< (سفراء التغريب ) كشفوا عن عدائهم السافر لثوابت الأمة في وهويتها.
< (نقاد الحداثة ) يعملون على تطبيق النموذج الغربي على النص العربي !
< “نجيب محفوظ ” يسخر من نقاده، ولا يعترف بالمذاهب الأدبية !!
ما هي معالم التجربة الأدبية في ظل خصائص التصور الإسلامي ؟ وكيف يمكن تصفية التصور الإسلامي من الشوائب التي علقت به ؟ وما هوموقف الأديب المسلم من التراث الإنساني الموروث.. ماذا يقبل منه.. وماذا يرفض ؟!.. وهل مصطلح (الواقعية الإسلامية ) مضاهاة أوتقليد وتأثر بمذهب (الواقعية الغربية ) ؟ وما هي أبعاد الرؤية الإسلامية في الشعر المعاصر ؟.. ومن وراء موجات ” التغريب ” التي اجتاحت حياتنا الأدبية والثقافية ؟ !.. وهل – حقا – استطاعت القصة أوالرواية أن تحل مكان الشعر الذي تربع على قائمة الفنون طيلة القرون الماضية ؟ ! ولماذا انقطعت روح التواصل بين المبدع والمتلقي في العالم العربي كله ؟ وما هومستقبل الأدب في السنين القادمة.. ؟ !.. وماذا.. وماذا.. كل هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على الشاعر والناقد الأزهري – الدكتور/ صابر عبد الدايم – وكيل كلية اللغة العربية ( فرع جامعة الأزهر بالزقازيق ).. والى التفاصيل :
< د. صابر عبد الدايم – ما هي معالم التجربة الأدبية في ظل خصائص التصور الإسلامي – من وجهة نظركم – ؟ !
> نعم.. إن الشخصية الإسلامية لها مقوماتها التي لا تتجزأ، ولها تصوراتها التي لا تقبل التشتت، وهذه المعالم تنطلق من منظور كلي شامل،في العقيدة والكون والأدب والحياة والأديب المسلم في ظل هذا التصور تنطلق تجاربه من منبع إيمانه الفياض بالتسليم المطلق لخالق الكون جل وعلا، وهويمزج هذه الانطلاقة الإيمانية بالتأمل في مشاهد الكون، والنظر في ملكوت السماوات والأرض، واستجلاء معالم القدرة الإلهية في صنعة هذا الكون البديع المتناسق. وهوفي غمرة تجاربه الإيمانية والتأملية لا يكون بمعزل عن واقع الحياة ومشاغل الإنسان وآماله وأحلامه، فهوفي إيمانه يتأمل ما خفي من أسرار الكون، وهوفي تأملاته يستجلي أسرار الحياة ويبحث عن منافذ الخلاص للإنسان عبر رؤية إسلامية متميزة متفردة تصاغ معالمها في قالب فني مؤثر.
< ألا تعتقد أن التصور الإسلامي في مختلف العصور السابقة لحقت به شوائب الفلسفات الوافدة والداخيلة.. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تصفية وتنقية هذا التصور الإسلامي مما علق به من أدران وشوائب المعتقدات الأخرى ؟
> هذا صحيح، ولكن لا أحب أن يدفعنا حماسنا تجاه قضية تصفية التصور الإسلامي من كل شائبة إلى المبالغة والتعسف في الانعزال والقطيعة بل والموقف الرافض لثمار الفكر الإسلامي في أزهى عصوره..
وأعتقد انه في حقل الأدب والثقافة، لم يقلد النقاد والشعراء الأدب الإغريقي الوثني، لأنه لم يترجم لهم كاملاً، كما أن هذا الأدب الوافد لا يتوافق مع وجدان الشاعر المسلم، وإن كان هناك ثلة من الشعراء أصابتهم حمى هذه الثقافات الوثنية الوافدة، مثل ظاهرة المجون والزندقة والإغراق في الفلسفات الباطنية كما حدث عند بعض الشعراء العباسيين.
< إذن – ما هوموقف الأديب المسلم المعاصر من التراث الإنساني الموروث.. ماذا يقبل منه.. وماذا يرفض؟!
