حدثتني نفسي الأمارة بالسوء لا بالحسن يعاضدها شيطانها بوسوسته النفاثة تقول لي : -وفي لهجتها مسحة من امتعاض أو رنة من عدم الــرضا الخفي المغلف بطلب المعرفة وبيان السبب- : لماذا تتكرر ” سورة الفاتحة ” في الصلوات في كل ركعة ما الحاجة الضرورية في هذه العملية المورثة للملل والضجر بل وما الحكمة في إعادتها في كل ركعة من ركعات كل صلاة.
فلو أحصينا صلوات الفرائض فقط لجاءت سبعة عشرة مرة إذا أضفنا عليها عدد ركعات السنن والرواتب القبلية والبعدية والصلوات الأخرى غيرها إذن لبلغت إلى ما يقرب من أربعين مرة في اليوم الواحد. فما هي فلسفة هذا التكرار.الكثير الكثيف؟
قلت مجيباً بما ألهمني ربي حاضراً وأنا في صلاتي : لقد تمثلت لي سورة الفاتحة لأول مرة في حياة عبادتي بمطرقة في يد صانع ماهر متقن يعرف كيف ينزل ضرباته بإتقان وقوة ودقة، وتمثلت النفس أمامي بقطعة من معدن مطاوع حارٍ ساخن ليصنع منها نموذجاً من الإنسان الحي الواعي المتنامي ؛ فحتى تبلغ إلى حدها المقدر لها ؛ فلا بد من طرقها بتلك المطرقة الربانية المعنوية السماوية أعني بها سورة الفاتحة، بل ولا أخالها تستغني عنها حتى آخر لحظة من الحياة الدنيا دار الفتنة والبلوى. وإذا علمنا أن كثيراً من الضربات والطرقات قد تطيش ولا تنزل جيداً على رأس النفس الموضوعة على سندانة التقويم والتربية أدركنا كم تحتاج هذه النفس الخداعة المكارة اللعابة من وقت وجهد وتصميم لتكوينها تكويناً رصيناً قيماً فالحاً مما يؤخر عملية التزكية المرادة المقصودة في منهج الوحي الكريم أشواطاً، وأشواطاً بل وأياماً من العمر غير قليل ولا يسير، فكيف الوصول -والحالة هذه- إلى النتيجة المأمونة إذا لم تكن الطرقات مضبوطة ومستديمة بلا نصب ولا تعب حتى تتشكل صورة النفس المؤمنة المطمئنة.
هذا ولو تأملت بامعان وتدبر عميقين لرأيت أن الكون بأسره قائم دائم على نظام التكرار وقانونه الأساسي المطرد :
ألا ترين الشمس تطلع وتغرب كل يوم؟
ألا ترين الصيف والشتاء يتعاقبان كل سنة؟
ألا ترين كل نبتة، كل حيوان تنمو وتكبر ثم تثمر وتزوي في دورة سافرة؟
ألا ترين القلب ينبض ويخفق بدقات ودقات في كل ثانية مرتين؟
ألا ترين التنفس يتردد شهيقاً وزفيراً في كل لحظة بلا توقف..
فالخلاصة المفيدة أنك أينما تلفت وجدت ظاهرة التكرار طابع الحياة في كل شيء، لغايات عظيمة وحكم بالغة قد تعرفين بعضها وقد يفوت عليك بعضها فما أوتيت من العلم إلا قليلاً.
فلماذا تتأففين فقط من مناسك العبادة وفي الصلاة خاصة.
نعم نعم !
ننام ونستيقظ، نجوع ونشبع، نظمأ ونشرب، نعمل ونستريح، نتكلم ونسكت، نضحك ونبكي، نمرض ونصح، نربح ونخسر، نغتني ونفتقر، نغيب ونظهر، نقيم ونسافر، ننسى ونتذكر،نتعادى ونتحابب، نجهل ونتعلم، نحيا ونموت في سلاسل لا تنتهي من التكرارات فإذن سواء شئت أو أبيت فسأجرعك كؤوس العلقم المر ولو كان كالسم الزعاف لك حتى تستحليه وتتذوقيه وكأنه شراب منعش بارد حلو. وتستمرئيه فهذا شأنك، وديدنك وإلا فلو تركت وما تهوين فستدمرين عالم الدنيا والآخرة معاً بأهوائك وألاعيبك كالطفلة الحمقاء تحطم لعبها ودماها.. ثم إذا عرفت الحقيقة شيئاً ولو قليلاً بكت وصرخت وملأت الأجواء بعويلها ولكن بعد فوات الأوان !
