أ- العـــذاب
من معاني الفتنة العذاب والعذاب نفسه يسمى فتنة ، {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}(التغابن)، يقول الله تعالى للمشركين {ذوقوا فتنتكم}(الذاريات) أي فتنتهم التي أدى إليها عملهم وسلوكهم في الدنيا وهي وصولهم إلى النار.
فاستعمال القرآن للفتنة بمعنى العذاب استعمال معروف ووارد.
ب- الارتباك والتشكك والضعف والتخلخل
الاستعمال الثاني والأهم الذي تردد في كتاب الله كثيرا، وتردد في السيرة النبوية وفي السنة هو الفتنة بمعنى حالة من الارتباك ومن الضعف والتخلخل يصل إليها الفرد، وتصل إليها الأمة الإسلامية، هذه الحالة كان رسول الله قد أُخبر بها وذكر في أحاديث كثيرة أن الأمة الإسلامية تنتظرها مرحلة من هذه المراحل، وهي مرحلة الاختلال والارتباك، وكان عليه السلام يقول للصحابة : >بادروا بالأعمال فتنة كقطع الليل المظلم<. أي ما دمتم لم تصلوا إلى مرحلة الفتنة فاسعَوْا إلى العمل الصالح قبل أن تدرككم الفتنة لأن الفتنة، حينما تلم تصبح مشغلة وعائقا من العوائق فلا تستطيعون فعل ما يمكن فعله. وبذلك تضيع الكثير من الفرص.
إذن رسول الله يذكر لنا أن الفتنة آتية ويجب أن نبادرها بعمل صالح. هذه الهجمة الشرسة على الإسلام وعلى العالم الإسلامي، هذه التوصيات المتتالية من الصليبية ألا يمكن أن يكون لها فيما بعد أثر على انتشار الإسلام. فالإنسان على كل حال يجب عليه أن يبادر بالأعمال الصالحة تخوفا من الفتنة التي إذا جاءته فرضت عليه واقعا جديدا، يصبح فيها الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا لكثرة ما هنالك من الأشياء التي ستقع، فتفتن الناس وتجعلهم يختلون، ويضطربون، وينتقلون من الخير إلى الشر. إذن فالرسول تحدث عن هذه المرحلة حديثا متكررا وهو ما يُعرف بأحاديث الفتن، بل هناك كتب خاصة في الفتن التي تقع للأمة الإسلامية.
ولقدبدأت الفتن كما وصف رسول الله ، وبدأ التخلخل وكان أول سيف روع الأمة الإسلامية هو مقتل عثمان بن عفان، ومن يومئذ بدأت اضطرابات واختلالات كثيرة. فهذا هو الواقع الذي آل إليه الأمر أي أن الفتنة تعم وتنتشر، وأن المسلم حينئذ يجب أن يكون واعيا بهذه الفتنة فيثبت على دينه، ويحافظ على كتاب الله وسنة النبي ، ولا ينخرط في الفتنة أبدا كيفما كانت. سواء كانت الفتنة فتنة فكرية، أو حينما يتفاقم الأمر فتصير الفتنة تضاربًا وقتالا بين الناس، أي هناك أمة مسلمة تريد أن تجمع شتاتها وتلتقي على صواب وتعود إلى وعيها ودينها فيقوم دعاة في هذا المكان أو ذاك فينشرون في الأمة أفكارًا من شأنها أن تخلخل نظامها واجتماعها.
