شؤون إسلامية – قرار شيراك.. فرصة لخروج المسلمين من “الجيتو”


أثار قرار الرئيس الفرنسي شيراك -بتوجيه البرلمان لإصدار قانون خلال 2004 يتضمن حظر ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس الإعدادية والثانوية- ردود أفعال متباينة. وهو القرار الذي جاء تحت اسم حظر مجموعة من الرموز الدينية، كالصلبان الكبيرة والطاقية اليهودية ونجمة داود، باعتبار أن ذلك لن يتعارض مع علمانية الدولة والمؤسسات الفرنسية. ولا شك أن القضية أبعد من مجرد حجاب تلميذات مسلمات أو علمانية الدولة الفرنسية؛ بل هي تتعلق بمستقبل جالية كبيرة -ولعلها الأكبر في فرنسا وفي الغرب- هي الجالية المسلمة.

“ستاسي”.. هي السبب

ولا بد في البداية أن نقرر حقيقتين:

الأولى: أن مجلس الدولة (أعلى مؤسسة قضائية في فرنسا) أعلن من ذي قبل، مرتين -عامي 89، 92- أن ارتداء الرموز الدينية كافة، بما فيها الحجاب الإسلامي، لا يتعارض مع علمانية الجمهورية، ولا مع نظام المؤسسات العامة؛ وذلك عقب تكرار حوادث مؤسفة مع تلميذات محجبات في أكثر من مدرسة. وقد أدى تذمر بعض المدارس من هذا القرار القضائي، إلى المطالبة بتشكيل لجنة “ستاسي” التي أوصت بإصدار القانون المزمع إقراره، ومعه ترضية للمسلمين واليهود، باعتبار يومي الأضحى والغفران عيدين رسميين؛ وهو ما عارضه رئيس الوزراء ورئيس الجمعية الوطنية؛ فأقر الرئيس شيراك الجزء الأول -وهو منع الرموز الدينية- بينما تراجع عن الترضية الشكلية.

ويأتي قرار الرئيس شيراك كموقف من الجالية المسلمة التي يبلغ تعدادها حوالي 6 ملايين في فرنسا و20 مليونا في أوربا. ورغم أن شيراك أكثر من تحدث عن خطورة المشكلات التي تواجهها الجالية والضغوط التي تتعرض لها، فإنه -وللأسف الشديد- توقف عند قضية الحجاب فقط؛ وهى لا تمثل إلا جزءا يسيرا من المشكلة، بالنسبة للتهميش الذي يعاني منه المسلمون.

الثانية : أن الحجابليس رمزا دينيا ولا يعبر عن انتماء ديني، كما عبر عن ذلك الرئيس شيراك، بل هو واجب وفريضة دينية ملزمة للمسلمة البالغة، كما يقول إجماع الفقهاء المسلمين، ولو لم تلتزم به إلا نسبة قليلة من المسلمات. ولا يصح للوزير برنار ستاسي، رئيس اللجنة، التي أوصت في تقريرها بمنعه، الاعتماد على قول شخصيات مسلمة ليست متخصصة، كما نقلت عنه الحياة 11/12/2003، بل كان عليه أن يرجع إلى الأزهر الشريف، أو المجلس الأوربي للإفتاء، أو الجامعات الإسلامية، وللفقهاء التي لم تختلف كلمتها أبدا حول فرضية الحجاب.

“الحجاب” مع “الصليب” و”القبعة”!

إن عودة النساء المسلمات إلى الالتزام بالحجاب أو الخمار أو الزي الإسلامي، الذي يعني ستر جميع بدنها عدا الوجه والكفين، ليس تعبيرا عن مجرد التدين والالتزام بأحكام الإسلام، كالالتزام بالصلاة والصوم والزكاة، بل هو تعبير عن الهوية الثقافية والخصوصية الحضارية؛ وهو ما لا يمكن لقرار أو قانون أن يمنعه. إن مبادئ الجمهورية الفرنسية “الحرية والإخاء والمساواة” تمنع المساس به، لأنها تمنع الاضطهاد الديني. والعلمانية المعتدلة أو المتصالحة مع الدين، مثل تلك التي في أوربا، لا تقف في وجه المتدينين. فضلا عن أن الحفاظ على مؤسسات الدولة وعلمانيتها يعني ألا تقوم المدارس، في مناهجها أو إداراتها، بفرض رموز دينية أو منع المتدينين من الالتزام بأحكام دينهم، مثل بناء مساجد أو كنائس، أو وضع صلبان على الفصول، أو تدريس منهج ديني معين.

