رجال على درب الـمحجة – غربة “ابن رواحة” في زمن المحنة


من نبوءات الرسول الكريم  ،أن هذا الدين سيعود غريبا في آخر الزمان.. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : >بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ<(1).. وفي رواية أخرى : >إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ(أي: ينظم ويجتمع) إِلَى الْحِجَازِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا وَلَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنْ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الْأُرْوِيَّةِ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ، إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي<(2)

إن هذه الأحاديث الشريفة هي من دلائل نبوة محمد عليه الصلاة السلام، وهو مما نطق به المصطفى الأمين منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا- وهو  لا ينطق عن الهوى بل هو الوحي الرباني الذي يوحى- كشف الحق تبارك وتعالى حجاب الغيب لنبيه الكريم في مسألة نعيش تداعياتها في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها الأمة الإسلامية حيث غربة الدين وعزله عن قيادة حياة الناس وتوجيهها..

ولم تقف هذه الغربة في غربة الإسلام كعقيدة وسلوك والتزام ومنهج حياة، بل طالت رجالاته العظام من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان..فأصبح الكثير منهم في خبر المجهول لا يُعرف لهم اسم، ولا تدرس لهم سيرة، فضلا أن يقتدى بهم ويستفاد مما تركوه من علم وحكمة قل نظيرها في التاريخ.. ومن بين هؤلاء الذين غُيبوا من ضمير الأمة، وأبعدوا عن ساحة التدارس والـمدارسة الصحابي الجليل عبد الله بـــن  رواحة ]..

كَانَ لعَبْد اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ] مقالة يقولها إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ.. كان يَقُولُ : >تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً<،فَقَالَ مقالته ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ فَغَضِبَ الرَّجُلُ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ  فَقَالَ : >يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرَى إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ يُرَغِّبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ !}، فَقَالَ النَّبِيُّ  : >يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ، إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تُبَاهَى بِهَا الْمَلَائِكَةُ<(3)

فكيف كان إيمان تلك الساعة عند ابن رواحة؟..

لقد دأب ابن رواحة ] على أن يسأل أخاه عندما يلقاه: كيف حالك مع الله؟ كيف صلتك بربك؟ كيف تذكُرك الدار الآخرة؟ كيف هو استعدادك للموت..؟ وبذلك كان ابن رواحة يجدد إيمانه ويذكر إخوانه بتجديد هذا الإيمان.. وهو أمر مطلوب ممن يخالط أغيار الدنيا وتعلق بقلبه أدرانها، فلا بد من الجلاء والصقل والتنظيف، وهذا لا يتحقق إلا بتذكر المعاني السامية التي كان ابن رواحة يتعهد بها إخوانه. فكانت مجالس رحمة تحفها الملائكة، وتلك التي وصفها رسول الله  بالمجالس التي تتباهى بها الملائكة.. فهي التي خلقت على الطاعة وجبلت عليها، ودأبت على الذكر والتسبيح وتقديس المولى جل وعلا.. فعندما يكون من أهل الأرض بشر يرتقي إلى تلك القمة التي عليها الملائكة مع كل نزعاته البشرية وميوله الحيوانية وجاذبية الحفنة الطينية التي خلق منها، فإن هذا مدعاة لفرح الملائكة ومباهاتها الخلق أجمعين بهذا النموذج البشري الراقي بالروح التي نُفخت فيه إلى عليائها وسموها..

