نظرات فـي معاني الآيات الأولى مـن ســورة المـدثـر
عند التأمُّل في الآيات الأولى من سورة المدثر التي كلّفت الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، نجد أنها تتضمن: هدف الدّعوة، ووسائلها، وتبعاتها.
فالهدف هو: {وربَّك فكبِّر} إذ تكبير الله عز وجل معناه ألا يكون في نفس الإنسان شيء أكْبَر من الله عز وجل، ولذلك كان شعار المسلمين في الصلاة والآذان والحج، والذبيحة، والجهاد “الله أكبر”.
أما الوسيلة فهي نظافة الظاهر و الباطن، {وثيابك فطهِّر، والرّجْزَ فاهْجُر} أي طَهِّر ثيابك وجوارحك من كل الأرجاس والمنفِّرات والمعاصي، لتكون داعيا إلى الله تعالى بالقدوة وحسن الخلق، قبل الدّعوة بالكلمة.
أما التبعات فهي معاداة ومخاصمة شياطين الإنس والجن الذين تمحَّضوا للشرِّ، وتمرّدوا على الخير والفضيلة، فهؤلاء يرْمُون عن قوس واحدة كل من جَنَّد نفسه لدعوة الناس لله، ولذلك كان النّهْيُ عن الانقطاع عن طريق الدّعوة لأنه وإن كا نت تكاليفه باهضة فعاقبته سليمة {ولا تمنن تستكثر} وكان الحث على الصبر لله تعالى الذي يرعى دعاته، ويؤيدهم ويثبتهم ويربط على قلوبهم في الأزمات والشدائد {ولربك فاصبر}.
الصلاةأول شعائر الدين وآخرها
ذكر ابن إسحاق أن جبريل عليه السلام علّم الرسول صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة بعد نزول الآيات الأولى من سورة العلق، فعلمه ممارسة شعائر العبادة التي تترجم الاتصال بالله عمليا بعد الأمر بقراءة الكون باسم الله والفهم عنه في كل النشاطات العقلية والقلبية والجارحية، فعلَّمَه تطهير المظهر والمخبر قبل أن تنزل {وثيابك فطهّر والرجز فاهْجُر}.
يؤيد رواية ابن إسحاق نزولُ الآيات الأولى من سورة المزمِّل، قبل المدثّر، حيث تأتي في ترتيب النزول السورة الثالثة بعد العلق، والقلم، بينما المدثر نزلت بعدها، ولا نتوفر على نص موثوق به يحدد المدة الزمنية بين أوائل السور الأربع.
لكن الذي يُهِمُّنا هو أنه لا دين بلا صلاة، فهي الشعيرة التي لا تهاوُن فيها لا في حالة المرض، ولا في حالة القتال، ولا في حالة انعدام الطهورين، ولذلك كانت الفيصل بين الإسلام والكفر، وكانت الفريضة التي يسمح بضرب الأولاد من أجل إقامتها، كما يسمح أن تكون علة لجواز تطليق المرأة (المسلمة) الممتنعة عن إقامتها.
أما كيف كانت تقام فللعلماء و المحدثين في ذلك أقوال أشهرها ما ذكره السهيلي قال: “وذكر المزني أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس، وصلاة قبل طلوعها، ويشهد لهذا القول قوله سبحانه {وسَبِّحْ بحمْد ربِّك بالعَشِيِّ والإبْكار} وقال يحيى بن سلام مثله، وقال: كان الإسراء وفرْضُ الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام، فعلى هذا يُحتمل قول عائشة “فزيدَ في صلاة الحضر” أي زيد فيها حين أكْملت خمسا، فتكون الزيادة في الركعات، وفي عدد الصلوات، ويكون قولها “فرضت الصلاة ركعتين” أي قبل الإسراء، ويجوز أن تكون ليلة الإسراء فُرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر بعد ذلك” -كل ذلك قال به طائفة من السلف ورواة الحديث (283/1 الروض الأنف)-.
والذي يظهر من قول الله تعالى {يا أيُّها المزَمِّل قم اللَّيل إلاّ قلِيلاً نِصْفَهُ أو انْقُصْ مِنْهُ أو زِدْ عليْهِ ورتِّل القرآن ترْتيلاً إنّا سنُلْقي عليكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} ومن الأحاديث الكثيرة الواردة في صفة قيام الرسول صلى الله عليه وسلم وتهجده، وقيام طائفة من المؤمنين معه، أن قيام الليل كان مفروضا على الرسول والمسلمين، واستمر فرضه على المسلمين إلى أن نزل التخفيف عن المؤمنين في الجزء الأخير من سورة المزمّل {إنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُوم أدْنى من ثُلُثَي اللّيْل ونِصْفه وثُلُثه وطائفةٌ من الذين معك واللّه يُقَدِّر اللّيل والنّهار عَلِم أن لَّنْ تُحصُوه فتابَ عَليْكم فاقرأوا ما تيسَّر من القرآن علِم أن ْسَيَكُون مِنْكُم مرْضَى وآخَرُون يضْربُون في الأرض يبْتغون من فضل الله وآخرُون يُقَاتِلُون في سبيل الله فاقْرؤوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ…} أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد استمر تهجُّدُه واجباً عليه إلى لقاء ربه، لقول الله تعالى {ومن اللَّيْل فتَهَجّدْ بِه نافلةً لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} -سورة الإسراء-.
كانت الصلاة الشعيرة الأولى التي كُلِّف المسلمون الأُوّل بأدائها لأنها مدرسة التربية الإيمانية، والتصفية الروحية، ولأنها رمْزُ التحوُّل التام نحو العيش في كنف الله تعالىورعايته، وتطليق الارتباط بالأرض وشهوات الإنسان وأهوائه. ولقد وجد السابقون في تلاوة القرآن والترنُّم به والركوع والسجود لله لذة لا تعْدِلها لَذَّةُ حيازة الدنيا بحداً فيرها، وما تكون الدنيا أمام التبتُّل في محراب الضراعة لله والتذلل بين يديه واتخاذه وكيلا ومُعْتَمداً وملجأ وملاذاً؟ {ربُّ المشْرق والمغرب لا إِلَه إلاّ هُو فاتّخِذْهُ وكِيلاً}.