ووضع الحجاب في قائمة واحدة مع الصلبان والقبعة اليهودية يعني عدم فهم الأمر؛ وأساسه أن الصلبان والقبعات لا تؤدي وظيفة دينية عند الملتزمين بها، بل هي تعبير عن الانتماء الديني؛ وهو ما لا نرفضه. أما الزي الإسلامي للمرأة المسلمة فهو يؤدي وظيفة، هي ستر جسد المرأة من أن تنهشه عيون المتطفلين، أو أن يكون فتنة للناظرين؛ فهو هنا يؤدي وظيفة اجتماعية، فضلا عن كونه واجبا دينيا.

“تونسة” فرنسا.. حقيقة أم خيال؟

أصابت المراقبين الدهشة للخطاب الرئاسي؛ فهل ستتم “تونسة” فرنسا؟ وهل ستنضم فرنسا إلى الدول المتخلفة التي تحارب الحريات الخاصة، ومنها حرية الدين وحرية اللباس؟ وهل سننتظر أن يمتد القرار إلى المؤسسات العامة، أو منع المسلمات الملتزمات من وضع صورهن على جواز السفر، أو تلقي العلاج، أو التوظف في المؤسسات العامة؟؟

إن صدور قانون كهذا سيضع فرنسا وأوربا في مواجهة الإسلام كدين وثقافة وحضارة؛ وهذا ليس في صالح الطرفين؛ فقد كان دائما لأوربا موقف مختلف عن الولايات المتحدة الأمريكية في توتير العلاقات مع العالم الإسلامي، خاصة بعد أحداث سبتمبر الكارثية؛ حيث قدم العديد من المسلمين والعرب تقديرا بالغا لموقف فرنسا وألمانيا من الحرب على العراق، والمساندة للشعب الفلسطيني، رغم إدراك دور المصالح في هذهالمواقف. فهل تبدد فرنسا رصيدها الكبير في نفوس العرب والمسلمين؟

ردود الفعل.. رسميا وشعبيا

لقد بدأت ردود الفعل تتوالى؛ وكان أغربها موقف شيخ الأزهر الذي لم يوضح حكم زي المرأة في الإسلام، في الوقت الذي كان يجب بيان الحكم الشرعي، وهو ما كان قد أعلنه من قبل مرارا. فقد اكتفى باتخاذ موقف سياسي؛ ليس مطالبا به؛ فلم يطالبه أحد بالتدخل في الشأن الفرنسي الداخلي. وقد جبر هذا النقص إمام وخطيب المسجد الأزهر عيد عبد الحميد يوسف بقوله: “الحجاب فريضة أمرنا بها الله، ومن يخرج عليها فدينه ناقص، وأنا كمسلم لا أستطيع أن أوافق على قانون يحظر ارتداء الحجاب، لأنني أمام نص ديني، ولكنني لا أستطيع أيضا أن أمنع الفرنسيين من فرض حظر كهذا” (الحياة 18/12/ نقلا عن رويترز).

ومن المصادفات أنني شاركت في ندوة لمناقشة مسلسل درامي هو “المرأة في الإسلام”، عرضه التلفزيون في رمضان، وأعلنت الممثلة الشابة وفاء الحكيم أن دورها في هذا المسلسل أتاح لها المزيد من الاطلاع على القرآن والسنة وأحكام الإسلام، وهو ما دفعها لارتداء الخمار والزي الإسلامي عن اقتناع، وأنها أرادت أن تستكمل ما نقص من التزامها، حيث كانت تلتزم بالصلاة والصوم والزكاة وبقية الفرائض الدينية.

