن الواقعية، وذلك سواء من حيث أفكارهم النظرية أو من حيث مواقفهم العملية.
هـ- الحِوَارِيَّة :
وهي صفة يتربى عليها العقل، فيصبح في حركته الفكرية ممتدا إلى عقول الآخرين يعرض عليها ما توصل إليه من أفكار : شرحا لحقيقتها، واحتجاجا لها، بغية بيانها لتلك العقول، ووضعها أمامها على محك الامتحان، كما يصبح ممتدا إليها لاستبانة ما توصلت إليه هي من آراء، للنظر فيها، والوقوف على ما تضمنته من قوة ومن ضعف، استفادة من قوتها واتقاء لضعفها، وذلك في حركة تفاعل مشترك بين العقول تنشر فيه المذاهب بما تتكون منه من الأفكار والمعتقدات للتداول عرضا وتفهما ونقدا وتصحيحا واقتباسا بحيث تمتد تلك العقول بعضها إلى بعض، وينفسح بعضها لبعض.
وحينما يتربى عقل المسلم على هذه الصفة الفكرية فإن أصحاب كل مذهب يصبح المذهب الآخر عندهم معهودا بما امتدت به إليه عقولهم من بحث، وذلك ما تُقْطع به نصف المسافة في طريق الوحدة؛ إذ به ترفع الجهالة المفضية غالبا إلى العداوة، وبه ينشأ العلم الذي ينتهي غالبا إلى القبول النفسي للمذهب الآخر شريكا ذا حق في الوجود، فإذا ما وجد أصحاب مذهب ما في المذهب الآخر وجوها من الحق استبانت بالحوار فاقتبسوها منه قطع بذلك النصف الآخر من طريق الوحدة، إذ يصبح هذ ا المذهب الآخر بذلك قريبا من النفوس بما أصبح له من حق الوجود، وقريبا من العقول بما هو منطو عليه من بعض وجوه الحق، ويصبح الاختلاف بذلك إذن اختلافا في نطاق القبول المتبادل نفسيا، والاستفادة المتبادلة عقليا، وتلك هي الوحدة المذهبية التي استوت معادلتها كما بيناها آنفا.
وفي مقابل ذلك فإن المسلم إذا ما تربى عقله على الانغلاق على ما اقتنع به من مذهب، وانكمش عن أن يمتد إلى المذهب الآخر بالعرض لما عنده والاختيار النقدي لما عند ذلك الآخر، فإن أصحاب المذاهب يصبحون كأنما يعيشون في جزر مغلقة، تفصلها الحواجز، ويجهل بعضها بعضا، وينمو كل منها منعزلا عن الآخر، وتلك كلها أسباب للتدابر الذي قد يتطور إلى أن يصبح تناقضا ينتهي إلى الصراع الذي تحصل به الفرقة وتختل به الوحدة لاختلال معادلتها.
ولأجل هذه الوحدة التي يسهم الحوار في بنائها بقسط وافر دعا القرآن الكريم إلى الحوار بين المسلمين وبين أصحاب المذاهب المخالفة بله أن يكون هذا الحوار فيما بينهم على اختلاف مذاهبهم، وما تشريع مجادلة المخالفين بالتي هي أحسن، وتشريع الشورى أسلوبا في تداول الرأي بين المسلمين إلا مظهرا من مظاهر التشريع للحوار سببا من أسبا الوحدة في النطاق الانساني العام، وفي نطاق الجماعة الاسلامية كل بحسب العناصر المحددة لمفهومه، وبحسب غاياته المطلوبة منه.
