الشيخ الفقيه الحجامي رحمه الله : سيرة علمية ومسيرة جهادية 1


فقد المغرب والأمة الإسلامية جمعاء عالـماً من علمائها الأجلاء الشيخ الفقيه أحمد الحجامي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء 7 ذي القعدة 1424هـ الموافق  31 دجنبر 2003 م عن عمر يناهز 108 سنة.

وبهذه المناسبة تقدم المحجة لقرائها هذا الملف الخاص بأقلام بعض أبنائه وأحفاده وأصدقائه من العلماء، عسانا نكون قد قمنا ببعض الواجب في حق العلم والعلماء عامة، وفي حق هذا العالم الجليل خاصة سائلين

الله عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ويشمله بوافر مغفرته وثوابه، وأن يمن على الأمة الإسلامية بأمثاله من العلماء العاملين، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير و{إنا لله وإنا إليه راجعون}

المرحوم الفقيه العالم سيدي أحمد بن محمد الحجامي  :

ســيـرتـه وجـهـاده

نسبه ونشأته

هو أحمد بن محمد بن أحمد الحجامي الحسني الإدريسي، يرجع نسبه إلى سيدي عبد الله الحجام دفين زرهون، والى المولى إدريس مؤسس الدوله الادريسية.

أبوه محمد الحجامي أحد شيوخ الطريقة الناصرية، أخذها عن والده أحمد عن الفقيه المكي الجاي عن الفقيه الحاج لحسن كنبور عن قاضي القضاة بفاس سيدي أحمد بن الشيخ التاودي.

ولد بزاوية بوليد بقبيلة الجاية حيث استقرت أسرته قادمة من زرهون،وذلك في شهر شعبان عام 1318 هـ/1900 م.

ونشأ في بيت علم وتصوف وجهاد. حفظ القرآن وأتقن التجويد في سن مبكرة في مسجد الزاوية، ثم شرع يتلقى العلوم الشرعية على يد الفقيه العلامة المجاهد أبي عبد الله محمد الرنبوق الودراسي، وهو من تلامذة سيدي أحمد بن يرماق وسيدي محمد بن جعفر الكتاني وسيدي محمد القادري. وكان يجمع بين العلم والجهاد. كما تتلمذ  المرحوم على الفقيه العلامة المحقق سيدي محمد بن العلمي اليوسفي الحراق في قرية تزكارت ببني زروال والفقيه البشري الغماري بغمارة.وغيرهم بمختلف المناطق التي تنقلت بينها أسرته، فقد كان أبوه يهاجر من قبيلة إلى أخرى لدواعي الجهاد والتصدي للمحتل.

ذلك أن أباه لما علم بتوقيع الحماية نادى للجهاد في القبائل وجمع ما يناهز العشرين ألفا من المجاهدين من قبائل متعددة، وهجم على مدينة فاس بقصد تحريرها من الاستعمار في شهر ماي 1912 وكان عمر ابنه أحمد صاحب الترجمة آنذاك اثنتي عشرة سنة،  فدارت معارك طاحنة داخل المدينة وخارجها طيلة الأسبوع الأخير من شهر ماي جعلت المقيم العام الفرنسي يعترف بأنها المرة الأولى التي تصطدم فيها القوات الفرنسية  بالمغرب بمقاومة منظمة تنظيما عسكريا متقنا ويتحد هذا العدد الهائل من القبائل متناسية العداوة بينها، مظهرة شجاعة واستماتة فائقة في المعارك،الأمر الذي استدعى استقدام دعم عسكري كبير من مكناس والدار البيضاء بقيادة الكولونيل كورو الذي رقي إلى رتبة جنرال بعد انتصاره على الحجامي في معركة الحجيرة الكحلا بقنصرة. وكان المقيم العام ليوطي يطلق على الحجامي في مراسلاته ومذكراته لقب “عدوي الكبير”.

وشهد المرحوم سيدي احمد  وهو حديث السن مواقف لأبيه أثرت في مسيرته لاحقا؛ فهو يذكر في مخطوطاته كيف أن الفرنسيين حاصروا دار والده بالجاية بعد أن خاض ضدهم معارك شتى وفي مناطق متعددة منذ إعلان الحماية، وعرضوا عليه أن يصالحوه ويحترموا حدود نفوذه كما يعينها لهم مثلما  فعلوا مع شيوخ بعض الزوايا، فامسك بالرسالة ومزقها أمام مبعوث الفرنسيين وقال له “الجواب هو ما رأيت”. وعندما جاءه بعض أعيان القبائل يستشيرونه في الحرب أو السلم مع المستعمر قال لهم:”إن أردتم الجهاد فانا أول من يجاهد وإن أردتم الصلح  فأنا أول من يهاجر “.فهجم الفرنسيون على منزله وأحرقوه بعد معركة حامية الوطيس، فهاجرعام 1332 مع أسرته ورفاقه إلى بني زروال وأقاموا بقرية حمدان التي انضم أهلها مع سكان قرية العزائب إليه لمحاربة الاستعمار،ومنها بدأ يشن هجوماته المتكررة.