وهذا ما نتوقعه من الجدل الذي سيثار حول هذه القضية في وسائل الإعلام المختلفة في الدوائر الاجتماعية والثقافية؛ لأن الله إذا أراد نشر فضيلة طويت، أتاح لها مثل هذا الجدل الساخن، فيتعرف المسلمات والمسلمون على أحكام دينهم، فيزداد الالتزام بالزي الذي فرضه الله على المرأة المسلمة؛ وهو ما نشاهد بوادره وتزايده منذ ربع قرن حتى الآن. ولن تفلح إجراءات إدارية مثل تلك التي يفرضها وزير التعليم في مصر بمطاردة المدرسات الملتزمات والطالبات المحجبات؛ ولن تفلح قوانين جائرة مثل هذه التي تفرضها تونس وتركيا لمنع المحجبات من الدارسة أو حتى تلقي العلاج؛ بل يكفي برنامج واحد لداعية ناجح مثل عمرو خالد، أو فقيه متمكن مثل الشيخ القرضاوي لإقناع ملايين المسلمات بفرضية الحجاب؛ وهو في حقيقته إعلاء للهوية التي يريد العلمانيون -بتأييد الغرب- طمسها وحجبها، وهو تمسك بالعقيدة التي يريد هؤلاء حصرها في علاقة شخصية بين الفرد وبين ربه.

وقد خرجت مظاهرة في لندن للرابطة الإسلامية تؤيد حق المسلمات الفرنسيات في الالتزام بالزي الإسلامي؛ وينتظر أن تتزايد هذه الاحتجاجات في أوربا وأمريكا، بعد أن نفضت الجاليات عن نفسها النوم والكسل. وأعتقد أن المجلس الإسلامي الأوربي للإنقاذ يدعو لبحث القضية من مختلف جوانبها، وبحث الآثار المتداعية منها، وتوضيح الصورة والأحكام بالنسبة للفتيات -عند صدور القانون- إذا فشِلت الجهود الاحتجاجية في منعه.

وهناك أيضا رفض من الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا؛ والفاتيكان مطالب بإبداء رأي واضح في المسألة؛ وكذلك اليهود، فهم معنيون بالمسألة؛ ومن ثم يتحتم على المجلس التمثيلي لمسلمي فرنسا أن يتبنى موقفا واضحا لحماية حقوق المسلمات في حرية اللباس، وأن ينسق مع تلك الجهات الدينية لحماية الحرية الدينية. وهذا يفتح مجالا واسعا فيما بعد، للتفاهم والتنسيق والتعاون بين المتدينين من أتباع الديانات الكبرى لحماية “الحق في التدين والأخلاق العامة، والتماسك المجتمعي في أوربا بأكملها”.

وهنا قد ينتقل الاستقطاب الحاد، الذي يريد البعض خلقه بين الإسلام وأتباعه وبين النظم الأوربية، إلى حالة “الإسلام فوبيا” التي خلقتها مراكز بحوث ووسائل إعلام وسياسيون محترفون، وشوهوا بها وجه الإسلام النقي الناصع. ولا شك أن تضخم دور جماعات العنف والتشدد، وتسليط الأضواء عليها، قد ساعدهم كثيرا في هذه المهمة الخطيرة.

رب ضارة نافعة

قيل قديما: رب ضرة نافعة. ولعل هذا الضرر الذي سيحيق بالجالية المسلمة في أوربا، وبالذات الطرف الأضعف فيها -المرأة- التي، للمفارقة، يطالبها الغرب بتمكينها في بلادنا بينما يحارب حقها الطبيعي في اختيار لباسها في بلاده؛ لعل هذا الضرر يدفع الجالية إلى مزيد من الاهتمام بالمجتمع الذي تعيش فيه، والذي أصبح مهموما ومهتما بها. فهل تهتم هي به أيضا؟ وهل تسعى عبر القنوات الرسمية والإعلامية إلى بيان صورة الإسلام الحقيقة؟ وهل تتحول احتجاجاتها الصامتة، والتزامها الفردية والاجتماعية إلى حالة عامة، لتخرج من “الجيتو” الذي فرضته عليها ظروف نشأتها وتطورها؟

على الجالية المسلمة في أوربا ألا تنتظر الكثير من حكومات بلادها التي يزعجها نمو قوة الحركات الإسلامية، والتي تعتبرها الخطر الأكبر الذي يهدد مصالحها. بل على هذه الجالية -أفرادا وجمعيات وحركات- أن تنظم أسابيع للتعريف بالإسلام؛ وأن تتصل بمنظمات حقوق الإنسان لتدافع عن حقوقها الإنسانية؛ وعليها أن تلجأ إلى المجلس الدستوري للفصل في عدم دستورية هذا القانون؛ وصولا إلى محكمة العدل الأوربية. وإذا نجحت في حشد تأييد من الرأي العام، فإنها ستحقق إنجازا ضخما لإزالة ومواجهة حملة التخويف المرضي ضد الإسلام.

