تفسير سورة التغابن – من مظاهر الفتنة الفكرية


 

هذه الفتنة هي حالة من الاضطراب والغيبة عن الذات، وحالة من الضعف الشديد تصل إلى الأمة، وهو الذي تحدث عنه حديث رسول الله  وحذر منه المسلم أن يكون مشاركا في الفتنة. المسلم لا يمكن أن يكون مشاركا في الفتنة لا في إطار الأفكار المُجَزِّئة ولا في غير ذلك… نحن نسلم بأن الخلاف الفقهي موجود قديما، لكننا لا نجعل من هذه الخلافات قضايانا. ليس لدينا قضايا خلافية يجب أن نثيرها في كل مكان.

إذن هذه الفتنة التي تحدثت عنها ووضحتها يجب أن نتنبه لها. ولا شك أن أمتنا الإسلامية الآن إذا تعلق الأمر بهذا الاضطراب والاختلال فإنها تعيش في عمق الفتنة الفكرية لأنها لا تتوحد على رأي، ولا تنتظم جماعتها حول أصل من أصول الإسلام، فمنها المشرِّق ومنها المغرِّب، بل وأقول إن كثيرا من قيم الإسلام قد فقدت وجهلت، ولم يعد الإنسان يستبين، أي أن الإنسان المسلم اليوم لم يعدله ميزان ليعرف ما هو الصواب من الخطأ، وهذا أخطر شيء. إن الإنسان المسلم ما استطاع أن يميز بينهما على جميع المستويات، على مستوى السلوك، والأفكار، والاقتصاد و…

في مستوى السلوك حينما تأتي وسائل الإعلام وخاصة التلفزيون ليزعج الناس بصور داعرة فاجرة، ويفرض هذه الصور ويلح في عرضها، وبعد مدة يرى الناس أن ذلك هو الصواب، وهو الحق, والعلماء الذين يقفون ضد الفن الفاجر فيحرمون الرقص الخليع والعري الفاضح يصبحون متخلفين، والمستمع يمكن أن يصبح مساندا لذلك، لأن الكذبة إذا كررتها مائة مرة تصير حقا ـ كما يقال ـ.

إن الإنسان بطبيعته يتأثر بما يقال. حينما تٌسَرِّبُ إلينا وسائل الإعلام بأن الفاحشة والاختلاط والفجور والتعري والمناظر الخليعة والساقطة أشياء عادية يصبح الأمر فتنة خطيرة.

حينما لا تستطيع أن تميز بين الخير والشر في الأفكار، وبين الإيمان والكفر والإرهاب والدفاع والتطرف والوسطية والأصولية والعصبية، حينئذ تكون في حالة فتنة. حينما تختلط أمامك الأشياء كلها فإن تلك هي حالة الفتنة التي حذر منها الرسول .

ونحن يجب ألا نكون في عمق الفتنة، يجب أن نُكَوِّنَ لأنفسنا فهما مستقى من الاسلام حتى لا ننخدع بما يروج من الأفكار والمقولات.

حينما تتحول الأمة إلى أمة تستقبل كل شيء، ولا ترفض أي شيء وتسلم بكل شيء تكون غارقة في الفتنة.

نحن نتكلم عن المشروعية العالمية، النظام العالمي الجديد، التنظيم الجديد الذي يمنع الظلم ـ كما يقال عنه، فنرى أمامنا أشياء غريبة جدا، ولا نجد دراسة لها، ولا ردا عليها، بل أصبحنا نقبل كل شيء، فهي صنم والتي تحتها الصليبية والصهيونية. حينما تقوم الأمم المتحدة وتعاملنا بمعاملات متباينة ونحن مسلِّمون لها، ألا نكون في فتنة؟ الآن يقال بأن الدولة الفلانية فيها إرهاب، وهي مطلوبة للعدالة، أي لم تثبت بعد إدانتها، وإثبات تهم للإدانة، فيقع الاختلاف في طريق محاكمتها، ويكون القرار يجب أن نحاصر البلد كله.

أغلب الدول الإسلامية أصبحت محاصرة، العراق حوصر مدة ثم احتل، والسودان ذاق المرائر من الحصار، وفلسطين مازالت تعاني، وليبيا حوصرت حتى لانت قناتها والبقية تأتي. أما العرب فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لم يستطيعوا جمع كلمتهم، ولا تحديد هدفهم أمام الخصم الواضح الأهداف. أليست هذه فتنة؟! بل من أعظم الفتن؟؟.

بالأمس القريب، كان أحد الجنرالات قد أخذ إلى المحاكمة لكن محكمة العدل بعد أن أدانته أدركتها شفقة ورحمة به وأطلقت سراحه لأنه مريض بالسرطان ولأسباب إنسانية كما قالوا. وشعوب ترزح تحت الظلم الشديد وتموت جوعا وأطفال يموتون وقنابل تسقط على المسلمين بالآلاف ولا أحد يحرك ساكنا. فهل من المنطق أن يعاقب الجميع بذنب البعض، إذا وجدت حكومات جائرة عند بعض المسلمين وظالمة فلماذا تُعاقب الشعوب كلها؟ ثم إذا عاقبنا لماذا لا نعاقب الذي نعرف أن أيديهم لا زالت تقطر من دماء المسلمين؟.

هذه كلها فتنة بل فتن متلاحقة. حينما لا تعرف عدوك وحينما لا تستطيع أن تميز الصديق من العدو فأنت مفتون أعظم فتنة. والفضيحة الكبرى هي حينما تصير مدافعا عن معذبك وعدوك بل وتصير منتصرا، له منتصرا لمن يَسُبُّ دينك، ويستهزئ بك وبدينك، ويصفون اْلْـحَاطَّ من قدر الاسلام والمسلمين بأنه رجل متفتح العقل، وغيره من الثابتين بأنهم منغلقو العقول واسألوا الإسرائيليين ما ذا يقولون عن دينهم وتأملوا هل اليهود يسمحون الآن بأن ينتهك دينهم كما يُنتهك دين المسلمين. هل تقبل إسرائيل الآن أو أي واحد منها أن يهان الدين عندهم كما يهان عندنا؟.

ومع ذلك فإذا وقفت إسرائيل محامية ومدافعة عن دينها فإن ذلك لا يعتبر تحجرا ولا يعتبرون نصيين ولا جامدين. لكن المسلمين بمجرد ما يقولون إن المستهزئين بالدين مرتدون يكون الرد عليهم من كل جهة بالوصم بالجمود والتحجر والتعصب.

فبماذا يمكن أن تصف من ينكر الصلاة تماما؟ أو أن المفروض ثلاث صلوات فقط؟! أو تكوين فرق من الشباب تعبد الشيطان؟ !أو أن السنة يجب أ ن تترك؟! أو أن إجماع المسلمين على جعل صحاح السنة من مصادر التشريع لا يُعتد به؟! . أو أن الإسلام عقيدة بدون شريعة ولا عمل ولا سلوك؟! أليست هذه كلها من أعظم الفتن التي ابتلي بها المسلمون؟!

د. مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>