لقد كان إنشاء المجالس العلمية منذ ما يزيد على العقدين من السنين خطوة موفقة بامتياز، أتاحت الفرصة لتوحيد جهود النخبة العالمة في هذه الربوع الطيبة من أجل إيصال الكلمة الطيبة إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، عن طريق الوعظ والإرشاد الهادفين إلى دعم القيم الإسلامية النبيلة في النفوس، وتقوية روح الالتزام بتعاليم الدين الحنيف وما يدعو إليه من وحدة وتعايش وتسامح وتضحية من أجل الوطن، والتشبث بمقدساته التي تضمن استمراريته وتمكنه من مواجهة مختلف التحديات التي تعترض مسيرته نحو الرقي والازدهار، وبذلك عززت المجالس العلمية التي تم إنشاؤها في مختلف جهات الوطن ما كانت تضطلع به الهيئات الأخرى من رابطة العلماء وجمعيات متعددة فاعلة في المجتمع المدني، الذي لا يمكنه أن يؤدي دوره الطبيعي في الحياة إلا بتكاثف جهود كل المهتمين بشأنه، الحريصين على المصالح العامة للبلاد والعباد، المتشبعين بالمنهج التربوي القويم الذي من شأنه أن يحمي الأجيال المتتالية من أي انحراف أو جنوح قد تكون عواقبه وخيمة على الأفراد والجماعات عند التفريط أو التقصير في الدور الهام، المقدرين لروح المسؤولية التربوية النبيلة التي تدفعهم إلى التوجيه السليم الذي يعمق السلوك السوي في النفوس، وينفر من السلوك المنحرف، عملا بالمبدأ الإسلامي الذي يقوم على درء المفاسد، ويقدم الوقاية على العلاج، وذلك باستغلال الإمكانات المتاحة لإبلاغ هذه الرسالة إلى الناس.
غير أن الشباب الذي يعد أمل الغد، يحتاج أكثر من باقي الفئات إلى من يتولى تحصينه وتثقيفه، ولا سيما في سياق الظروف المحلية والعالمية الراهنة،وما تعرفه من تحولات وإكراهات وما تمخض عنها من تداعيات وانعكاسات سلبية عديدة على العالم الإسلامي وأبنائه الذين بدوا وكأنهم محاصرون، فلم يعد بإمكانهم اليوم أن يحلموا بالدراسة في المعاهد الغربية كسابقيهم، وضعفت أو انعدمت حظوظهم في الحصول على تأشيرة كانوا يظنون أنها قد تكون مفتاحا سحريا لفتح آفاق الأمل أمامهم، دون أن يغيب واقع شبابنا من الجيل الثاني والثالث في ديار المهجر، وما يعانيه من تحديات لا نهاية لها وهو يحاول أن يساير إيقاع الحياة هناك على الرغم مما يواجهه من مواقف مستجدة من كل ما هو شرقي أو إسلامي، مع حرصه على أن يظل متشبثا بهويته وجذوره حتى لا يتعرض للضياع والذوبان.في ظل هذا الواقع العام والخاص، الداخلي والخارجي، ولا سيما وزمام التربية قد انفلت أو يكاد من الأسرة والمدرسة ومعظم الجمعيات، وحتى الأحزاب، وغدا التمرد والعصيان والشغب من ظواهر السلوك الذي أخذ يتفاقم ويعم، ولم يعد الأب أو الأم أو المدرس قادرا على التحكم في توجيه الشباب الذي غدا ينساق أكثر لخطاب وسائل الإعلام البارعة في توظيف مختلف وسائل التأثير والاغراء، فإنه يبدو أن المستقبل المرتبط بهذه الفئة العمرية يحتاج إلى تجنيد الطاقات الفاعلة من أجل تحصينها وإنقاذها من الضياع والانحراف والاستهانة بالمقدسات، والحيلولة دون وقوعها ضحية للتشاؤم واللامبالاة، وقد يكون للمجالس العلمية دور إيجابي في هذا المجال، ولا سيما والوزارة الوصية تعمل من أجل تجديد هيكلتها العامة، وإعادة النظر في برامجها ووسائل عملها.
وإذا كان بعض الناس يرى أن المجالس العلمية بدورها التقليدي لا تستطيع أن تكون فاعلة، ولا سيما وهي تخاطب في الغالب من يدخل المساجد من الناس، وهؤلاء قد لا يحتاجون إلى من يوجههم حاجة غيرهم، مما قد يقلل من درجة التأثير والإقناع وعلاج الانحراف، فقد تبين أن التجارب السابقة والجهود التي بذلتها بعض المجالس النشيطة من شأنها أن تساعد على غرس الروح الدينية والوطنية في نفوس فئات لا تملك من الحصيلة الثقافية ما يجعلها واعية بدورها وبمسؤوليتها في الحياة، ولكنهم في حاجة إلى من يخاطبهم بلغة يفهمونها ويتجاوبون معها، وهذا يتطلب الانفتاح على جهات أخرى، والتوجه إلى فئات أخرى، لكن يتطلب الأمر الاتصال بهم في مدارسهم أو في أنديتهم، وأحيانا حيث يعملون مع حسن توظيف وسائل الإعلام، والاستعانة بالمتمكنين من المناهج المساعدة على التأثير والإقناع، وقد تفيد المحاضرة أو الندوة، أو الفن الهادف أو الرياضة المناسبة، لتحقيق الجمع بين ما يحافظ على الأصالة، والانفتاح على المعاصرة، ولعل ذلك خير ما يحقق الأهداف المنشودة، ولكل رجاله وظروفه ومناهجه ومستوياته، وإذا صدقت النيات عم الخير وساد الأمن والاستقرار، وسلمت البلاد والعباد من كل مكروه، وربحنا الدنيا والدين بإذن الله عز وجل وحسن توفيقه.