جــهـــــــاده

ولما توجه الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي لمحاربة الفرنسيين بنواحي ورغة، انقطع المرحوم أحمد الحجامي عن الدراسة مؤقتا والتحق بالمجاهدين رفقة أخيه محمد وأخيه الأكبر إدريس الذي كان صلة الوصل بين أبيه والأمير الخطابي وحامل المراسلات بينهما منذ أن بدأت المقاومة في الريف. وشارك احمد في معارك جرت بالجاية ودردرة والمحارّين و حصار قلعة عين معطوف وجنان مجبر بهوارة.

ولما احتلت فرنسا مناطق بني زروال وبني أحمد ونواحي كتامة وبسطت أسبانيا نفوذها على الريف بعد إلقاء القبض على الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في أول ذي القعدة 1344 /26 ماي 1926، عرضت أسبانيا الصلح على والده محمد الحجامي  وكان مقيما آنذاك بمحل يقال له المنصف بكتامة، فرد على من حمل إليه الاقتراح  أن إلقاء القبض على ابن عبد الكريم لن يثنيه عن الاستمرار في الجهاد وأضاف “إنه  لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”. وكلف ابنه احمد بإقامة مركز عسكري  بسوق ثلاثة كتامة ووضع تحت إمرته مهاجرين من قبائل فشتالة وسلاس وبني ورياغل وبني زروال والجاية والحياينة ومزيات ومتيوة،وأقيم مركز آخر بتيلتاف بغمارة تحت رئاسة السيد عبد السلام بن المقدم التمسماني،وكان رجلا شجاعا من رجال الأمير الخطابي الذين أذن لهم الأمير بالالتحاق بالحجامي يوم نفيه. وخاض المركزان معارك طاحنة بإيساگن وسوق الثلاثة وإكاون ضد الأسبان، غير أن أهل كتامة قرروا الصلح مع الأسبان،فالتحق أحمد ومن معه بأبيه بقرية رأس مرطاس التي لم تكن قد احتلت بعد، فلما علم أبوه بالأمر طفق يبكي ويقول “كنت أظن إنني سأموت قبل هذه الحالة المشؤومة ولكن رضينا بالقضاء غير المقضي به”.

