ثم تستمر هذه النصائح لتربي الطفل على الوعي، والتفكير الصحيح، وتمييز الأشياء ليعرف الضار من المفيد،و استخدام العقل لاختيار الطريق الأصلح. فطاعة الوالدين، وبرهما، والإحسان لهما واجبة، وهي من نعم الله على الإنسان، ولكن هذه الطاعة وهذا البر والإحسان مرتبطان بطاعة الله ورضائه، فإذا تعارضت مع ذلك، لابد للناشئ أن يفكر في كل أمر يريده الأبوان، فإن كان مؤديا إلى الشرك ومعصية الله فلا طاعة لهما، مع الإبقاء على الصحبة الحسنة، والمعاملة الطيبة، وتقديم كل خير لها، واتباع كل سبيل يصلحهما ويذكرهما بالله سبحانه وتعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما…}.
وهذه من القيم التربوية، التي ينبغي تنشئة الطفل عليها، وهي تحديد القاعدة التي تميز له الخير من الشر، والنافع من الضار، وهذه القاعدة تتعلق بالإيمان بالخالق واحدا لا شريك له، واليقين بأنه المنعم العليم الحكيم، وإليه المصير، وعلى هذه القاعدة يقيس الطفل كل أموره، ويستخدم عقله ومحاكمته لكي لا يمشي على غير هدى، ولا يقبل الأمور إلا إذا كانت خيرا.
{واتبع سبيل من أناب إلي، ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}.
ومعنى الإيمان بالله، وعدم الشرك به، وتمثل قدرته ونعمه وجبروته لا يتحقق للطفل بسهولة، ولا يستطيع الناشئ أن يتمثله ليصبح قاعدة يأنس بها، ويطمئن لها، ويقيس الأمور عليها. ولذا لابد من الاستمرار في تعميق الإيمان، وربطه بالشواهد التي يعرفها الطفل، وربط كل الأمور بها بشكل يستوعبه، ويفهمه، ويتمثله.
وهذا ما توحي به الآية الكريمة {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير}.
انتقل الأب المربي الحكيم إلى شواهد حسية، وصورةمعروفة لدى الطفل لتوضيح معنى الإيمان، ومعنى قدرة الله، وعلمه وحكمته… فأتى بهذه الصورة الحسية الواقعية، وهذا المثل الذي ينفع في ترسيخ هذا المعنى في نفس الطفل، فقال له: إن الله يعلم كل شيء، ولو أن حبة من خردل على صغرها ورقتها كانت وسط صخرة صماء كبيرة، لا يستطيع أحد أن يزحزها، أو يعرف ما فيها، أو…، لو أن هذه الحبة ارتفعت إلى هذه السماء الواسعة التي لا يحدها بصرنا، ولا نعرف مدى بعدها عنا، أو وضعت داخل هذه الأرض الواسعة الشاسعة بجبالها وسهولها وبحارها ووديانها، وشجرها ونباتها وبشرها، فإن الله عز وجل يعلم مكانها، ويأت بها بطرفة عين أو بأسرع من ذلك.
هذا المثال الحسي، والتجسيم للفكرة المجردة بواقع محسوس يقرب للطفل الفكرة المطلوبة، ويعطيه تصورا واضحا ومحسوسا لما يعتقد، ولعل المربين يستخدمون هذا الأسلوب في تربيتهم، وفيما يقدمونه للأطفال من قصص، وكتابات، ومواعظ وإرشادات، عن طريق الوضوح، والتبسيط، وضرب الأمثلة وسوق الأدلة المناسبة.
وتستمر مواعظ لقمان لابنه، بهذا الأسلوب الأبي الشفوق، وهذه الطريقة التي تؤثر في الوجدان، وتثير الفكر والخيال، وتدعو الطفل للتفكير والتصديق والطمأنينة. وينتقل إلى ما يكمل شخصية الطفل، ويربي سلوكه، ويضبط أعماله، فيوجهه إلى الإحساس بالمسؤولية أولا، نحو ربه عز وجل ونحو أقاربه والناس أجمعين.
كما يوجهه إلى تحويل هذا التصديق والاقتناع، بفضل الله عز وجل وقدرته وعلمه وجبروته، وأن مصيرنا إليه، يحول ذلك إلى سلوك عملي، وخلق دائم، وتعامل صحيح مع الآخرين.
