فضل عشر ذي الحجة


تمهيد

إن الله جل وعلا يختار ويصطفي من مخلوقاته ما يشاء، ويجتبي منهم ما يريد، يقول ربنا تبارك وتعالى : {وربك يخلق ما يشاء ويختار}(القصص : 68). وقد اختار من البشر صفوتهم وخيرتهم لقيادة الأمة وإصلاحها وهدايتها، وهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، يقول الباري جلت عظمته : {الله أعلم حيث يجعل رسالاته}(الأنعام: 124). وقال عز من قائل : {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين}(آل عمران33).

كما اختار سبحانه وتعالى بعض الأماكن والبقاع وميز بعضها على بعض، واختار من الأزمنة والأوقات مواسم لرحمته ولحظات لتنزل فضله ونعمه، والحبيب المصطفى ” وهو الصادق المصدوق فيما يقول ينبهنا إلى ذلك، عن أنس ] قال:  قال رسول الله  : >اطلبوا الخير كله وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم<(أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه الفرج بعد الشدة). وفي حديث آخر: >إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها عسى أن تصيبكم منها نفحة فلا تشقوا بعدها أبدا<.

ومن هذه الأيام المباركة التي تنزل فيها النفحات والبركات، أيام عشر ذي الحجة، هذه الأيام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه الكريم بيانا لمنزلتها وكشفا لقدرها عنده، يقول ربنا الكريم : {والفجر وليال عشر…} والمقصود بليال عشر: عشر ذي الحجة، وهذا قول ابن كثير.

وقال تعالى : {ويذكرون اسم الله في أيام معلومات}. قال ابن عباس رضي الله عنه المقصود بها: أيام العشر.

فضل أيام عشر ذي الحجة

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه الأيام المباركة.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : >ما العمل في أيام أفضل من هذه العشر. قالوا: ولا الجهاد، قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء<(رواه البخاري).

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : >ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد<(رواه الطبراني في المعجم الكبير).

وكان سعيد ابن جبير رحمه الله، وهو الذي روى حديث ابن عباس السابق إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه (رواه الدارمي بإسناد حسن).

وقال ابن حجر في الفتح: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره.

وفي كتاب الغنية للشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، ذكر مجموعة من الأحاديث وأقوال الصحابة والأخبار في هذه الأيام :

- عن جابر رضي الله عنه عن النبي  أنه قال : >من صام أيام العشر كتب الله له بكل يوم صوم سنة<.

- وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي” أنه قال : >من أحيا ليلة من ليالي عشر ذي الحجة، فكأنما عبد الله عبادة من حج واعتمر طول سنته، ومن صام فيها يوما فكأنما عبد الله تعالى سائر سنته<.

- وعن حفصة رضي الله عنها أنها قالت:  >أربع لم يكن النبي  يتركهن : صوم عشر ذي الحجة، وعاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الغداة<.

- وكان سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول: لا تطفئوا سرجكم ليال العشر، ويأمر بإيقاظ الخدم، وتعجبه فيه العبادة.

- وقال الأوزاعي: بلغني أن العمل في اليوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله يصام نهارها ويحرس ليلها إلا أن يختص امرؤ بشهادة.

ما يستحب فعله في هذه الأيام

1- الصلاة: يستحب التبكير إلى الفرائض، والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات، عن ثوبان ] قال: سمعت رسول الله ” يقول : “عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد سجدة إلا رفعك إليه بها درجة، وحط عنك بها خطيئة” (رواه مسلم)، وهذا عام في كل وقت.

2- الصيام: لدخوله في الأعمال الصالحة، فعن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي  قالت : “كان رسول الله يصوم ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة من كل شهر” (رواه أحمد وأبو داود والنسائي).

قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر: إنه مستحب استحبابا شديدا.

3- التكبير والتهليل والتحميد: لما ورد في حديث ابن عمر السابق: “فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”. وقال الإمام البخاري رحمه الله: كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهم.

صيام يوم عرفة

-عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة؟ قال: >يكفر السنة الماضية والباقية<(رواه مسلم)، أي أن صوم يوم عرفة سببا لتكفير وغفران ما جناه المرء من صغائر الذنوب في السنة التي سبقت عرفة. وفي رواية لمسلم وغيره بلفظ : >أحسب الله -أي أرجو من الله- أن يكفر  السنة التي قبله والسنة التي بعده<.

ما اجتنبت الكبائر، قال القاضي عياض رحمه الله: أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ورحمة الله. وهو مذهب أهل السنة والجماعة.

- وعن الفضل بن عباس رضي الله عنهم : عن النبي  قال : >من حفظ لسانه وسمعه وبصره يوم عرفة غفر له إلى عرفة<(رواه السيوطي في الجامع الصغير وقال رواه البيهقي وإسناده صحيح).

- كما يستحب صيام هذا اليوم يستحب كذلك الإكثار من الدعاء، فالدعاء عبادة ومخها,والمستكبر عن الدعاء مستكبر عن العبادة {لولا دعاؤكم}، فالدعاء يرد القدر ويرفع البلاء، هذا في سائر الأيام فما بالك بيوم عرفة الذي يضاعف فيه الأجر والثواب.

- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي  قال: >خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير<(أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما، وقال : “حديث غريب”، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة. قال الألباني في الصحيحة (1503).

