قال تعالى : { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر، كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون، كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين، ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}(التكاثر).
قف أيها الإنسان واسأل نفسك : كم أغدق الله عليك أنت بالذات من النعم؟ وكم آتاك من الآلاء؟ هل تقدر على عد ذلك؟ أو هل تستطيع حصر ما هنالك؟ إنك بكل تأكيد غير قادر، بل لو أن أهل الدنيا كلهم اجتمعوا على مساعدتك ما استطاعت. إذ إن نعم الله أكبر من أن يعدها عاد، وأوسع من أن يحصيها ويحصرها الحساب، قال تعالى : {وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار}(إبراهيم). نعم لا تحصوها فهي ظاهرة وباطنة، مادية ومعنوية، فردية وجماعية، حاضرة وماضية… قال تعالى : {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}(لقمان : 20). إنه سبحانه آتاك من كل ما سألت، وآتاك من دون سؤال، وأسبغ عليك نعمه، وأغدق عليك آلاءه…فهل فكرت يوما في ذلك؟ هل فكرت في هذه النعم : الصحة والفراغ، وقد قال عليه السلام : >نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ<. وأخطر الغبن: نسيانهما وعدم التفكر فيهما، أي عدم شكرهما، والأمن والطعام. {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}. والإدراك بالجوارح والحواس : {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسئولا}. وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله : >يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول له : ألم أجعل لك سمعا وبصرا، ومالا وولدا…؟<( أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح).
ومن تلك النعم شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم، وطيب النفس، والعافية، والجاه، وتخفيف الشرائع،وتيسير القرآن : {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر} (القمر) وأعظمها الإسلام وإكمال الدين : {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة).
ثم انظر إلى ما أنعم الله عليك في هذا الزمان، وأمدك به مما لم يكن عند من سبقك من هواتف تربط الشرق بالغرب في لحظات، ومراكب تطوي المسافات، وشبكات معلومات…
في كل يوم نعم جديدة، وآلاء مضافة، يقذف الله بها عليك أنت، ويغمرك بها أنت، فهل فكرت أنك ستسأل عنها يوم القيامة؟ أعني هل أديت شكرها أم لا؟.
هذا نبي الله سليمان يدعو مولاه، ويسأله أن يوفقه للشكر ويعينه عليه، وقد رأى النعم تغمره : {قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين}(النمل : 19) ردد هذا الدعاء مع سليمان عليه السلام، واحذر الغفلة عن الشكر. ألست قد بلغت أشدك؟ وكمل عقلك، وتم رشدك؟ وقد قال الله تعالى : {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين}(الأحقاف : 15).
إنك ستسأل عن نعم هي في ظاهرها أقل مما ذكرت لك بكثير، ستسأل عن كسرة مــن خبز شعير، وعن جرعة من ماء، اقرأ معي هذه الأحاديث الثلاثة من جامع الترمذي :
- عن عبد الله بن الزبير عن العوام عن أبيه قال : لما نزلت{ لتسألن يومئذ عن النعيم} قال : “أما إنه سيكون” قال الترمذي حديث حسن.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} قال الناس يا رسول الله عن أي النعم نسأل؟ وإنما هما الأسودان، والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا، قال: (إن ذلك سيكون).
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة- يعني العبد من النعيم- أن يقال له : ألم نصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد؟). قال ابن العربي : حديث صحيح.
فما ظنك إذن بما وراء الأسودين من نعيم، وهو كثير يفوق الحصر، ويتجاوز العد.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال : (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟). قالا : الجوع، يا رسول الله، قال : >وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا<. فقاموا معه، فأتى رجالا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله (أين فلان؟) قالت ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله وصاحبيه، ثم قال : الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني، قال : فانطلق فجاءهم بعذق( أي عرجون) فيه بسر وتمر ورطب، فقال : “كلوا من هذه وأخذ المدية” فقال له رسول الله (إياك والحلوب) فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله لأبي بكر وعمر : >والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم<.
هذا وقد نقل القرطبي عن أبي نعيم الحافظ عن أبي عسيب مولى رسول الله قال : خرج رسول الله ليلا، فخرجت إليه ثم مر بأبي بكر فدعاه، فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه، فخرج إليه، فانطلق حتى دخل حائطا (بستانا) لبعض الأنصار فقال لصاحب الحائط : (أطعمنا بسرا) فجاء بعذق فوضعه فأكلوا، ثم دعا بماء فشرب، فقال : >لتسألن عن هذا يوم القيامة<.
فاتق الله في نفسك واحملها على شكر النعمة، حتى لا تندم حين لا ينفع الندم. وذكرها دائما أنها ستسأل عن النعيم { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}.