مجرد رأي – تيه وضياع…


… ما حصدت أمة من الأمم من الهزائم والنكسات مثل  ما حصدته أمتنا نحن العرب والمسلمين في العصر الحديث على الأقل. فكل نكسة تسلمنا إلى ما هي أفظع منها تهوي بنا في قاع سحيق سبعين خريفا، نُكبَّل في كل خريف بسلسلة ذرعها السماوات والأرض من التخلف والفقر والحرمان والهوان على الناس والغباء المستحكم. وكل عام يطلع علينا يجدنا أسوأ من العام الذي سبق. غيرنا ينمو ويكبر ويتوحد بينما نحن نضمر ونصغر ونتشرذم وننقسم على بعضنا البعض كالخلايا المريضة، في جسم عليل، ولا عجب فالتشرذم قد أصبح شيمة من شيم العروبة في زمن الذل والهوان.

نشكو من ظلم ذوي القربى، والظلم أصبح سلعة رائجة بيننا كشعوب، حتى لا يكاد يسلم منه أحد. ومن لا يظلم فلأنه لا يقدر وعلى رأي المثل:

الظلم تحت جناح كل أحد القوة  
  تُظهـــره والعـجـــز يُخفيه

رُفوف محاكمنا تشتكي من تكدس الدعاوي بين الإخوة والجيران، ومن ليست له دعوى في كبريات المحاكم فبطن الأرض أولى له من ظهرها…

يجرجر الأخ أخاه أو أباه أمام المحاكم السنين ذوات العدد من أجل ميراث أو عقار تافه استنفذ قيمته في أتعاب المحامين والرشاوى وإذا باغثته المنية قبل النطق بالحكم أوصى بنيه بمتابعة المشوار، وهكذا أحقاد تورث أحقاداً وخصومات تنجب خصومات فتفرخ ضغائن ومطبات، ومع الظلم هناك قدر غير يسير من الجهل والغباء يتمثل في استغلال طيبوبة أهل الخير والصلاح وهم كثر والحمد لله، وهو ما يؤدي مع مرور الأيام وتوالي المصائب إلى تجفيف منابع الخير والرحمة والبر في المجتمع… يأتيك رجل وقد لف رأسه في ضمادة قذرة ويحمل وصفة دواء، يطلب المساعدة فتبكي لحاله وتصحبه إلى أقرب صيدلية فتشتري له الدواء المطلوب وتنصرف قرير العين بواجب قد أديته، لكن الرجل المتمارض سرعان ما يعود إلى الصيدلية ليُعيد ما اشتريته له من دواء ليأخذ الثمن عوضا عنه. ثم يعيد اللعبة مرات ومرات عديدة حتى يكتشف الناس الطيبون من أمثالك تلك اللعبة القذرة فيمسكون جيوبهم ويفقدون الثقة تماما مع مرور الزمن.

فالكل في نظرهم، -وهم محقون- أصبح محتالا وكذابا حتى وإن كان مُحقا؛ وهكذا أوصِدَ باب للخير كان ينتفع منه ذوو الحاجات من الفقراء والمساكين…  تُقرض محتاجا جاءك يسعى ويحلف بمحرجات الأْيمان أنه سيعيد لك المبلغ بعد مدة محددة، وتنقضي المدة وغيرها معها ولا يأتيك صاحبك، وقد يمر الحول وتخرج زكاة ما أقرضته لصاحبك على مذهب الإمام مالك، ويمر الحول الثاني والثالث، فتستحيي أن تبحثعن صاحبك أو تطلب منه المبلغ ولكن تحلف أنت أيضا بمحرجات الأيْمان ألا تُقرض أحداً بعد اليوم، ونفس الأمر وقع لغيرك وغير غيرك؛ فتموت الثقة بين الناس وتقسو القلوب وينمحي التكافل الاجتماعي وكل واحد يقول نفسي.. نفسي يمشي متوجساً خائفا يترقب أن يستغفله أحد أو “يُنْضحك” عليه كما “أنضُحِكَ” عليه من قبل مرات عديدة، ولذلك فلا غرو أن يعيش كل واحد منا منزويا مع نفسه منطويا على ذاته كجزيرة منعزلة في بحر لُجي يغشاه التوجس والحذر من كل جانب، مكائد بعضها فوق بعض.

… مرة أخرى تُخزى الشيطان وتستأجر بيتا تستعين بثمنه على نوائب الدهر، فتجد نفسك فجأة تجوب ممرات المحاكم ومكاتب المحامين بعدما رفض من أجرت له البيت دفع ثمن الإيجار مع إصراره على البقاء في البيت، فتضطر بعدما يئست من المحاكم أن “تُرضي” صاحبك بملغ من المال لكي يخلي لك البيت. وتحمد الله على ذلك وتقسم مرة أخرى ألا تأجره لأي كان مفضلا أن تجعله مأوى للعناكب والحشرات والزواحف، وهكذا يفعل غيرك وغير غيرك وهم كثير، فتصبح لدينا أحياء بكاملها غير مسكونة والناس في أزمة سكنية خانقة، الكل يبحث عن الكراء ولا أحد يجرؤ على التفكير -مجرد تفكير- في استئجار بيته خوفاً من “التسخسيخ” أمام المحاكم والابتزاز المتعدد الأطراف، وهكذا تتفاقم أزمة السكن ومعها أزمة المعيشة وترتفع الأسعار وتكثر البطالة فتفرّخ آفات وأزمات اجتماعية وأخلاقية لا تزيد المجتمع إلا تفككا وتشرذما ولا تزيد الأفراد إلا حنقا وبؤساً وتمرداً على القيم والأخلاق والمبادئ السامية.

فنصبح في لحظة وجيزة كالأيتام حالنا لا يسر عدوا ولا صديقاً نترامى في الأحضان ذات اليمين وذات الشمال، باسطين أيدينا بالوصيد لكل ناعق علّه يُخرجنا مما نحن فيه وما هو بمخرجنا مما نحن فيه.

فنصبح كباسط يديه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، نتيه في صحراء قاحلة كلماظهر لنا سراب خلناه ماء حتى إذا جئناه لم نجده شيئا فوجدنا الله عنده.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>