مــن فـقـه الـفـتـنـة 2/2
الخطبة الثانية
الله أكبر(3) عباد الله, يا من يقرأ القرآن الكريم أو ينصت إليه ويتذوق معانيه، هل تساءلت يوما: لماذا كثرت الآيات القرآنية التي ُتخبر عن الله عز وجل بأنه يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بكل شيء، وأنه سميع بصير، وأنه معنا حيثما كنا، وأنه لا يضِل ولا ينسى، وأنه يحصي كل شيء، وأن ملائكته يكتبون كل أعمال المكلفين، وأنه ينبئ عباده يوم يرجعون إليه بكل أعمالهم وأقوالهم ولو كانت مثل الذرة، أو أصغر أو أكبر.
يأيها العبد الغافل مثلي، إنك عندما تُقدم على معصية، وتحسِب أن أحداً لا يراك، أو أن الخلق منشغلون عنك، فهل اختفيت عن الزمان والمكان؟ إنهما يشهدان عليك وهل غبت عن كل إنس وجان! وهل تسترت عن الجماد والنبات والحيوان، إنها تشهد عليك، وهل تستطيع أن تحتجب عن ملائكة الرحمن، وهل تتجرد من جوارحك أيها الإنسان، ولو استطعت كل ذلك لما خفي من باطنك وظاهرك شيء، عن مالك الزمان والمكان سبحانه وتعالى، فأنى يذهب بك يا غافل يا تيهان، ألم تسمع قول الله سبحانه {وهو معكم أينما كنتم} فكيف فهمتَ معية الله لك؟ هل فهمتها بأنه يحميك من المكروه، ويؤيدك وينصرك، ويستجيب دعاءك، ويخلصك من المحن.. نعم قد تكون معية الله لك كذلك إن كنت تذكره سبحانه عند كل أمر، فتقدمُ ما يحب، وتستحيي منه، فتدع ما يكره.
لكن ألا تكون معية الله على العبد بالحجة والشهادة، أو بالنسيان، أو بالحرب، أو بالإهمال، أو الاستدراج ثم الأخذ المباغث المدمر، أو التأجيل إلى يوم الخزي الكبير.
الله أكبر (ثلاث) : عباد الله، كيف يكون الانسان وقحاً مقيتاً، يخلع زينة الحياة، ويلبس رداء الأنانية والشهوات واللامبالاة، وقد قال الله عز وجل : {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}. ومعناه رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأنى كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في المنازل أو في الفيافي والقفار، الجميع في عمله على السواء وتحت سمعه وبصره يسمع كلامنا ويرى مكاننا ويعلم سرنا وعلانيتها.
ألم يقل الرسول : >إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت<، وكان أحد الأئمة الصالحين ينشد :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
خلوتُ، ولكن قل : عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
عباد الله : إذا كنا نرغب في فقه قوله سبحانه : {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور< فلنستمع إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يفقهنا في معنى هذه الآية : قال رضي الله عنهما : >هو الرجل يدخل على أهل البيت بينهم، وفيهم المرأة الحسناء، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غض، وقد اطلع الله تعالى من قلبه أنه ود لو اطلع على فرجها< وقال أيضا رضي الله عنهما : >يعلم الله تعالى من العين في نظرها، هل تريد الخيانة أم لا< وقال أيضا : >يعلم الله سبحانه إذا أنت قدِرت عليها هل تزني بها أم لا<.
وكم مرة قرأنا وسمعنا قوله سبحانه وتعالى : {ألم يعلم بأن الله يرى} ونقول : إنها نزلت في أبي جهل، نعم، إنها نزلت بسبب أبي جهل الذي كان يمنع رسول الله من الصلاة والعبادة وقراءة القرآن عند البيت، ولكن لا مانع من أن تشمل كل من يمنع المومنين من العبادة، وينهاهم عن الطاعة، ويحرمهم وأبناءهم من القرآن، ويفتنهم عن التوبة، ويغريهم بالشهوات، ويُزين لهم المعاصي والمنكرات.. فالعبرة في هذه الآية بعموم لفظها لا بخصوص سببها، وقد حُذف المفعول ليعم كل مرخِّصٍ للمنكر، راضٍ بالفسوق وكل مبغِّض في المعروف، وكل مرهب للمومنين.