> الحقيقة أن الأديب المسلم مطالب بالوعي التام، والحذر الشديد وهويقرأ التراث الإنساني، ولعل الدعوة إلى معرفة النقيض أواكتشاف معالم الوجه المضاد تفتح أمام المفكر المسلم والأديب المسلم أبواباً متعددة للدخول منها إلى عوالم الثقافة القديمة والحديثة، فالأديب المسلم ليس بمعزل عن التيارات السائدة، بل عليه أن يتحصن ضد المعرفة بالمعرفة، فيصفي، ويحلل، ويفحص ما يقدم إليه، ويقبل ما يتوافق مع فطرته الإنسانية، وآرائه الفنية، ويكشف زيف الفكر الدخيل والرؤى الهدامة.
< هل “الواقعية الإسلامية ” التي اصطلحها البعض، مضاهاة وتقليد أم تأثر بمذهب ” الواقعية الغربية “..؟ !
> المقصود بالواقعية في الإسلام هوالتحقق في عالم الواقع، وهذا المفهوم مجرد من كل ما علق بالواقعية من معنى اصطلاحي تاريخي في البيئات الأخرى، وليست الواقعية إقرارا بما يدور في عالم الواقع من إيجابيات وسلبيات، وانضباطات وانحرافات ولكنها مثالية واقعية، لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل نموذج تملك البشرية أن تصعد إليه.
وفى رأيي أن للواقعية في التصور الإسلامي ثلاثة مظاهر :
1- التعامل مع الحقيقة الإلهية متمثلة في أثارها الإيجابية وفاعليتها الواقعية.
2- التعامل مع الحقيقة الكونية متمثلة في مشاهدها المحسوسة المؤثرة أوالمتأثرة.
3- التعامل مع الحقيقة الإنسانية متمثلة في الأناس كما هم في عالم الواقع.
إن هذه الواقعية لا تلتقي مع الواقعية التي اصطلح عليها النقاد في العصر الحديث لأنها تمثل وجهة نظر تخالف قيم الإنسان حيث ترى الحياة من خلال منظار أسود، وترى أن الشر هوأساس الحياة، وان التشاؤم والحذر هما الأجدر ببني البشر لا المثالية والتفاؤل، ولذا نحن ضد واقعية ” فولتير ” و” بلزاك ” اللذين يمثلان الواقعية باصطلاحها الأوربي البغيض، والتي أثرت في أدبنا العربي تأثيراً جذرياً لم يعد قادراً على النجاة بنفسه منه، ولعل إنتاج نجيب محفوظ الروائي، وإنتاج توفيق الحكيم المسرحي، وكذلك إنتاج يوسف إدريس القصصي يعد محاكاة وصدى لقيم الواقعية المحزنة الفنية والموضوعية، وقد سار على دربهم وحاكاهم المبدعون الشباب في العالم العربي، بل توغلوا في واقعيتهم المشوهة التي لوثت الأدب والفن.
< لعلك تتفق معنا في أن الرؤية الإسلامية انتظمت كثيراً من أعمال أدبائنا المعاصرين، خاصة في مجال الشعر.. ؟؟
> بالطبع، فالرؤية الإسلامية في الشعر المعاصر في النموذج الأمثل لها تبتعد عن الشعر الديني المباشر في شعر المناجاة والتضرع وشعر الوعظ، والحث على التعاليم الإسلامية، فذلك مجال تعليمي في الاتجاه الأخير منه، ولكن هذه الرؤية تتمثل روح الإسلام، وتستجيب لأثره الفعال في تغيير الوجدان، وفى تغيير رؤية الإنسان للأشياء، وكذلك تستوحي هذه الرؤية جوالحضارة الإسلامية، وفى مواقفه وشخوصه، وأماكنه وأزمنته، ولا تروي هذه الرؤية في صياغتها الفنية التاريخ في صورة سريعة تقريرية، بل تمتزج بروح ذلك التاريخ، وتشكل منه واقعا حضاريا له شخصيته ونفاذه وتأثيره..
وهناك جيل من الشعراء الجدد يتشكل في إطار هذه الرؤية الشعرية الإسلامية على امتداد الوطن الإسلامي والعربي، ومنهم على سبيل المثال : محمد بن عمارة، ومحمد علي الرباوي، عبد الله شرف، عبد الرحمن صالح العشماوي، صابر عبد الدايم، جابر قميحة، د. عدنان النحوي، ياسر غريب.. وغيرهم من الشعراء السائرين في وهج التيارالإسلامى
< بالرغم من تراثنا العريق وتقاليدنا الصارمة – ترى – كيف استطاعت موجات التغريب اجتياح حياتنا الأدبية والثقافية إلى هذا الحد.. ؟ !