واعلمي أيتها النفس الغريرة الشريرة يا أخلص عميلة الشيطان الرجيم !
لقد كلفنا منذ أن نبلغ سن الرشد بتقويمك وتهذيبك بل ونحتك نحتاًرشيقاً أنيقاً كما تنحت التماثيل المرمرية والبرونزية بين يدي فنان عبقري قدير بارع موهوب لا ينقصها في النهاية غير نفخة من روح الله : سرّ أسرار الحياة !
ولذلك وأنت تمثال حي نابض يتحرك بكل حيوية واقتدار -فسنعمل فيك بأزميل التكرار الحكيم الفعال بهذه السورة القرآنية الخالدة المختارة المنزلة خصيصاً لهذه المهمة المباركة من فوق السماوات السبع الطباق، إلى أن تصلي بإذن الله مالكك وخالقك وربك الكريم- إلى درجة تؤهلك حقاً وصدقاً للعرض في محشر الإسلام والإيمان والتقوى والجهاد والعلم والإحسان،لعل الله سبحانه وتعالى أن يتفضل يوماً إليك بنظرة حنو وفخر ويقبلك ويسلمك عنده كعبد صالح مرتضى في زمرة عباده الصالحين العظماء ويكتبك في سجل الخالدين ويعلن حبه ورضاه وقربه في ملكوت السماوات.. وذلك هو الفوز الأعظم والنصر الأتم.
فهل عرفت الآن جانباً من جوانب حكمة تكرار هذه السورة العظيمةالشأن؟ وهل اقتنعت وأمنت ثم اطمئننت على ضرورة سلوك سنة التكرار وإتباعها كعلاج ناجح رائع توافقاً وانسجاماً بل وتعانقاً مع فطرة الله في الكون والخلق وقوامهما.
وهذا هو عندي -وربما عند كثير من رجال أمة القرآن- سر اختيار هذه السورة الكريمة الفريدة بل والمعجزة المدهشة لدى البلغاء والعلماء من أولى الألباب.. والتي تكمن في كلماتها ومعانيها التي تتلاطم كأمواج البحار بالحقائق والأنوار ولئالئ الأسرار فبرزت في باب عالم القرآن العظيم كالثريا المعلق المنير تدعو من أقبل للولوج في ملكوت الوحي الخاتم الموّار بين دفتي كتاب مبارك حبيب ليكون سهلاً للحفظ والفهم والذوق والحركة والإنجاز الكريم في دروب الجهادين : الأكبر والأصغر سواء بسواء حتى يتحقق النصر النهائي العظيم في سدرة المنتهى إن شاء الله.
< ملحق :
وبما أن سورة “الفاتحة” تتكون من سبع آيات كريمات ؛ فكل آية من آياتها طرقة وبمجموعة الطرقات السبع تنزل على كينونة النفس لإصلاحها وتعديلها واحسب حسابك كم من مرة تطرق بمطرقة الفاتحة بآياتها السبع في كل مرة، في كل يوم..؟ ولا بأس أن تطرح منها عدد مرات السهو والغفلة والنسيان والفوت والعجلة !
ولا ننسى أن السورة مكية فهي تمثل مرحلة البناء والتأسيس في حياة عقيدة المسلم الجديد فلا شك أن سورة الفاتحة بهذه المواصفات والحقائق ضرورة من ضرورة الدين لتصنيع النموذج القرآني الحديث للتأريخ بعد الواقع المعاصر أسوة حسنة للأجيال المتوثبة نحو الأمام والأعلى في آن واحد.
هذا فضلاً عن أن طبيعة البناء المادي والمعنوي تقتضي عملية التكرار كما يحصل تماماً في بناء البيت طابوقاًطابوقاً.
فعلى هذا الأساس الكوني تكون كل آية من آيات سورة الفاتحة بل سورة الفاتحة نفسها لبنة جديدة قوية في بنيان البناء الشامخ وطابوقاً متراصاً رصيناً لارتفاع قواعده إلى أعلى عليين.