فكل من أبعد الناس عن طاعة الله بأية وسيلة، وكلُّ من يسّر سبل المعاصي فهو شريك لأبي جهل في هذا الوعيد، وسيكون قرينه في جهنم.
الله أكبر (ثلاثا).
عباد الله : إن فاعل المنكر، إما أن يكون مكرهاً مغلوباً، فهذا يُرفع عنه إثم المؤاخذة بقول الرسول : >رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه<. وإما أن يكون غافلا غير مبال فسيحاسَب على غفلته عن الله، وعلى إضاعته عهدَه وميثاقه. قال تعالى : {نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون}. وإما أن يكون ذاكراً مراقبة الله له، ويتعمد المخالفة والعصيان، فهذا معاند مكابر، يحاد الله ورسوله، وبذلك يعرض نفسه للمقت والعذاب. قال تعالى : {ومن يهن الله فما له من مكرم} وقال سبحانه : {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين} وفي آية أخرى : {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم، وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين، يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا، أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد}.
عباد الله : يخطئ كثيرا، ويذهب بعيداً من يتعامل مع الله بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع الناس، فالناس يمكن أن يلهيهم، ويمكن أن يختفيَ عليهم، ويمكن أن يحتال عليهم، ويمكن أن يكذب عليهم، والله سبحانه منزه عن كل ذلك، فالقياس باطل وفاسد، فهو سبحانه {يعلم السر وأخفى} وقال سبحانه فيمن يتحيل على فعل المنكر ويمكر في مواجهة الحق : {أم أبرموا أمراً فإنا مُبرمون، أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، بلى ورسلنا لديهم يكتبون}.
ولو فكر كل إنسان عزم على منكر في قول الله تعالى : {وماتكون في شأن، وما تتلوا منه من قرآن، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} لو فكر العصاة في هذا لخفقت قلوبهم، وارتعشت جوارحُهم، ولاستحيوا وأحجموا.
فكيف يكون حال المذنب الآثم عندما يقف بين يدي الله عز وجل، وقد أحاط به الخلائق كلهم، جاؤوا ليشهدوا عليه، ويقتصوا منه، منهم الملائكة والانس والجن والحيوان والنبات والجماد، ومنهم جوارحه وجلده، قال تعالى : {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} ومنهم الرسل والأنبياء، قال تعالى : {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} ثم الله شهيد على كل ذلك، وكفى بالله شهيداً، فمن يدافع عن الظالم يومئذ، ومن يجادل عنه، وهل له أن يطعن في الشهود جميعا هيهات هيهات، وهل تُقبل معذرته، وهل يُعطى فرصة أخرى للتوبة هيهات هيهات! قال تعالى : {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نصير، وهل يُرحم يومئذ لتذلله ومسكنته، هيهات هيهات.
الله أكبر (ثلاث).
عباد الله : إن الذي يحظى بعفو الله، وتتداركه رحمة الله هو الذي لم يكن معانداً مكابراً، هوالذي كان يذكر ربه آناء الليل وأطراف النهار، هو الذي كان ينبهه إيمانه، ويعصمُه علمه، ويحول بينه وبين المناكر حياؤه، هو الذي كان يبكي ويحزن، ويأسف يمرض لأحواله وأحوال أبنائه وأحوال أمته، ورحم الله أمثال عمر بن عبد العزيز الذي وفقه الله فأكرم نفسه بالعفة، وربى أبناءه على القناعة، وأكرم المسلمين بالعدل والرحمة، لما حضرته الوفاة ] دخل عليه مسلمة بنُ عبد الملك، وقال : إنك -يا أمير المومنين- قد فطمت أفواه أولادك عن هذا المال، فحبذا لو أوصيت بهم إليّ، أو إلى من تفضله من أهل بيتك. فلما انتهى من كلامه قال عمر بن عبد العزيز : أجلسوني. فأجلسوه فقال : قد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما قولك إني قد فطمت أفواه أبنائي عن هذا المال، فإني والله ما منعتهم حقاً هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئا ليس لهم. وأما قولك لو أوصيتُ بهم إليك أو إلى من أفضله من أهل بيتي، فإنما وصيّي ووليّي فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق، وهو يتولى الصالحين.