قد تختلف في بعض الأمور، في كيفية أداء الصلاة مثلا والخلاف موجود قديماً ومواقف المذاهب الفقهية معروفة قديما، لكن حينما نقر بالخلاف، ونعترف بأن الآخر يمكن أن يكون له دليل، ونقبل منه ما هو عليه، ويقبل منا هو ما نحن عليه، فإن هذا الأمر يكون منطقيا وهذا الاختلاف يكون اختلاف تنوُّع. لكن حينما يقفز بعض المختلين وبعض المسلمين ولا تصلي مجموعةٌ مع مجموعة، ولا يلتقي فلان مع فلان، ويرى كل واحد أنه هو الحقّ، وأن ما سواه هو الباطل، ولا يقبل من أحد إنصافا، ولا عدلا أبدا، حينئذ نكون قد صرنا أطرافا في الفتنة، كل واحد أصبح مسؤولا وعاملا على توسيع دائرة الفتنة من حيث يظُنّ أنه يخدُم الدين وهو يتماشى مع أغراض الصليبية والصهيونية، لأن هذه الأخيرة لا يعجبها شيء مثلما يعجبها أن ترى الأمة الإسلامية موزعة ومشتة، حينما ندعو إلى العصبيات وننميها، أي حينما تكون الأمة تحمل هموما كبيرة وتعجز عن النهوض بها، وحينما تكون الأمة ضعيفة وأرضها مكتسحة، والبطالة فيها شائعة ومشاكلها متفاقمة.
حينذاك يقوم قائمون فيقولون يجب أن نتحدث عن أهمية المناطق وأن لكل منطقة خصوصية، يجب أن تتكلم لغتها ولهجتها، ونتحدث عن من نحن، ونفتت الأمة ونشتتها حتى في مواسم الحج التي أرادها الله تعالى أن تكون مواسم التقاء واجتماع.
حينما تنقل لنا وسائل الإعلام أخبار الحجاج فبدل أن فنتحدث عن الأخوة الإسلامية والالتقاء نتحدث عن التمييز الذي يتميز به فلان عن فلان ويتحدث كل واحد بلهجته الخاصة.. ونحن الآن نطلب أن نتحدث بلغة مشتركة للأمة الإسلامية كلها أي كيف نركز على هذه الأشياء المشتركة. إذا وجد إنسان مثلا من هذه الطائفة أو تلك الجهة فنحن نحترم خصوصيته ولكننا لا نبرز الخصوصية إلى أن نجعلها واقعا يفرض علينا أن نتجزأ. نعم لكل منا خصوصياته لكن إذا أردنا أن نحدث الناس فلا نحدثهم بلغة لا يفهمها إلا قلة من الناس. المفروض أن بني فلان يتقنون لهجتهم ويتحدثون بها والأمر مسلم لهم، ولكن الآن إذا أرادوا فليحدثونا بلغة القرآن. من كان لا يحسن لغة القرآن فليسكت، فليحدث بلغته تلك قومه.
هذه بعض عناصر الفتنة سواء في المساجد، أو عند جماعات إسلامية، أو عند عموم المسلمين. فكل شيء يؤدي إلى تفريق الأمة الإسلامية وتجزئتها وبعثرتها هو فتنة، وهو مما تحدث عنه النبي } حول هذه الفتن التي أدت إلى هذا الاختلاف، لأن الاسلام جاء ليصهر الكل. فشيمة الإسلام هو أنه جاء ليصهر الخصوصيات ضمن دائرة الأمة الإسلامية. فلا يمكن أن نكون أمة بخصوصية متميزة. حتى تكون لنا الرغبة في تكوين أمة تَدْعُو كُلَّ واحد منا إلى التنازل عن شيء لمصلحة المجموع، أي كما يقع عند الأوروبيين في قضية العُمْلة. تمسك كل دولة بعُملتها لا يمكن أن يؤدي إلى نشوء سوق أوروبية موحدة، لكن احتفاظ كل دولة بعملتها يجب أن يصاحبه القبول بالعملة المشتركة ليقع تداول العملة من شرق أوروبا إلى غربها.
فلماذا نحن لا نفكر في توحيد ما يصلح للتوحيد مثل اللغة والاقتصاد، أو الأسواق الاقتصادية، أيصعب على الأمة الإسلامية أن تجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية الأولى؟! فتقضي على الانقسامات العرقية والفكرية.