> كان تمزق الأمة الإسلامية، ووقوع الوطن العربي في قبضة الاستعمار الغربي، وطغيان الفكر الاستشراقي المعادي للعروبة والإسلام، كان ذلك بمثابة تمهيد للغزوالفكري، كما أن هذه الموجات العاتية من المد الفكري التغريبي – للأسف – وجدت عقولا انهزامية تستجيب لكل أصدائها، ووقعت هذه العقول فريسة هذه الاستجابات العمياء للثقافات الوافدة، وقد بلغت المأساة ذروتها حين وجدنا من يروج للتغريب، ويركب موجاته المخادعة التي تغرق في غياهبها كل من يحتمي بها أويظن النجاة في السباحة مع تيارها.
وكثير من رواد الفكر ” المزعومين الواهمين ” في مصر والمغرب وتونس وسوريا ولبنان.. قد صنعوا من فكرهم بوقا يردد في غير وعي مبادئ الثقافات الوافدة، ويروج لها ويحاكيها في مؤلفاته وآرائه، وأحيانا كثيرة يقوم بعض هؤلاء ” الواهمين ” بسرقة الأفكار التغريبية وتقديمها في صورة مشوهة ممسوخة.. وقد تأثرت الحياة الثقافية والفكرية والإبداعية بهذه الموجات الطاغية، ففسد المناخ الشعري في كثير من بلدان العالم العربي، وشوهت الحياة الفكرية وغابت رؤاها.
وإن كانت هذه الموجة الإلحادية بدأت في الانحسار، خاصة بعد سقوط الشيوعية، وظهور الصحوة الإسلامية التي قرعت الأبواب بشدة، وأيقظت النائمين والتائهين، إلا أننا مازلنا في حاجة إلى تكاثف جهود المخلصين لدينهم ووطنهم من أبناء الأمة.
< هناك من يقول بأن هذا ( عصر الرواية )، وأنها المؤرخ الحقيقي لحياتنا المعاصرة – بعد أن أطاحت بعرش الشعر الذي ظل متربعاً على القمة طيلة القرون الماضية كلها.. ما مدى صحة هذه المقولة ؟ وما هي الأسباب التي وراء انزواء الشعر، وهروب الشعراء من الميدان – ولصالح من سوف تحسم هذه المنافسة.. ؟ !
> بالفعل – وقد حدث ذلك-، فالرواية والقصة القصيرة تنافسان الآن الشعر منافسة ضارية، ولكنهما لم يصبحا بديلاً عنه بعد، فمازال الشعر على الساحة، له حضوره الفعال، وأثره الغائر في النفوس..
وهناك عوامل كثيرة وراء تفوق فن القصة وفن الرواية في جذب القارئ، وفي القدرة على التأثير، وعلى الالتحام بواقع الزمان والمكان، أوبإيقاعات الحياة المعاصرة..أهم هذه العوامـــل :
- إن القصة والرواية يمكن تحويلهما إلى مسلسلات درامية تلفازية، تصل إلى ملايين المشاهدين، وتؤثر فيهم.. أما الشعر فما زال أسير الكلمة المكتوبة !
- إن القصة والرواية لا يميل كثير من كتابهما إلى الأساليب الملغزة، ولا إلى الغموض الموغل في الغرابة والبعد عن واقع الناس.
- إن الشعراء، وبخاصة ” شعراء الحداثة ” قد انحرفوا بالشعر عن مساره الصحيح، وأوغلوا في الغموض، وكشفوا عن عدائهم السافر لثوابت الأمة في تراثها وواقعها.. وتمادوا في الانحراف عن مألوف اللغة ومألوف العرف.. وأتوا بتجارب أقرب إلى الهذيان والعبث والمجون والتكلف..
وهذه المثالب والتشوهات التي ناءت بها تجارب كثير من شعراء الحداثة، أدت إلى انصراف الناس عن الشعر والشعراء، وانصرافهم إلى ميادين أخرى، ومن هنا أتيحت الفرصة للرواية والقصة ” مؤقتا ” جوالغلبة والفوز.
