كثيرا ما أسعفني ذلك المثل المغربي العميق الفلسفة والمعاني ” قال ليه أباك طاح، قال ليه من الخيمة خرج مايل “،للتدليل به على واقع غرائبي الأحداث والوقائع نعيش فصوله هذه الأيام. وهذا المثل يختزن بلا شك الكثير من حكمة الأجداد المغاربة في ربط الأسباب بمسبباتها، ليسهل القبض على جذور العلات بدل الخوض العقيم في تداعياتها و تناسلاتها ..
وبعكس هذا المثل على آخر الأحداث التي عرفتها الساحة الدولية وعلى رأسها مشروع القرار الذي سيصادق عليه قريبا حول نزع حجاب النساء المسلمات بفرنسا بحجة علمانية الدولة، يستوقفنا بالتأكيد التصرف الفرنسي الذي يناقض بشكل مدهش مشوارا سياسيا للرئيس الفرنسي “جاك شيراك “في السنوات الأخيرة طبعته نصرة هذا الرئيس لقضايا العالم الثالث ومعارضته بكل إصرار للجوقة السابحة في الفلك الأمريكي، خاصة في الملف العراقي الدرامي “الحكرة” بكل المقاييس!..
لكن توقفنا هذا لن يستغرق إلا لأسطر نذكر فيها بلد الثورة الفرنسية بأنه فتح عليه عش الزنابير بموقفه هذا الذي يشذ عن تراثه التحرري، وهو الذي قاد كوكبة الطبالين في موكب حقوق الإنسان، ولطالما سره أن يشار إليه بتبجيل باعتباره موطن انطلاق ثورة الحقوق التي أعطت الميلاد للشعار الفرنسي الشهير : مساواة، حرية، أخوة، و في هذا الخضم ركب بحر الحرية المتلاطم الأمواج، وهو حتما يعرف خريطة هياجه وهدوئه، وبالتالي فليس له أن يخشى من رياح الحرية، تلك الرياح التي لا يمكن لها أن تحمل في طياتها إلا اللقاح الإنساني المبارك الذي من شأنه أن يمازج بين البذور ويخرج إلى السطح النبات الطيب بإذن ربه. وعليه في المقابل، أن يحتاط كل الاحتياط من خفافيش الظلام من المفسدين الذي يسعون كلما جرت الرياح بما لا تشتهي سفنهم إلى تهييج المخاوف وإشعال نار الفتن .
وما وقع في الأعوام الأخيرة خاصة بعد تفجيرات نيويورك من تحرش بالإسلام والمسلمين في فرنسا حيث توجد أكبر الجاليات الإسلامية، يدل على أن هذه الخفافيش لا تأخذها سِنَةٌ ولا نوم في صياغة مخططاتها، وقد وقع آخر اختياراتها المتربصة بالنبض الإسلامي بفرنسا على الحجاب لمعرفتها الأكيدة بالخسارة التي تلحق بها في مخططاتها الاستنـزافية من جراء تعفف النساء وتحجبهن في عاصمة الأناقة والموضة!! وبالتالي فقد سعت قوى الشر هذه إلى تضخيم مخاطر التواجد الإسلامي بفرنسا وانبرت عبر إعلام مأجور ومشبوه إلى تحذير فرنسا من مغبة تقصيرها في استئصال جذور هذه الأسلمة التي ستجلب لفرنسا سيادة المتطرفين على البلاد! واستيقاض الفرنسيين ذات يوم على أرضهم وقد أصبحت جمهورية إسلامية يعلو فيها صوت الأذان على قرع الأجراس بالكنائس!! ..
فكيف تم هذا الاستقواء لقوى الشر وكيف انجرفت فرنسا الأنوار وراء هذه الحروب الخداعة بكل يسر؟؟ وبالعودة إلى المثل المغربي السالف الذكر يمكن القول بأن علة هذا الانقلاب الفرنسي، بل علة هذا الضوء الأخضر للانقضاض على الحجاب والتحرش ببنات المسلمين لم تنبثق إلا من واقع خذلان عربي إسلامي غدا أوضح انتفاخا وبشاعة من بطن شارون! .. واقع تعمل فيه سلطة الأقليات الحداثية من أبناء جلدتنا و المدبرة للشأن العام بهذه البلدان سيف الحداثة لقلب الطاولة على المشهد الديني ببلاد المسلمين، ولطالما خاض الإسلاميون معارك صاخبة مع مِزَقٍ متناثرة من العلمانيين الذين ضيعوا قطار الثورة الإشتراكية، وحتى لا يخسروا ما بقي من وقت ميت في هذه الرحلة امتطوا، على عجل، القطار الليبرالي وتسلحوا بكتاب الرأسمال لبوش بعد أن كانوا يتوسدون كتاب الرأسمال لماركس!!.. وإذ انتبهوا فجأة إلى أن الشعب عاد إلى جذوره سالما أجمعوا أمرهم وعادوا إلى مواقع “النضال” على الطريقة البورجوازية المريحة، فكان طبيعيا أن توجه حبالهم وعصيهم إلى الإسلاميين، وكان الحجاب في صلب “أم المعارك” حيث جعلته الكثير من الحركات النسائية على مرمى نبالها وسهامها ونصبته متهما أولاً في رصد أسباب نكوص النساء، فقالت من بين ما قالت بأن الحجاب يحصر المرأة في مجال ضيق ومتخلف، وهو مجال البيت، وأنه يعيقها عن الحركة الفاعلة في مجال الفضاء العام، مجال اتخاذ القرار، وقالت تلك الحركات وقال معها الرفاق بأن الإيمان شأن قلبي متناسين قول الشاعر :
تعصى الإله وأنت تظهر حبه
إن هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
وهؤلاء الفتانون هم الذين أشعلوا أكبر نيران المخاوف في المجتمعات الإسلامية واشتغلوا هم ورموزهم الذين وصل البعض منهم إلى مواقع القرار لجعل الحصار يتجاوز القول إلى الفعل، أي إلى القرارات السياسية وهو ما عايـنا فصول تحققه في الجمهورية التونسية والتركية-والمغرب بحدة أقل- على سبيل المثال بمنع الحجاب .. ومنذ أيام سئل الباحث الفرنسي في الملف الإسلامي “فرانسوا بورغا” عن القرار الفرنسي بمنع الحجاب، فذكر بالنموذج التونسي الذي سبق في حظره للحجاب المنع الفرنسي بوقت طويل!!..
وإزاء هذا التجاوب الروحي والنفسي بين الأسياد والأتباع والذي يذكرني بالمثل المغربي البليغ ” إلا شفتي المزلوط زربان عرف مول الشكارة مسخرو”، لايسعني إلا الاستعانة بقول الله سبحانه وتعالى : {وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا}.
فكيف تتفاعل السنن الكونية في اتجاه إفشال مخططات الباطل، هذا ما سنراه في حلقة قادمة بإذن الله.
ذة. فوزية حجبي