إن مجالس الذكر هذه لها من الفوائد والجوائز ما ذكره الرسول الكريم عليه الصلاة وأزكى التسليم، جاء في حديث أبي هريرة ] عن رسول الله  : >… وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ..<(4).. إلى هذه الدرجة بلغ فضل هذه المجالس، وبهذه العطايا الربانية وصلت قيمة هذا الرياض من رياض الجنة.. فقد جاء عن رسول الله  أنه قَالَ : >إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا..<، قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : >حِلَقُ الذِّكْرِ<(5).. ففيها نزول السكينة وهي منحة من الله تعالى لهذا الإنسان المسكين الغارق في عصر الضوضاء والتوتر، والقلق المرتبط بهوجاء هذه الحياة المتقلبة الفاتنة..((نزلت عليهم السكينة))، فهي سكينة الإيمان وسكينة الأنس بالله تعالى، ووقار الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.. والمنحة الثانية غشيان الرحمة الإلهية، فرحمته تبارك اسمه وسعت كل شيء، وهي قريب من المؤمنين المتمسكين بالكتاب والمقيمين الصلاة.. وما أحوج العبد  المذنب المفرط في جنب الله تعالى إلى هذه الرحمة التي تنقله إلى الطمأنينة وراحة البال والسعادة في الدارين.. أما الجائزة الثالثة في هذه المجالس فهي حفوف الملائكة >وحفتهم الملائكة<، إنه الفضاء النوراني والمحيط الذي يغطي سماء وجنبات الجالسين في هذه المجالس، فهم يقبسون قبسات من نور الملائكة- وهو من نور الله جل وعلا- ينير وجوههم ويهدي طريقهم..{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فبالنور ترى الأشياء على حقيقتها، وبالنور يميز العبد بين الحق والباطل، وبه يُعطى الفرقان الذي يفرق به العبد بين الصالح والفاسد..  والملائكة هم شهداء عند الله تعالى في الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين.. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : >إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ ، قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي قَالُ يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي قَالَ فَيَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا قَالَ يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي قَالَ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً قَالَ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ قَالَ يَقُولُونَ مِنْ النَّارِ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ قَالَ هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُم<(6).. وخاتمة هذه الجوائز وهذه المنح الفريدة، يأتي ذكر الله للذين يجتمعون على ذكره ومدارسة كتابه في الملإ الأعلى >وذكرهم الله فيمن عنده<.. ليت شعري كيف تصبح قيمة هذا الإنسان الضعيف المفتقر إلى ربه، حين يذكره خالقه وبارؤه في الملإ الأعلى؟.. يذكره باسمه وصفاته.. كيف بقلبه وقد ذكره المولى جل وعلا في عليائه وجلاله؟.. إنه ولا ريب سيكون على أحسن حال، وستسمو روحه إلى بارئها تبغي الوصال..

هذا شأن مجالس الذكر، وحلق التقرب من البر الرحيم جل وعلا..

ولقد عاش الرعيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم جميعا في مدرسة رسول الله  على مثل هذا الحال.. فقد لقي حنظلة أَبُو بَكْرٍ ذات يوم فَقَالَ له الصديق : >كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟<، قَالَ : >نَافَقَ حَنْظَلَةُ !<، قَالَ : >سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟<، فقَالَ حنظلة : يا أبا بكر] نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ  يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ  عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا<.. قَالَ أَبُو بَكْرٍ : >فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا<..

يقول حنظلة فانطلقت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ  قُلْتُ : > نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ<.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : >وَمَا ذَاكَ ؟< قُلْتُ : ّ> يَا رَسُولَ اللَّهِ ! نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا<، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : >وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)<(7)، وهذا تصريح من المبعوث للعالمين أن الناس تغشاهم ساعات الرحمة كما تغشاهم ساعة الغفلة، فلا بد من تجديد الإيمان حتى تنمحي الغفلة وتحيى اليقظة في قلب العبد المؤمن، فإذا ما وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من السمو فإنه يحمل هذا الإسلام بنفس غير نفسيات البشر، وبعزيمة تصغر دونها العزائم ويعتبر نفسه أنه  هو المكلف بهذا الدين، فالأمر الإلهي موجه له والنهي الرباني يعنيه وهكذا..

ولَمَّا نَزَلَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ : >أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ< وَاحْتَبَسَ عَنْ النَّبِيِّ  ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ  سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ : >يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ اشْتَكَى؟<، قَالَ سَعْدٌ  : >إِنَّهُ لَجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى<.. فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ ثَابِتٌ : >أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ  وأنا الذي أجهر له بالقول. حبط عملي، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ<، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ  فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : >بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ<.. قال أنس : >فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة<(8)..هكذا صفت النفوس ورقت القلوب وارتعشت تحت وقع نداء الحبيب، وخافت ووجلت ذلك التحذير الرهيب.. وفي كلا الحالين كان كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم  يتمثلون ما فيهما روحا وعملا..

فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.. أضاعوا مجالس الذكر واستحلوا مجالس اللهو واللغو.. قوم أهمتهم أنفسهم ومصالحهم، وتركوا الدعوة والجهاد.. قوم فسد قولهم وبطل عملهم وانغمسوا في وحل الدنيا ووقعوا في شباك الفتن الوعرة..