ولكن مازال فريق من الشعراء المخلصين لهذا الفن السامق، يبدعون القصيدة الشعرية الصافية في شكليها ” الخليلي والتفعيلى “، ويقدمون تجارب شعرية صادقة مؤثرة في وجدان الناس وفى مسيرة الحياة. وعلى عاتق هذا الفريق من الشعراء يقع عبء استرداد المكانة اللائقة للشعر من جديد، فهوفن العربية الأول، والأمل معقود على الشعراء الجادين الذين يبدعون في مجال التجارب الإسلامية النابضة بعبق الحضارة الإسلامية الراسخة.
<باعتبارك – من المتابعين للمسيرة الإبداعية والنقدية في الوطن العربي.. فما هوتقييمك للحركة النقدية المعاصرة، خاصة بعد تعدد المدارس الأدبية من المشرق والمغرب.. ؟
> بصراحة شديدة، فإن الحركة النقدية في الوطن العربي تمر بأزمة حقيقية، فالنقد تعددت مدارسه، وتنوعت طرقه، وأغلبه يستورد النموذج الغربي، ويحاول تطبيق المبادئ النقدية التي أبدعها الغربيون على النماذج الإبداعية في لغتنا العربية، وهذا – بالطبع – منهج غير صحيح، فلكل لغة مكوناتها الصوتية والأسلوبية والإيقاعية والخيالية، ولغتنا العربية لغة بيانية مشرقة لها موحياتها، فالنقد الأدبي لا بد أن ينبع من مناخ اللغة ومحيطها المائج بكل تراكيبها، وكذلك عليه أن يصبغ بصبغة البيئة التي تمخضت عن ذلك الإبداع.. فأصبح ثمرة لها..
وبهذا المفهوم أرى أن النقد الحديث مازال يحلق بعيداً عن فضاء النصوص الإبداعية، ويكتفي كثير من النقاد باستيراد النظريات الغربية، وإعادة صياغتها في جملة عربية معقدة لا يفهما كثير من المبدعين، ودليل هذا الانفصام بين التنظير النقدي المستورد وبين النص الإبداعي.. أن أديبا كبيرا مثل ” نجيب محفوظ ” قال حينما قرأ نقداً لروايته في مــجلة
” فصول ” إننى لأول مرة لا أستطيع فهم ما يقوله الناقد في نقد الرواية، فالإبداع يسبق المقاييس النقدية.. وأرى أن النقد تخلف عن مواكبة الإبداع حين رحل بعيداً، وخاصم بيئة المبدع.. وعاد غريب الوجه واليد واللسان !!
< أخيرا.. هل نستطيع القول بأنه تلاشت ما أطلقوا عليها ” قصيدة النثر “.. وما هي الوصية الغالية التي تسوقها -من فوق هذا المنبر- إلى الشعراء الشبان في العالم العربي..؟؟
> إذا كانت قصيدة النثر قد تلاشت أواندثرت وذهب ريحها في بعض البلدان، فإنها مازالت تجد لها أنصارا ومدافعين يجادلون عنها بالباطل في بلدان أخرى، كمحاولة ميئوسة من أنصارها لمواراة ضعفهم وعجزهم عن الإيقاع الشعري الصحيح في ثوب المؤثر..
وعلى القصيدة ” العمودية “، بل على مبدعي الشعر ” المقفى ” أن يخلصوا لفن الشعر، وأن يقدموا تجارب شعرية فياضة بمقومات الشعر الأصيل، وألا يكتفوا بتقديم المضمون في صياغة مباشرة سليمة لغوياً فقط، وإنما لا بد من تقديم التجربة في إطار الصورة الشعرية الجديدة الكلية الرامزة الموحية.. التي تجعل للقصيدة أكثر من بوابة للدخول إلى عالمها.
وعلى مبدعي الشعر -أيا كان تفعيليا أوشعر الشطرين، ألا يفرطوا في موسيقى الشعر الخارجية أوالداخلية، فالشعر إيقاع موزون، وصورة كلية جديدة، وبناء لغوى دال يضيء المعنى وآفاق النص، ولا وجود لما يسمى بقصيدة ” النثر ” في دائرة الشعر الجاد الأصيل، فالشعر كان – ولا يزال – ديوان العرب، وسجل حياتهم ومعاشهم..
على الشعراء الشبان الأصلاء أن يتجاوزوا اللغة النثرية الذهنية، وأن يقدموا البناء اللغوي الايحائى الجديد المثير للتساؤل والشعور والانتباه.