ودع المرحوم أباه وانطلق مع من بقي معه من المجاهدين إلى قبيلة الأخماس بني صالح ونظم هجوما على مركز للاسبان بغمارة بقرية امياذي، واستمر فيشن المعارك في تلك المناطق شهورا،ثم عاد الى كتامة وهجم على قشلة بني احمد اذمام وقشلة بني مسكين في بني نصار،وذلك في تنسيق مع محاربين من الريف،   منهم أولاد المقدم التمسماني والشريف سيدي محمد بن علي الخمليشي المدعو بالسليطن وكان قد شارك في معارك فاس مع سيدي محمد الحجامي سنة 1912 وعمره عشرون سنة. إلى أن أحاط بهم الأسبان من كل جهة فافلتوا بصعوبة وتفرق الباقون ممن كانوا معه ومع المحاربين الريف. فأما هؤلاء فانتقلوا إلى غزاوة حيث ألقي عليهم القبض، وأما أحمد فالتحق بتغزوت ثم بقرية ترية بكتامة التي كان أبوه يُوجَد بها بعد أن أصبح عاجزا عن الخروج للحرب نظرا لكبر سنه. فأقنعه هو وأخوه إدريس العائد من الأسر بمليلية،  بالنزوح  ليلا إلى المنصف الواقعة تحت السيطرة الفرنسية لتيقنه من أن الاسبان اذا ظفروا بهم يقتلونهم قطعا.  وفي الصباح حل عندهم  ضابطان فرنسيان من مكتبي تاوناتوالطاهريين مع عدد من الجنود.وما إن رآهم  سيدي محمد الحجامي حتى همز فرسه متجها نحو الغابة، فاستوقفه ابنه ادريس وذكره بأنه لم يعد معهم أحد من المحاربين  والاحتلال الاسباني والفرنسي قد أطبق على كل المناطق. فلما دنوا  منه استدبرهم واسدل قب جلبابه عليه ولم يمد يده للسلام عليهم وطفق يردد “لا اله إلا الله وحده لا شريك له”. خاطبهم الضابطان الفرنسيان بواسطة المترجم مرحبين بهم وان فرنسا تريدهم أن يكونوا تحت منطقة  نفوذها لأن الاسبان إذا امسكوا بهم قتلوهم لحقدهم عليهم. بعد ذلك تم تخييرهم بين الإقامة الإجبارية تحت الحراسة  بفاس او بالجاية او ببني زروال او بالحياينة. فاختار أبوهم الإقامة في دار هجرته الأولى بحمدان. فجردوهم من سلاحهم ونقلوهم إليها. وأقاموا عليهم حصارا شديدا وكل من يرغب في زيارتهم من فقراء الزاوية أو رفاق الكفاح عليه أن يحصل على رخصة من الفرنسيين  بذلك، وإلا تعرض للسجن.وخلال هذه الفترة طلب المرحوم احمد الحجامي  من الفرنسيين أن يسمحوا له بالذهاب إلى فاس لاستكمال تعليمه بالقرويين فرفض طلبه، فعاود الطلب كل أسبوع  ثلاث مرات متتالية. فلما ووجه بالرفض القاطع رفض مغادرة مكتب الضابط الفرنسي وخاطبه قائلا:”أريد  أن اعرف قراركم الأخير في شأننا، إن كان النفي فمن الآن وإن كان القتل فمن الآن وإن كان أمر آخر فمن الآن”. فاستمهله حتى يستشير مع رؤسائه، ثم منحه رخصة بالذهاب إلى فاس وحده دون أسرته على أن يلتزم بالعودة كل شهر إلى المركز. وعلى إثر  ذلك استدعى الضابط الفرنسي أعيان القبيلة وعرض عليهم إن كانوا يرغبون في بقاء الحجامي بين ظهرانيهم أن يضمنوه ويتعهدوا بأن لا يعود إلى حمل السلاح، فتعهدوا بذلك كتابة. وظل هو  يتعهد أمور الزاوية بالذكر والمذاكرة وإصلاح ذات البين بين الناس ومساعدتهم.

أما سيدي احمد صاحب الترجمة، فالتحق بالقرويين يروي غليله من العلم  بجد وحماس. وسكن بمدرسة الشراطين، إذ لم يكن قد اقتنى بعد منزله بالكدان الذي    ستستقر به الأسرة لاحقا.  وتضلع في مختلف العلوم الشرعية وغيرها من العلوم التي كانت تدرس آنذاك  بالقرويين، على يد كبار علماء المغرب، منهم شيخ الجماعة سيدي عبد السلام العلمي، وسيدي أبو الشتاء الغازي الحسيني الصنهاجي، وسيدي محمد البكراوي، وسيدي الحسين العراقي، وسيدي العباس  بناني، وأدرك سيدي بوشعيب الدكالي، وغيرهم. ولما أجازوه بالطريقة المعمول بها آنذاك، قفل راجعا إلى مقر إقامة أبيه المحاصر، بحمدان، وبدأ يدرس العلوم في مسجدها ومسجد العزائب فمسجد تزغان بالجاية، وكلها كانت مراكز علمية مشهورة في المنطقة. إلى أن وصله خبر نعي أبيه يوم الاثنين رابع ذي الحجة من عام 1362/1944م، فعاد إلى حمدان، واجتمع أعيان العائلة الحجامية واستقر رأيهم على أن يقوم ابنه أحمد مقام أبيه بأمور الزاوية، وقد كانت له إجازة من أبيه بهذا الشأن سلمها له قبل نحو من اثنتي عشرة سنة، ولكنه كتمها عنهم متمنيا في قرارة نفسه أن لا يقع اختيارهم عليه. ذلك انه كان يفضل الاشتغال بالعلم والتفرغ له لولعه بذلك واستعداده له.  ثم إنه كان يؤمن بان الأحوال الصوفية من حيث هي لا تورث، وصاحب الحال الصادقة مرغم غير مختار. والأمر يتطلب الفراغ من تأديب النفس،  وتطهير القلب من الاغيار، واستنارة البصيرة. ويجد نفسه غير مؤهل لذلك، ويردد مع هو الغوث سيدي بومدين :”إذا لم تذق معنى شراب الهوى، دعنا”.. ويروي في مخطوطاته انه رأى ذات ليلة في منامه جده الثامن الشيخ الجزولي وقد ناوله كأسا بها شراب  حلو المذاق فشربه، ثم ناوله كأسا ثانية شرابها مُرٌّ لم يستطع تجرعه. فأول شراب الكأس الأولى بأنه حظه من العلم الظاهر المنقول، و شراب الكأس الثانية  بأنه علم الذوق والباطن الذي لا يستسيغه. فلما قص رؤياه على ابيه وكان ما زال على قيد الحياة،  أولها كذلك وأضاف:” ولكن لا محيد لك عن ذلك”.