وقد جاءت السنة النبوية تؤكد التشريع للحوار أسلوبا في التعامل بين أصحاب الآراء المختلفة، وتربي الفكر الإسلامي عليه، وهو ما يتبين فيما كان يسلكه النبي في تعامله مع ما يظهر من آراء مخالفة لرأيه من قبل أصحابه، إذ يتعمد أن يسلك معهم فيها سبيل الحوار، ويدفعهم هم دفعا إلى ذلك حتى ينتهي الأمر إلى ضرب من التوافق بين الطرفين ثمرة لذلك المسلك الحواري (10)، كما يتبين فيما كان يسلكه مع المخالفين من أصحاب الديانات والمذاهب، إذ كان يجادلهم في مذاهبهم ومعتقداتهم، ويدعوهم إلى الحوار فيما فيه الخلاف بينه وبينهم ليستبين الحق من خلال ذلك الحوار، ويلتقي الطرفان على ما يتبين من ذلك الحق(11). ومن أغراض ذلك كله تربية العقل المسلم على الفكر الحواري الذي ينفتح على المخالفين بالافضاءإليهم بما عنده، وسماع ما عندهم، لينتهي الأمر إلى تقارب يتأسس على القبول المتبادل نفسيا وعقليا بما يحفظ الوحدة، ويحول دون التشتت والفرقة.
وقد بنيت الثقافة الإسلامية على الحوار بين مختلف المذاهب وأصحاب الآراء، وهو ما تجلى فيما كان يدور بين أهل الكفر والعلم من مختلف المذاهب من مناظرات واسعة، كما تجلى فيما حفظه لنا التراث المكتوب من طريقة في التأليف تقوم على عرض الآراء المخالفة ومناقشتها والحوار معها فيما أصبح سنة ثقافية ثابتة، حتى إنه إذا لم توجد في الواقع أفكار مخالفة في قضية من القضايا افتُرض وقوعها افتراضا، وهو ما جرت به العبارة الشهيرة في كتب التراث “فإن قيل.. قلت”، مما يدل على المنهجية الحوارية التي انطبع بها الفكر الإسلامي، وهي الصفة التي كانت أحد الأسباب الهامة التي أسست للوحدة المذهبية في الثقافة الإسلامية بالمفهوم الذي شرحناه، والتي إذا ما أصابها ضعف عند فئة من الفئات أو في فترة من الفترات بدا أثر ذلك جليا في اختلال معادلة الوحدة بالميل إلى طرق الاختلاف في اتجاه الصراع والفرقة.
إنه إذا ما انتهج المسلمون على اختلاف مذاهبهم تربية لأتباعهم تقوم على تشكيل العقل بهذه الخصال المنهجية الخمس، ابتداء بالتربية الأسرية، ومرورا بالتربية التعليمية، وانتهاء إلى التربية الدعوية العامة، فإن ذلك يكون أحد الضمانات الأساسية المتصفة بالعمق والثبات للتقارب بين أهل المذاهب وانفساح بعضهم لبعض، وتعاون بعضهم مع بعض، ولا شك أنها أمر صعب طويل النفس، إلا أننا نحسب أنها هي الطريق الأقوم والأثبت في سبيل وحدة الأمة تحقيقا للوحدة المذهبية المتمثلة في انفتاحها على بعضها، وتفاعلها فيما بينها بما يفضي إلى الأخذ بما هو حق والتخلي على ما هو باطل مهما كان المأتى الذي يأتي منه كل منهما، وذلك مع المحافظة على التميز المذهبي، فهو بذلك يكون عامل إثراء للحياة الاسلامية، وسبب تنافس في السبق للخيرات.
……………………………..
1- من أمثلة ذلك قديما ما أحدثه من فرقة تأثر البعض من المسلمين بمنهجية التفكير اليونانية القائمة على المنطقية الصورية، وتأثر البعض الآخر بالمنهجية الإشراقية القائمة على التروحن، وذلك في مقابل المنهجية التي أنشأها في عقول المسلمين المنطق القرآني بخصوصياتها المتميزة، فالاختلاف في هذه المناهج أحدث اختلافا مذهبيا حادا في الأمة. راجع في ذلك “علي سامي النشار”ـ نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام.
2- ابن منظور ـ لسان العرب : مادة : فكر.
