امتازت سنة 2003 باحتلال الأجنبي للعراق احتلالا مغايرا للاحتلالات الأجنبية للبلاد الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ذلك أن الاحتلالات السابقة كانت للاستغلال المادي ـ غالبا ـ ولم يكن لديها أمل كبير في تحويل هوية الشعوب المحتلة، نظرا لما كانت عليه الشعوب آنذاك من شدة التحصن بدينها، وشدة الغيرة عليه، وتلك الغيرة هي التي دفعت الشعوب للجهاد والمقاومة، فقاومتْ وتحررتْ، ولكن سُرق منها الهدف الذي من أجله ضَحَّتْ بالغالي والنفيس، وهذا الهدف هو المحافظة على الدين عقيدة وشريعة وأخلاقا وسياسة واقتصادا وتعليما وأسرة ومجتمعا.
لكن الاحتلال الجديد الذي وقع في السنة البئيسة العجفاء التي ودعناها هو احتلال جاء بأهداف مُعْلنة واضحة معبر عنها بالتصريح قبل التلميح، وبدون مداورة أو مناورة أو مواربة، هذه الأهدافهي القضاء على هوية الشعوب الإسلامية، وإدخال هذه الشعوب في مسلسل الحداثة بالمنظور والمفهوم العلماني الكفري لها، وهي تتلخص فيما قاله أحَدُ الحداثيين المُصَنَّعين من بني جلدتنا -مع الأسف- >وَمُنْذُ الآنَ فَصَاعِداً رَاحَ الأملُ بِمَمْلَكَةِ اللَّهِ يَنْزَاحُ لِكَيْ يُخْلِي المَكاَنَ لِتَقَدُّم عَصْرِ العَقْلِ وهَيْمَنَتِهِ…(إِنَّ الحَداَثَة) هِيَ القَوْلُ بمرْجِعِيَّةِ الْعَقْلِ وحاَكِميَّتِهِ، وإِحْلالِ سِيَادَةِ الأَنْسَابِ وسَيْطَرَتِهِ على الطَّبِيعَةِ مَكَانَ إمْبِرْيَالِيّةِ الذًّات الإلَهِيَّةِ وهَيْمَنَتـِهاَ على الْكَوْنِ< انظر فقه المواجهة ل د. عمارة.
فلسفة الحداثة واضحة الاتجاه في تأليه الإنسان، وطرد الله تعالى عن مُلْكه، لأن عقلهم ـ غير العاقل ـ أوحى لهم بعدم وجود الله تعالى أصلا، وإذا وُجِدَ فهو مُعَطَّلُ عاجز لا قدرة له على إدارة ملكه وحُكمه، تعالى الله عما يصفون ويَهْرِفُون.
بهذا الاتجاه، وبهذه الأهداف جاء الاحتلال الجديد للقضاء على الهوية، والثقافة، والفكر، والأخلاق، والقوانين، والحضارة التي تغترف من معين المرجعية الإسلامية النازلة من الله تعالى الذي هو مَعْبُودُ المسلمين في مقابل العقل المتهافت معبود الحداثيين وصدق الله العظيم إذ يقول : {أَفَراَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على عِلْمٍٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَّكَّرُونَ}(سورة الجاثية )
فهو احتلال لهزم الروح، وهزم الإرادات وقد ظهرت الانهزامات جلية في عدة جوانب منها :
1- الاحتلال تَمَّ في يُسْر وسهولة أمام أنظار الدول وكل المؤسسات العربية والإسلامية، فقد وقفت كلها متفرجة كأن الأمر لا يعنيها.
2- أكثر من التفرج أنه احتلال جاء مرحَّبا به من مختلف الأبواق المصنعة من القديم.
3- أكثر من الترحيب ظهر من يُعلن بدون حياء أنه يتحالف مع الأجنبي ويحتمي به خوفا من أخيه في العروبة أو الإسلام.
4- أكثر من الترحيب والاحتماء بالأجنبي، الترحيبُ بتطوير مناهج التعليم وفق الإملاءات الأجنبية.
5- أكثر من كل ذلك الاستسلام المُذِل بدون ثمن ولا جزاء، بل وبدون حتى كلمات شكر وعرفان.
6- وأخطر من ذلك تضخم الطَّحالب التي تغرس الفكر العِوَجي في المجتمع، وتبثه بأقلامها وقنواتها، وندواتها، وتجمعاتها.. في الشباب لتنشئته على الفهم الأعوج للإسلام، والحقوق، والديمقراطية، فالإسلام لا حق له في الحياة وحتى الذكر والاستشهاد به في التشريعات والندوات، والمسلمون لاحق لهم في التعبير عن آرائهم المنطلقة من الإسلام، والديمقراطية ملغاة إذا أصعدت المسلمين لمراكز القرار.. اعوجاج في الفهم للإسلام، واعوجاج في الفهم للحداثة التي يدَّعون، واعوجاج في الفكر الساذج الشريد التائه… اعوجاج في كل مجال، ولا من يفتح الباب للقادرين على إيقاف هذا التيار الإعوجاجي السائد.
7- وأخطر من ذلك نوم الشعوب عن الثعالب التي استحلت التربُّع على منابع الثروة والنفوذ بدون حسيب ولا رقيب.
فهل هذا الهبوط ضربة لازب لا خلاص منه؟
إن فرعون القديم قال لموسى عليه السلام : {لَئِنْ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْري لأَجْعَلَنَّك مِنَ المَسْجُونِينَ} ولكن ربَّ موسى عليه السلام أغرق الاله المزيَّف وأصبح مثلا للآخرين.
وفراعنة العصر مهزومون هزيمة نفسية لا يحسدون عليها، فهم منهارون من الداخل كما كان فرعون القديم ينهار أمام ثعبان موسى عليه السلام، إذ كان عندما يراه فاغرا فاه لا يستطيع إمساك بوله وغائطه ولا السيطرة على كيانه.
وهؤلاء الذين يريدون تطبيق “حق القوة”، يواجههم الاسلام “بقوة الحق” التي تتقبلها النفوس والعقول والقلوب عن طيب خاطر، وتضحي في سبيلها بكل غال ورخيص.
وقديما قالوا “دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة”.
إن حق القوة في منتهى عزه وغروره، وليس بعد التمام إلا النقصان، لقد خبرت الشعوب الإسلامية الاستعمار طيلة القرن العشرين بمختلف أشكاله وألوانه، وهاهي الآن تَخْبُره في طبعته الجديدة المنقحة فلم تجد عنده ما يغري غير الزخارف المادية، والضربات واللطمات الإهانية، فاقتنعت بأن ما عندها من الشرف الإسلامي، والكرامة الإنسانية، والعمق العلمي والإيماني، والأفق المستقبلي الذي يتجاوز حدود الدنيا ويمتد إلى الآخرة ـ مقر المكرمين حقا وصدقاـ اقتنعت بأن ما عندها لا يساوي ما عند الغالب المستعمِر منه قلامة ظفر، فبدأت تتهيأ ـ في كل مكان ـ للتململ والنهوض، وهي جادة في توفير شروط النهوض لا للغلبة والانتقام ولكن للزحف على الظلم بالعدل، وعلى الضلال بالهدى، وعلى الإهانة بالإكرام، وعلى القسوة بالرحمة، وعلى الفساد بالعفة، وعلى التصارع على الدنيا بالتنافس على الرضوان في الآخرة حاملين الشعار الخالد {تِلْكَ الَّدارُالآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرْضِ ولاَ فَسَاداً والْعَاقِبَةُ للْمُتَّقيِن}(سورة القصص)