أما خيار التخلي عن الهوية والخصوصية، فلن يعني إلا ذوبان المسلمين في المجتمعات الغربية؛ وهذا ما لا يرضاه أحد أو مؤمن؛ فترك الساحة يعني نزوح الملايين من أوربا، وهو خيار مستحيل في ظل الظروف الحالية لأن السؤال سيكون: إلى أين؟ بل إن العكس هو القائم، فموجات الهجرة تتدافع إلى الغرب؛ والحل المطروح بقوة هو مواجهة المشكلة؛ والمطلوب هو الحكمة، وطول النفس؛ فلا يهزم أصحاب العقائد أبدا إلا إذا تطرفوا أو تشددوا أو تعجلوا.

وعلى المسلمين في العالم كله الوقوف لمساندة إخوانهم في أوربا بكل الوسائل الحضارية: بالبرقيات، والمظاهرات، والندوات في الإعلام والجامعات، بالضغط على المؤسسات والهيئات والحركات الإسلامية، وصولا إلى الضغط -عبر المصالح الاقتصادية- على الدول التي تحرم المسلمات من حقوقهن الإنسانية.

لقد تظاهر طلاب جامعة الإسكندرية في مصر ضد التوجه الرئاسي الفرنسي؛ وهذا مثال على الحيوية التي يتمتع بها قطاع الطلاب؛ وهذه قد تكون مقدمة لحملة احتجاجات، تتصاعد مع الأيام، لتصل رسالة واضحة إلى البرلمان والرئيس الفرنسي، مفادها أن المسلمين في العالم كله يرفضون التمييز ضدهم، وضد أبناء دينهم. وفي الحديث: “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”، ولا أدري لماذا يصرح شيخ الأزهر بأن هذا شأن داخلي في فرنسا، كأنه ينفض يده من مسئولياته!!

وأين مجمع البحوث الإسلامية ليصحح الوضع ويضع الأمور في نصابها؟ وإذا تخلى شيخ الأزهر أو جامعة الأزهر عن دورهما في توضيح الحقائق وبيان الأحكام الشرعية؛ وإذا لم تسع هذه المؤسسة إلى مخاطبة كل الجهات لإبراء ذمتها على الأقل؛ فهل نلوم الحركات الشعبية أو الشباب بعد ذلك، إذا اتهم الأزهر بالتقصير أو السكوت على الحق!!

إن قضية الحجاب ليست إلا مظهرا من مظاهر الأزمة التي يمر بها المسلمون في العالم، وجزءا من الحملة التي تستهدف تشويه صورة الإسلام. وإذا كان البعض يتهم المتطرفين وجماعات العنف باختطاف الإسلام، فقد واتتهم الفرصة الآن لتبني قضايا الإسلام؛ وليس مجرد الدفاع عن الحجاب، بل الخوض في هذا المجال برمته -وهو صد الحملة التي تستهدف تشويه المسلمين عالميا- بقوة، حتى لا ندع الساحة خالية للمتشددين أو المتطرفين، فتكون النتيجة مزيدا من الاستقطاب والتشنج دون الوصول إلى حلول عملية للقضايا المطروحة.

سيزداد الإقبال على الالتزام بالسلوك الإسلامي والمظهر الإسلامي بين الشباب وبين الشيوخ، بين الرجال وبين النساء؛ وهذا ما نلاحظه يوميا خاصة في رمضان السابق؛ وموجات التدين العام تتوالى: التزام بأحكام الشريعة علىالمستوى الفردي، اعتزاز بالهوية والثقافة الإسلامية، مواجهة لحملات التغريب التي تتعرض لها الأمة، رفض للواقع المرير الذي نحياه… وهذا التدين يحتاج إلى جهود ضخمة من الدعاة والمربين، وإطلاق حرية الدعوة، والعمل للإسلام حتى يتم ترشيده ووضعه في النصاب الصحيح، وإلا فإنه معرض إما للإحباط واليأس، أو التحول إلى التشدد والغلو؛ فهل نفيق من سباتنا؟ وهل نقوم بواجباتنا؟ وهل نطلق حرية العمل للإسلام على كل المستويات؟

إسلام أولاين

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>