في هذا الزمان الذي زحفت فيه المحنة على أهل الإيمان، وحوصر أهل الذكر والقرآن، وتغرب أهل لا إله إلا الله وانزوى بهم المكان.. في هذا الزمن الموبوء بشتى الأمراض القلبية منها والعضوية والنفسية، أصبحت مقولة ابن  رواحة غريبة غربة هذا الدين.. في عصر انقلاب الموازين واختلال المقاييس أمسى كل من ينادي بمقالة >اجلس بنا نؤمن ساعة< مصنفا في دائرة الإرهاب والإرهابيين، وهو مغضوب عليه من لدن أرباب العولمة الأمريكية والهيمنة الصهيونية البشعة.. لقد أصبح من يرفع شعار ابن رواحة >اجلس بنا نؤمن ساعة< من الناس الذين يُخيفون ويُرعبون.. وقد يتساءل بعضهم: ماذا يجري في هذه المجالس؟ عن أي شيء تجتمع؟ ولأي شيء تهدف؟ لأي شيء يعدون أنفسهم؟ وما هي نواياهم الخفية غير تلك التي يبدونها ويظهرونها؟..هل ما يفعلونه من تلاوة القرآن ومدارسته ومعرفة حديث المصطفى وشرحه هو فقط ما فيها؟ هل لديهمشفرة غامضة يفكون بها رموز الآيات والأحاديث في سياق غير الذي يُسمع ويُرى؟؟ هل هذه المجالس هي لتنقية القلب وتقوية الإيمان فقط؟.. فقط يعني؟.. هل.. هل .. أسئلة وأسئلة تبين إلى أي حد صرنا، وإلى أي حد نزلنا وتدنينا.. والحالة هذه توضح وتبين حجم الغربة التي وصل إليها الدين، حتى أصبح مجلس يذكر فيه اسم الله تعالى ويُصلى فيه على النبي  من الأمور الغامضة التي يصعب الاقتراب منها أو التفكير في إحداثها.. بل أصبحت ترى من يُدعى إلى >اجلس بنا نؤمن ساعة< ينظر إلى من دعاه بعين الريبة والشك، ويتوجس منه خيفة، ويود لو أنه يولي هاربا من هول ما بُشر به.. أيسمعه على هون أم يتهم مخاطبه بالتطرف والإرهاب؟..أليست هذه غربة؟.. ألم يعد ابن رواحة غريبا وسط هذا الانقلاب المفاهيمي ووسط المحنة التي أحاطت بالإسلام؟..

رحم الله ابن رواحة الذي كان يحب مجالس الذكر، والذي كان يدعو لها في كل حين ولحظة دون ملل ولا كلل.. رحم الله عبد الله بن  رواحة الذي علم عمق الأثر الإيماني التي تحدثه مثل هذه المجالس في قلوب العباد…

إن شعار >اجلس بنا نؤمن ساعة< لجدير بأن يعيش ويحيى رغم المحنة المحيطة ورغم الفتن المدلهمة.. إنه شعار إحياء القلوب وتجديد الصلة برب الوجود.. إنها مجالس الرحمة والمغفرة والثبات على الحق المبين.. إنها مجالس القرآن العظيم، وحديث سيد المرسلين.. وإذا كان ابن رواحة قد مات فإن رب مجالس الذكر حي لا يموت.. وإذا كان بعضهم يريد لهذه المجالس أن تموت فهو الميت، وشعار >اجلس بنا نؤمن ساعة< باق لا يموت..ولله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله تعالى..

——-

(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا…

(2) سنن الترمذي،حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، كتاب الإيمان عن رسول الله  باب ما جاء في أن الإسلام بدأ غريبا…

(3) حديث مروي عن أنس بن مالك ]، وانفرد به أحمد بن حنبل في مسنده..

(4) صحيح مسلم، أخرجه في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ضمن باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر. وأخرجه الترمذي في العلم عن رسول الله ، وأبو داود في الصلاة والأدب، وابن ماجة في المقدمة، والإمام احمد في باقي مسند المكثرين..

(5) حَدِيثٌ حَسَنٌ غريب، أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الدعوات عن رسول الله  باب ما جاء في عقد التسبيح باليد..

(6) صحيح البخاري، من كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، وورد في صحيح مسلم من كتاب الذكر والدعاء والتوبة، الترمذي من كتاب الدعوات لرسول الله ..

(7) صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر الفكر في أمور الآخرة والمراقبة، والترمذي في صفة القيامة والرقائق، وابن ماجة في الزهد، والإمام أحمد في مسند الشاميين..

(8) صحيح مسلم كتاب الإيمان باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله، وأخرجه البخاري في المناقب وتفسير القرآن، والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين..

 ذ. محمد بوهو

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>