إذا مات الإنسان وخرجت روحه -تلك اللطيفة الخفية المجهولة- من قصر جسده العامر الشامخ المنيف، فلا يبقى له من حقيقة حياته وشخصيته غير جسمه المحض الخالص : ذلك العنصر الترابي اللصيق بلحمه وشحمه ودمه وعظامه وملحقاته الأخرى!
وهنا عندئذٍ يتوقف شريط الحياة فتتوقف حركة عمله وتصويره كما ينقطع التيار الكهربائي في الأسلاك، فإذا عاد التيار عاد التصوير والحركة ؛ ليواصل الإنسان مرّة أخرى سيره ومسيرته الحياتية الخالدة إلى ما لا نهاية لها، وإلى ما لا حدود لها.. وإلى ما شاء الله له أن يكون ويدوم أبداً بعد أبد، في نعيم الخلود مع الخالدين السعداء الفائزين المقربين، وفي سعادات البقاء للوجود الكامل الأكمل والجليل الأجلّ والجميل الأجمل قرباً وحباً ولقاءً وحواراً في سماوات القمم وسدرات الذرى في ملكوت آياته ومعجزاته.
ولا شك أن الجسد بطبيعته معرض إلى التحلل والتفسخ والاندثار فالعودة البطيئة الوئيدة إلى أصله ومكوناته. وذلك قانون من قوانين الله الثابتة الراسخة التي لا تتبدل ولا تتغّير.
ولكن إلى أين تذهب كنوز عقله، وخزائن خياله، وذخائر آماله وأحلامه، وشلالات مشاعره وعواطفه ووجداناته؟
أين تذهب كنوز محاسنه وأخلاقه ومزاياه وخصائصه؟
أين تذهب كنوز اعتقاداته وإيمانه وأفكاره وخواطره ومكنوناته وأسراره؟
أين تذهب أعماله ومنجزاته وآثاره وموروثاته الروحية والفكرية والسلوكية والواقعية والحقيقية؟
من يجمعها؟ من ينسقها؟ من يدخرها؟ من يحفظها؟ من يراها؟ من يأتمنها؟ بأمان وسلام ووديعة وأمانة إلى الحق وإلى قيام الخلق؟!
ولا شك كذلك أن مفتاح هذا السر بل هذا اللغز المحيّر المدوخ للعقول والألباب هو عند ظلال عقيدتنا الكاملة الشاملة في معرفة الله عزّ وجلّ الذي يعلن ذاته الأقدس بتسعة وتسعين إسماً من أسمائه الحسنى. فما من مشكل أو معضل أو عقدة أو سرّ إلاّ فللأسماء الإلهية الأسنى حّلاً وجواباً وبياناً!
ولا شك ثالثاً : أن الله جلّت قدرته ودقّت حكمته لا يضيع للإنسان -ذلك المخلوق المكّرم الذي أسجد له الملائكة أجمعين- مثقال ذرّة مما له من ذخائر ملكه، وخزائن بنكه، مما يعود للحساب بأصدق الكتاب وآمنه.. فإمّا للثواب، وإمّا للعقاب وإمّا لكليهما معاً، يوم العرض الأكبر.
ولا شك رابعاً : أن الإنسان إذا تأمل تأملاً ملياً إلى ما يصير إليه جسده قبل دفنه ومواراته تحت التراب في قبره ومثواه، ماذا يجري عليه من غسل وتنظيف وتكفين وتعطير وتجميل، وصلاة ودعاء وتشييع ودفن وتلقين إلى أن يوضع باحترام فائق وحرمة منقطعة النظير في صندوق البرزخ الأمين المضمون كالصكوك في البنوك.
هذا للجسد : ذلك الجانب الأهبط والعنصر الأدنى. فافهم وتصّور كيف تعامل وتستقبل الروح : وهو الجانب الأشرف والأكرم والعنصر الأعز والأفخر في الإنسان؟!
ولا شك خامساً : أن الدنيا، ليس حَبْلُها ملقىً على غاربها أو تدور أفلاكها وبروجها عبثاً وصدفة واعتباطاً وسدىً. كلا وحاشا لله!
فلو نظرنا إلى عظمة وروعة إتقان خلق الدنيا بما فيها وما عليها، ونظرنا إلى روعة وعظمة خلق الإنسان ذاته بالذات وما يستلزمه من نعم ومسخرات لتيسير أسباب حياته ومناشطه وتطويرها ؛ فكيف يذهب جهده سدىً؟ وكيف تذهب أعماله جزافاً؟
فإذا كان كل شيء وجد في غاية الإتقان، ومدهش المعجزات ؛ فما معنى أن تكون خاتمة الإنسان والدنيا والحياة فوضىً وعبثاً وضياعاً؟!
لا بل إن الذي أتقن أول كل شيء ؛ فإنه يتقن حتماً وعقلاً وحكمة وحقيقة ومنطقاً، آخر كل شيء كذلك.
فلننظر إذن ماذا يسعفنا به من أسماء الله الكريمة اللطيفة الآنفة الذكر في هذا الموضوع وفي هذا المجال؟
فلقد قررنا وآمنّا أن للأسماء الإلهية الحسنى جواباً لكل سؤال، وحلاً لكل إشكال في هذا الكون والحياة.. فهيمفتاح مفاتيح العلم والفهم للطلاسم والمعمَّيات والألغاز والمحّيرات عَالَمَ الخلق كله.
فنلاحظ ثمة حقيقتين واضحتين بارزتين أمامنا كمعالم من نور وضيء كشّاف، تدلنا وتعّرفنا ما نبحث عنه أو نجهله وهما :
{ولله ميراث السماوات والأرض }، {فالله خير حفظاً وهو أرحم الراحمين}.
فلِصِفَتَيْ “الميراثية” و “الَحِفيظِيَّةِ” علاقة وثيقة وطيدة بأن لا يضيع شئ ولا يُنسى شئ. بل يُحفظ ويُعتنى به.
نعم!
هكذا تقتضي الحكمة والعدالة والرحمة! فلينم قرير العين مرتاح البال في مهد لحده ؛ فكل شيئه محفوظ لدى ربه القويّ العزيز المقتدر!
إنه نعم المولى ونعم الوكيل.