- قال ابن عبد البر في هذا الحديث : “وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره، … وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب”(انظر  التمهيد (6/41).

- وقال المباركفوري: قوله  : >خير الدعاء دعاء يوم عرفة< لأنه أجزل إثابة، وأعجل إجابة، قال الطيبي: الإضافة فيه إما بمعنى اللام، أي: دعاء يختص به، ويكون قوله: >وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله< بيانًا لذلك الدعاء، فإن قلت: هو ثناء! قلت: في الثناء تعريض بالطلب”انظر  تحفة الأحوذي (10/33).

فللنتهز أخي هذا الباب الذي فتح لنا قبل أن يغلق,ومن فاته الله فاته كلشيء,ومن مات ولم يفز بالله فلا نهاية لحسرته.

استقبال مواسم الخير بالتوبة النصوح

يقول ربنا تبارك وتعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}(آل عمران : 133).

حري بالمسلمين أن يستقبلوا مواسم الخير بالتوبة الصادقة النصوح، وبالهروب من المعاصي والآثام التي تحرم الإنسان فضل ربه وتحجب قلبه عن مولاه جل وعلا. فإن أيامنا قلائل ونحن في دار العمل، والكيِّس من كان على وجل من قرب الأجل، وأعد الزاد ليوم تشيب من هوله الولدان، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ولـدتك أمك  باكيا  مستصرخا

والناس حولك يضحكون سرورا

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا

في يوم موتك ضاحكا مسرورا

فالدنيا دار من لا دار له

ولها يجمع من لا عقل له

ولله در القائل :

أما والله لو عـلـم الأنــــــــام

لما خلقوا لما هجعوا وناموا

لقد خلقوا لأمـر لو رأتــــــه

عيون قلوبهم تاهوا وهامـوا

ممات ثم قـبـر ثم حشــــــــر

وتوبـيخ و أهـوال عظــــــام

ليوم الحشر قد عملت رجال

فصلوا من مخافته و صاموا

ونحن إذا أمرنا أو نهـينــــــا

كأهل الكـهف أيـقاظ نيـــــــــام

فكن أخي مسرعا إلى الخير وربنا الكريم يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا”}(العنكبوت : 69) وجهاد النفس أكبر جهاد.

فيا قليل الزاد والطريق موحش ومحفوف بالمكاره، ويا مقبلا على ما يضر تاركا لما يفيد، تذكر ذلك اليوم الذي ينادي فيه عليك القبر: ”ابن آدم ذهبوا وتركوك وفي التراب دفنوك ولوا بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا الله فهو حي لا يموت”.

مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا

وأعقبه يوم عليك شـهيد

فإن كنت بالأمس اقترفت إسـاءة

فبادر بإحسان وأنت حميد

ولا تبق فضل الصالحات إلى غد

فرب غد يأتي وأنت فـقيد

إذا ما المنايا أخطأتك وصادفـت

حميمك فاعلم أنها سـتعود

فيا أخي المسلم وأختي المسلمة، احرص على اغتنام هذه الفرصة السانحة، قبل أن تفوت عليك فتندم، ولا ينفع حينئذ الندم، ولات حين مناص، فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.

يــــا من بدنياه اشتغل

وغـــــره طول الأمل

الـمـوت يـــــأتي بغتة

والـقـبر صندوق العمـل

واعلم يا أخي ويا أختي أنه لا يرقد في قبرك غيرك، ومن فتح له باب من الخير فلينتهزه قبل أن يغلق. والله يحب التوابين ويحب المتطهرين وهو مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها

لـكـان رسول الله حيا وبـقـيـــا

ولكنها تفنى ويفنى نعيمـا

وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا

فبادر أخي وأسرع وفر إلى ربك، واعكف ببابه، فمن لزم الباب فتح له، وربنا تبارك وتعالى عنده المنكسرة قلوبهم.

مسك الختام

أخي المسلم إذا لم تملك الاستطاعة للذهاب إلى الحج تستطيع أن تغتنم الفرصة فتؤدي حجات كثيرة جدا مبرورة وهي حجاب لنا من النار. قال النبي  : >من قعد في مصلاه حين يَنصرف من صلاة الصبح حتى يسبح الضحى لا يقول إلا خيرا غفر الله له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر<(أخرجه أبو داود).

وفي رواية: “من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة”.

فلننظر يا أخي كم من حجة وعمرة ضيعناها. آه ثم آه بل أواه على من لا يهز رأسا شوقا إلى الحسنى وزيادة.ومن فاتته فرص الخير فليبك على نفسه. أن كان من المحرومين الغافلين,وما بين العبد وربه إلا حجاب الغفلة.

وبادر شبابك أن يهرمـا

وصحة جسمك أن تسقـمـا

وأيام عيشك قبل الممات

فما دهر من عاش  أن يسلما

ووقت فراغك بادر بــــه

ليالي شغلـك في بعض مـا

وقدم فكـل امرئ قـــــادم

على بعض ما كان قد قدمـا

اللهم وفقنا لصالح الأعمال واجعلنا هداة مهتدين آمــين.

وصلى الله وسلم وبارك على صفوة خلق الله سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وعلى صحبه وإخوانه وحزبه أجمعين.

———

(ü) طالب باحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية- وجدة

Rachid-11@Maktoob.com

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>