الكتلة الثقافية الإسلامية ودورها في تقوية الثقافة العالمة
إن أمننا الثقافي لا يكون بمواجهة الأفراد, من خلال تأليف الكتب أو الرد على الشبهات والبهتان، وإنما بالجماعات التي توحدها هموم هذه الأمة من خلال المؤسسات والمعاهد البحثية التي تتكامل بداخلها الجهود والاجتهادات، حتى تكون للمثقفين والمفكرين القدرة على مواجهة مشاغل العصر واستشراف آفاق المجتمع والتحديات.
كما أن لقيام هذه المعاهد والمؤسسات بتجميع جهود المهتمين دورا في إحداث كتلة ثقافية قوية تستطيع من خلالها ثقافة الغد أن تحقق اختراقها للمؤسسات السياسية، التي إن لم يتم جذبها والتأثير فيها، ستظل من أهم معوقات النهوض الحضاري لهذه الأمة؛ إذ تحتاج الثقافة العالمة المبدعة لشرط الحرية، لكي تنمو وتترعرع وتثمر، بل وتقاوم، لأنها مجندة بخلفية سياسية تستطيع من خلالها الوقوف في وجه المد الإمبريالي الخارجي.
إن المراقب والمتتبع لمسار وواقع الثقافة الإسلامية في المرحلة الراهنة بالذات، سيلاحظ، بلاشك أن نقصا كبيرا في الدراسات المستقبلية التي تكون في حجم التحديات والآمال معا؛ تحديات الحاضر الذي يتحرك بسرعة نحو المستقبل بفضل الثورة المعلوماتية، وآمال الخروج من بوثقة ما نحن فيه من متاعب وإخفاقات، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن من عادة الغرب أن يقدم رؤيته لكل ما هو حادث على ساحة العلاقات الدولية، بل ويعمل جاهدا على رسم الخريطة الشمولية لمستقبل هذه العلاقات بما يخدم مصالحه ووجوده وهويته. وبذلك نكون أمام نظام له الإرادة القوية والاستعداد المستمر للحفاظ على كيانه ومجاله الحيوي مهما كلفه ذلك من ثمن وتضحيات.
ولعل السؤال الذي تفرزه المتابعة لهذا الواقع، المحلي والدولي، هو : ما موقع الثقافة الاسلامية في خريطة الثقافة الكونية؟ وماذا يمكن لهذه الثقافة أن تقدم لأبناء الأمة، وهم يعيشون على وثيرة الرغبة في مواكبة العصر بكل مستجدا ته المادية والمعنوية من جهة، والخوف من النظام الذي يحكم هذا العصر من جهة أخرى، خاصة والذاكرة لازالت مثقلة بذكريات الاستعمار والاستيطان والاستغلال الذي تعرضت له الدول الإسلا مية، بهذا الشكل او ذاك، بل ولا تزال بعض الدول تعاني من ثورة المعلوميات وتحديات العولمة؟ وهل سنكتفي فقط بترديد شعار (المستقبل للإسلام) وأن الحضارة الغربية المصنوعة من الفكرة المادية ستزول في يوم من الأيام؟ أم أننا سنظل نحلم بالمستقبل دون أن نؤسس لقواعده الصلبة؛ سياسيا واقتصاديا وتربويا وتعلميا وثقافيا، بل وإيديولوجيا كذلك؟
إن السؤال الذي ينبغي التفكير فيه بكل مسؤولية وحزم هو ذاك المتعلق بالكيفية التي ستستفيد بها الثقافة الاسلامية من هذه الثورة العارمة للمعلوميات, كما من الثروة الطبيعية والبشرية لبناء مستقبل الأمة بالشكل المطلوب شرعا وتاريخا؛ ذلك أن سؤال الممانعة الثقافية لا نكتفي في تحديد حدوده برصد آليات المقاومة وتحصين الذات فقط، وإنما لا بد من تحديد الأولويات الضرورية لبناء ثقافة الإبداع والشراكة الحضارية؛ وهو ما يعني أن الزمن الحالي يحتم علينا أن نستغله للاشتغال بالقضايا الكبرى للأمة، قضايا الحرية والاستقلال والعدل والبناء الاقتصادي والاجتماعي التربوي؛ وهو ما يدعونا إلى إغلاق الكثير من الملفات التي لم تزد الطين إلا بلة بفعل الصراعات الهامشية بين الدول المشكلة لخريطة العالم الاسلامي، ومن ثم الإسراع إلى وقف مسلسل الانقسامات التي لم يستفد منها إلا الغرب الليبرالي، هذا الأخير الذي لا بد من تحديد الموقف منه بكل صراحة وصرامة، خاصة فيما يتعلق بملف التطبيع مع السياسة الجديدة للنظام العالمي الجديد.
إن الذي ينبغي أن نضعه في الحسبان أننا أمة لها أصول وجذور وتاريخ وهوية, وأننا ينبغي الانطلاق من هذه الأصول في تحديد الكثير من خياراتنا وقراراتنا السياسية والإيديولوجية لا من خلال أصول الدول الغربية.
فبداخل القران الكريم والسنة النبوية الشريفة العديد من التوجيهات والتنبيهات القيمة التي بتخلينا عنها تخلى الله عنا مصداقا لقوله جل جلاله {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون}( الحشر: 19)، وقوله جل جلاله كذلك {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق}(الممتحنة: 1) وقوله كذلك : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير}(البقرة:120).