وإذا نظرنا إلى مفردات هذا الجانب من موعظة لقمان لابنه لرأينا أنها تشمل الأمور التالية: إقامة الصلاة، وذلك تأدية لحق الله عز وجل واعترافا به إلها خالقا عليما حكيما منعما، وإليه المصير… وهو السلوك الذي يوقظ إحساس الطفل واهتمامه لربط كل الأمور بربه سبحانه ويشحذ هذا الإحساس بعمل مستمر، يجعل الطفل في طمأنينة على رعاية الله وفضله، وعلمه وحكمته، ويجعله يقظا لكل ما يشاهده أو يعمله لأن ذلك يرسخ في أعماقه بأنه ليس هملا، ولا منفلتا، وإنما هو مرتبط بقدير عليم، بقوة تمسك الكون كله، وتعلم السر وأخفى والله أكبر من كل شيء، ولعل هذا ما تدل عليه الآية الكريمة: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر…}.
وكذلك تشمل الأمر بالمعروف، لأن الطفل -كما قلنا- بدأ يفكر ويزن الأشياء بميزان عادل دقيق، وهذا الميزان هو مرضاة الله الخالق عز وجل ولهذا ينبغي أن يأمر بالمعروف، وكل ما هو خير ويرضي الله عز وجل معروف، وكل ما يغضب الله ويخالف أمره فهو منكر، وهذا تتمة الأمر بالمعروف.
وتشمل – أيضا- الصبر على ما يصيبه، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يؤدي إلى ما يكرهه الإنسان، من محن وابتلاءات، من حرمان شيء، والتعرض لمكروه، من ضياع مكسب وحدوث خسارة في المال. وكل ذلك امتحان من الله.
والإنسان الذي يعرف الله عز وجل ويعرف نعمه وقدرته وحكمته لا يضعف أمام الصعاب، ولا يخاف مما يصيبه، بل يظل ثابتا صابرا محتسبا لأن ذلك من عزم الأمور، التي هي من صفات المؤمن بالله. {يا بني أقم الصلاة ة، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}. وكذلك تشمل الآيات التوصية بعدم التكبر والتيه على الناس، لأن قيمة الإنسان بما يعمل، ولأن جميع الناس من بني آدم، والفضل لا يكون بالمال والجاه والمنصب والعشيرة، بل الفضل بما يرضي الله، وهذه هي التقوى والعمل الصالح.
ولهذا فالتكبر والتيه، والتطاول على الآخرين، والتفاخر بالمال أو اللباس أو الزينة أو الجاه يخالف معنى العبودية الخاضعة لله، المطمئنة الراضية بقضائه، المتطلعة العاملة للحصول على مرضاته. وهو سلوك يتنافى مع صورة الإنسان المؤمن الصابر، الذي يعلم أنالبشر جميعا متساوون وأن الله لا يحب المختال ولا المفاخر، لأنه بذلك يتعالى على خلق الله ونعمه، ويستخدم ما أعطاه الله في غير ما ينبغي، ويؤذي الناس بما يعمله نحوهم. ويكفي أن يسمع الطفل الموقن بحكمة الله وقدرته وعلمه، المطمئن إلى عدله ورحمته، بأن الله لا يحب المختال الفخور، ليتواضع ويطمئن، ويتعامل مع الناس باحترام وتواضع.{ولا تُصَعِّرْ خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا، إن الله لا يحب كل مختال فخور}.
وكذلك تشمل هذه الآيات أنواعا أخرى من السلوك الاجتماعي الذي يؤدي إلى التنافر والتباغض والتحاسد والاختلاف. فكما أن التكبر والاختيال والتفاخر تؤدي إلى إشاعة البغضاء وإثارة العداوة والتحاسد، ثم التقاطع والاختلاف، فكذلك مشية التكبر فهي تؤدي إلى تفكيك المجتمع وتحاسد أبنائه ولذا يحذره منها، كما يحذره من رفع الصوت، والصراخ والغضب الذي يؤدي إلى ذلك، لأن الإنسان بهذا يتشبه بالحمار، بصوته المستنكر، وحيوانيته التي لا تميز بين الخير والشر.{واقصد في مشيك، واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}.
هذه الآيات، بما فيها من قيم تربوية واضحة، تحدد لنا أهم ما ينبغي أن نتوجه به إلى الطفل، في أمور الاعتقاد، والعبادة والسلوك، والربط بين ذلك كله. كما تحدد لنا أهم الأمور التي تضبط سلوك الإنسان، وتهذبه، وتؤدي به إلى الأخلاق الحسنة، كما تبين لنا بعض الأساليب التي ينبغي أن تسلك مع الطفل، للتأثير عليه، وإقناعه، وإيقاظ حواسه، وشحذ فكره لكي يوازن بين الأمور.
كما تبين لنا كيف نستطيع أن نجسد الفكرة المجردة، بصورة حسية واقعية تزيد من إقناع الطفل، وترسخ عنده هذه القيم، وتحولها إلى سلوك عملي.
وهذه نماذج من القيم التربوية في كتاب الله عز وجل التي ترشدنا إلى تحديد مسارنا التربوي، وأساليب التربية المناسبة.