واعلم يا مسلمة أن أبنائي أحدُ رجلين : إما رجلٌ صالح متق، فسيغنيه الله من فضله، ويجعل له من أمره مخرجاً، وإما رجل طالح مكب على المعاصي، فلن أكون أول من يُعينه بالمال على معصية الله تعالى، ثم قال : ادعوا لي بني، فدعوهم وهم بضعة عشر ولداً، فلما رآهم ترقرت عيناه وقال : بنفسي فتية تركتُهم عالةً لا شيء لهم. وبكى بكاء صامتا:ً، ثم التفت إليهم وقال : أي بني : إني قد تركت لكم خيراً كثيراً، فإنكم لا تمرون بأحد من المسلمين أو أهل ذمتهم إلا رأوا أن لكم عليهم حقاً. يا بني، إن أمامكم خياراً بين أمرين : فإما أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، وإما أن تفتقروا ويدخل الجنة، ولا أحسِب إلا أنكم توثرون انقاذ أبيكم من النار على الغنى، ثم التفت إليهم في رفق وقال : قوموا عصمكم الله قوموا رزقكم الله، فالتفت إليه مسلمة وقال : عندي خير من ذلك يا أمير المومنين، فقال وما هو؟ قال : لدي ثلاثمائة ألف دينار، وإني أهبها لك ففرقها فيهم، أو تصدق بها إن شئت، فقال له عمر : أو خيرٌ من ذلك يا مسلمة؟ فقال : وما هو يا أمير المومنين؟ فقال : تردها إلى من أُخِذت منه، فإنها ليست لك بحق. فترقرقت عينا مسلمة وقال : رحمك الله يا أمير المومنين حيّاً وميّتاً، فقد ألَنت منا قلوباً قاسية، وذكّرتها وكانت ناسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً.
الله أكبر (ثلاثا)، ذلكم عباد الله مثلُ العبد الكيس الفطن، الذي لم تُلهه الدنيا بمالها وسلطانها عن مصيره ومصير أولاده، ولم تشغله عن تربية أمته، وتقريبها من ربه.
أما مثلُ السّوء، فذلك الذي يظن أن الله لا يعلم به، أو لا يراه، أو لا يقدر عليه، أو أنه سبحانه ينسى، أو أن الله يغفر له مهما فعل من الآثام دون توبة ولا إصلاح، أو يشك في البعث، أو في الحساب أو الجزاء، فهذا سيفاجأ حتما:ً بالحقيقة المرة، ولا تُقبل معاذيره، ولا يُستعتب لأنه كان يظن سوء الظن بربه، قال تعالى : {وما كنتم تسترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين، فإن يصبروا فالنار مثوى لهم، وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} وقد أحسن من قال:
يا نفس قد قصرتُ ما قد كفى
تيقظي قد قرُب القوت
جِدِّي عسى أن تُدركي ما مضى
قد سبق الناسُ وخُلفتُ
أنا الذي قلتُ دهراً : غداً
أتوب من ذنبي، فما تبتُ
واحسرتي يوم حسابي إذا
وقفت للعرض وحوسبتُ
واخجلتي إن قيل لي قد مضى
وقتُك تفريطاً، ووُبِّختُ
ولي كتاب ناطق بالذي
قد كنتُ في دنيايَ قدمتُ
وقد تحيرتُ، ولا عذر لي
إن قلت إني وقد تحيرتُ
وقال عيسى ابن مريم عليه السلام : لا ينتظر امرء بتوبته غداً، فإن بينك وبين غدٍ يوماً وليلة، وأمر الله فيهما غادٍ ورائح.
اللهم ألهمنا القيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وعد علينا في كل حال برفقك، وانفعنا بما نقول والحاضرين من خلقك، واشملنا جميعاً بواسع رحمتك يا أرحم الراحمين.
د. محمد أبياط