فتولى أمور الزاوية وهو عنها راغب، وطفق يسيرها ويتعامل مع الوافدين عليها بمقتضى الشريعة لا بمقتضى الأحوال. فكان يحيي سابع المولد النبوي بالوعظ والإرشاد في حلقات الذكر التي يقيمها و في  خطبته الرسمية التي يلقيها في الجموع الغفيرة في مكان فسيح يقع على ربوة تطل على حمدان، في محاذاة قبر أبيه، الذي رفض أن يقام عليه ضريح أو قبة، تجنبا للشعوذة والخرافات، ولم يحدث أن استدعى أو حضر هذا الموسم وفد عن المحتل أو المخزن. بل كان موسما خالصا لوجه الله، تقام فيه الشعائر و ختان  الأطفال، ويطعم الوافدين من ماله الخاص، ولم يُوقِفْه إلا سنة واحدة بعد هزيمة 1967 حيث ارتأى أنه من الأولى أن تدفع الأموال والزكوات لدعم الفلسطينيين، وفي السنتين الأخيرتين من حياته.

ورغم تخفيف الحراسة عليه من لدن الفرنسيين في السنوات الأخيرة للحماية،إلا أنهم استمروا في مراقبة أحواله ومضايقته، حيث لم يكونوا يستسيغون قضاءه في النزاعات بين من يقصده لذلك، وإصلاح ذات البين بين القبائل. كما انه حدث أن أرسل إلى الأمير بن عبد الكريم الخطابي بالقاهرة خلال حرب 1948 التي كان  أخوه السي امحمد ضابطا في الجيش العربي بها،  رسالة مع حاجين من أصحابه، يقترح عليه فيها أن يرسل إليه المساعدات في حرب فلسطين. ولما وفدا عليه وجدا عنده الزعيم التونسي بورقيبة والشاعر الحسين التونسي، وكان كاتبا للخطابي بالريف. فسر الأمير الخطابي كثيرا للرسالة وقال :”الحمد لله الذي جعل بقية من الأحبة يسالون عنا في المغرب”. وطلب منهما أن يبلغاه سلامه وشكره على عرضه الذي هو الآن غير محتاج إليه. ولما وصل الخبر إلى الفرنسيين استدعوا المرحوم إلى مكتب سيدي المخفي، وهددوه إن هو عاد إلى إرسال الحجاج عبر القاهرة أن يتخذوا في حقه إجراءات زاجرة.

ورغم ذلك استمر في دعم المقاومة حتى بعد أن انتقل للإقامة بفاس مع أسرته، وقد كان منزله بحمدان بعد ثورة الملك والشعب، مركزا لجيش التحرير بالمنطقة، بقيادة محمد حجاج ونائبه احمد غزالي.

وقد ظل رحمه الله حتى آخر أيامه مهتما بأمور الوطن وأمور المسلمين، يسال عن الجديد في القضية الفلسطينية ويتألم لما آلت إليه الأوضاع في العالم العربي والإسلامي من تفرق الكلمة وغلبة المصالح.

كما  كان له اهتمام خاص بالقضايا  الفكرية، سواء كانت شرعية أو اجتماعية، فيناقشها بصدر رحب وفكر ثاقب، دون تعصب أو انحياز.وكان منزله مقصد العلماء والمفكرين من كل الآفاق والبلدان. وكان رحمة الله عليه يتميز بذاكرة قل نظيرها. وله دراية بالأنساب والعائلات وأصولها بجل منا طق المغرب، وله معرفة دقيقة بتاريخ المغرب وإحداثه.

وكان  له  فهم متميز للنصوص الشرعية فيما يخص حقوق المراة، يومن به ويطبقه فعليا في أسرته ومحيطه ويفتي به ويقضي، كحقها في التعليم الذي كان يراه فرضا من فروض الشريعة، وحقها في اختيار الزوج، وواجب احترامها وتقديرها، ونبذ العنف في حقها بجميع أنواعه.

رحم الله الفقيد واسكنه فسيح جناته مع النبيئين الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا.

> مراكش، الاحد 18 ذو القعدة 11 يناير 2004

————

المراجع:

- مخطوطات احمد بن محمد الحجامي

- الرسائل المتبادلة بين محمد الحجامي والامير محمد بن عبد الكريم الخطابي

 

 


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “الشيخ الفقيه الحجامي رحمه الله : سيرة علمية ومسيرة جهادية