في حاجتنا إلى وحدة مثقفينا واجتماعهم على كلمة سواء
لقد استطاعت السياسة الاستعمارية منذ زمن خروج جيوشها العسكرية والإدارية من البلدان العربية، إحداث إدارات محلية موالية لها ولسياساتها، خاوية الوفاض من القيم الدينية والعقدية، وبعيدة كل البعد عن الخطاب القرآني والشريعة الإسلامية، حتى يتم تغييب هذا الخطاب بداخل كل مشاريع التسيير السياسي والاقتصادي والتربوي والثقافي، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تطبيع العلاقات مع أعداء الأمة، الذين لا تزال الثقافة الصليبية تحركهم بشكل لا تغمض لهم معه الجفون، ولا يتعبون من تسخير كل الطاقات المادية والمعنوية للنيل من هذه الأمة وإخضاعها وإذلالها ولو بافراد من أبنائها. إنها مأساة الثقافة الإسلامية في زمن الاستتباع الحضاري الشامل، التي لن تخرج من حالها الراهن ما لم تراهن على المستقبل، بالتخطيط له وإعداد القنوات المفضية إليه, وإلا ظل وضع الأمة، شعوبا وثقافة، كما هو عليه إلى إشعار آخر.
لابد من التأكيد هنا على دور الثقافة والمثقفين في الحياة العامة للأمة، إذ هم ضميرها الحي، الحاملون لتطلعاتها، والمنشغلون بهمومها الداخلية والخارجية؛ وبذلك يقع عليهم عبء الدفاع عن واقع الأمة وخصوصيتها وهويتها، والوقوف في وجه كل ما من شأنه تقويض دعائمها الحضارية، بدءاً بتشخيص الأخطار التي لا تخفى على أحد من المتتبعين للشؤون العامة، والتي أدت إلى حالة من التدهور والتراجعات. وعليه تكون الخطوة الأولى في بناء هذه الثقافة البانية المتحدية للأخطار والاختراقات، العمل على توحيد صفوف المثقفين، بالاتفاق، على الأقل، على القواسم المشتركة التي بها تتصدى للمعوقات التي تحول دون قيام وتحقيق المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن من أهم ما ينبغي أن يعمل مثقفونا على تحقيقه، كمقدمة لإنجاح المشروع الحضاري، بناء الانسان المتكامل الذي يستطيع تحمل ثقل المشروع وصعوباته من أجل بناء (دولة الانسان) في نهاية المطاف، وإلا ستظل المشاريع النهضية مجرد ردود أفعال تطفو على السطح كلما تزعزع كيان الأمة من جراء التحولات التي تطرأ على المنظومة العالمية. إنه البناء، الذي يستطيع من خلاله الانسان التمييز بين الثقافة الاستهلاكية والثقافة الإبداعية، مهما كانت الحالة الحضارية لبلاده.
ضرورة فقه التنزيل في حياة المثقف الرسالي
وتجدر الإشارة هنا، ونحن نتحدث عن دور المثقف الإسلامي في صياغة الثقافة المقاومة للاختراق، والمبدعة لشروط العالمية، إلى أن من أهم الإشكالات التي ينبغي تصفية الحساب معها بشكل جذري، والتي تحول دون ممارسته للدور المنوط به, محليا وعالميا، أشكال النخبوية التي تتسبب في كثير من الأحيان في تزكية القطيعة بين المثقف والناس الذين يفترض في الأول أن يكون لسان حالهم. فلا بد للثقافة من الوصول إلى حياة الناس العاديين للتعبير عنها بالشكل الذي يحقق التواصل المطلوب بين القمةوالقاعدة على المستوى الثقافي، وإلا فإن الخطاب الثقافي سيواجه مشكلة إيجاد الكتلة الشعبية التي ستسانده في تحقيق حضوره على الساحة الثقافية السياسية والتربوية.
يضاف إلى ما سبق أن من أهم العناصر الغائبة في هذه الثقافة، عنصر التكامل ما بين (فقه الواقع) و(فقه التنزيل). فلا يكفي أن يحمل المثقف المسلم مشروعا حضاريا تغييريا يستقي محاوره الكبرى من الأصول القرآنية والحديثية فقط, بل يحتاج إلى منهجية تنزيله على واقع الناس كذلك, وهذا هو الأساس الذي ينبغي التفكير فيه بكل جدية ومسؤولية، وهو ما يتطلب من العاملين في حقل الثقافة الإسلامية التي تنشد التغيير, العمل على امتلاك (فقه الأولويات) و(فقه الموازنة)، وما يدخل تحتهما من أفقاه لا نستطيع الاستغناء عنها في كل مرحلة من مراحل الهدم والبناء الثقافي. ولهذا نقول : إن المطلوب من مثقفينا، في المرحلة الراهنة، عدم الاكتفاء بالتشبت بالأصول والاقتصار على الأصالة لحماية الذات من هول الفاجعة التي تحل بالثقافات والأمم المستضعفة بفعل العولمة ولكن لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن مواجهة هذه الأخيرة،واستشراف المستقبل، يقتضي منا التشبت بعصرنا كذلك، وعدم التفريط في وجودنا ، بالتماس كل ما من شأنه الإسهام في فتح عيوننا على منجزاته وتحدياته.
إننا في الختام, وإن كنا نؤكد على تجدد الوعي الاسلامي في المرحلة الراهنة، وهو ما يشهد له مد الصحوة الإسلامية المباركة، نعود لنؤكد مرة أخرى أن المطلوب من هذا الوعي أن يكون في مستوى التحديات بدخوله المعترك الحضاري، إبداعا وإنتاجا، وأن يعمل مثقفونا على إعادة توحيد الصف الثقافي، لأنه الكفيل بتعزيز دور الثقافة الإسلامية في عملية التغيير.