3- الجرجاني ـ التعريفات 176 (ط مكتبة لبنان مصورة عن طبعة فلوجل، بيروت 1985، وراجع أيضا : ابن سينا ـ الإشارات والتنبيها (تحقيق : سليمان دنيا، ط الحلبي، القاهرة 1947) : 23/1، والرازي- المحصل : 68 (ط دار الكتاب اللبناني، بيروت 1984)، وراجع كتابنا : دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين : 27 وما بعدها (ط المعهد العالمي للفكر الاسلامي، فرجينا 1992).
4- وذلك على سبيل المثال هو ما يفرق بين العقل الذي ربي على الأسطورة والخرافة، والعقل الذي ربي على المنطقية السببية، أو على الواقعية التجريبية فيما ينتهي إليه كل منهما من إصابة للحقيقة أو خطأ فيها.
5- راجع في هذا المعنى : محمد إقبال ـ تجديد التفكير الديني في الاسلام : 146 وما بعدها.
6- كثيرا ما كان النبي إذا ما حز به أمر مهم يجمع أصحابه وينادي فيهم : أشيروا علي، تربية لهم على حرية الرأي وإلا فإنه هو المؤيد بالوحي المعصوم من الخطأ.
7- نشير بهذا إلى ما وقع في اجتماع السقيفة حينما انشقت مواقف المسلمين انشقاقا خطيرا إلى حزبين : حزب يرى الخلافة في المهاجرين وحزب يراها في الأنصار، وحسم الأمر بحوار شهير انتهى إلى الوحدة. كما نشير إلى اختلاف الرأي بين الصحابة حينماارتدت العرب بعد وفاة الرسول بين من يرى حربهم وبين من لا يرى ذلك، وحسم الأمر أيضا بحوار حر بين أصحاب الرأيين.
8- زرنا في إحدى المناسبات كلية من كليات الشريعة في دولة إسلامية، فلاحظنا أن منهجها الدراسي لا يشتمل على مادة تدرس فيها المذاهب والفلسفات المخالفة، فلما تساءلنا عن ذلك أُجبنا من طرف المسؤولين بأن الطلبة يقع تعليمهم الإسلام بشمولية وعمق، حتى إذا ما تخرجوا كان لهم ذلك مقياسا عرفوا به أن كل ما هو مخالف لما تعلموه هو باطل يجب أن يستبعد ويرفض، وهكذا تفضي هذه التربية الفكرية إلى خطية رافضة للغير، فتكون سببا من أسباب الخلل في وحدة الأمة.
9- قالوا : لا نحكم الرجال في دين الله، ولم ينظروا نظرة شاملة إلى التحكيم في معانيه المختلفة كما جاءت بها نصوص الوحي، وكما وردت في المواقف النبوية، فانتهوا إلى ما انتهوا إليه من موقف اختلت به وحدة الأمة ونبتت به الفتنة، وقد ناظرهم ابن عباس في ذلك بفكر كلي جمع بين كل الأذلة في ذات المسألة فرجع منهم نفر إلى الصواب وتمادى الكثيرون على الخطإ بسبب النظر الجزئي.
10- من أمثلة ذلك ما وقع إثر غزوة حنين لما تألف نفرا من قريش بشيء من الفيء لوم يعط الأنصار فوجد بعض منهم من ذلك وقالوا فيه كلاما بلغ النبي، فناداهم يشرح لهم الأسباب وبحاورهم فيما فعل، فكانوا لا يجيبون بحجتهم تهيبا له، فقال لهم يدفعهم إلى الحوار : “ما منعكم أن تجيبوا رسول الله؟… لو شئتم قلتم فلصدقتم ولصُدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك، وعائلا قآسيناك..” وما زال بهم يحاورهم في الأمر ويدفعهم إلى الحوار حتى انتهى الجمع إلى وفاق, راجع : صحيح البخاري : حديث رقم : 75. 4 (ط دار ابن كثير، بيروت 1987).
“ذلك ما كان توجيها قرآنيا كما في قوله تعالى : {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}(آل عمران : 64) وقوله تعالى : {وجادلهم بالتي هي أحسن}النحل : 125).
أ. د . عبد المجيد النجار