قال لي صاحبي (وهو مدرس) يوما: لو أننا قمنا بإحصائية معينة على مردودية الأساتذة والتلاميذ في هذا الشهر.. (مستهزئا)..المبارك (يضحك).. لوجدنا أنها تقل وتتدنى مقارنة مع باقي الشهور الأخرى… ولو تقصينا نتائج التلاميذ في الامتحانات خلال هذه الفترة للاحظنا أن الفرق بين.. وهذا ليس في صالحهم… كذا في تصريحه..
يحاول بعض الناس اليوم، ممن لا يكنون الود والحب للإسلام أو يجهلون دوره وأسلوبه، الإشارة إلى حجم بعض الواجبات الدينية المفروضة على المسلم كالصلوات الخمس، ويبالغون في تصويرهم لحجم الممنوعات التي أثبتها التشريع وينكرون فروضا برمتها كالصيام لشهر كامل والامتناع عن شرب الخمر وأكل اللحم الحرام…إلخ.
وإثارة أمر النواهي والممنوعات يتم في الغالب بمعزل عن الإشارة إلى النظام والنسق التربوي والأخلاقي الإسلامي المتكامل.
وحتى في علم التربية الحديث لا يشكل المنع دوما عنصرا سلبيا في بناء شخصية الطفل وبالتالي الإنسان، فكما يؤكد بعض أنصار النظرية الأولى عن الحرية ومنها الحرية الدينية وصولا إلى التحرر من الواجبات الدينية، يؤكد أنصار النظرية الثانية على أن المنع جزء من الحياةحيث تنتهي حدود حرية فرد عند حد، أي يتوجب منعه من تجاوز حدوده.
فهل حقا، يرتب الإسلام أعباء كثيرة على المسلمين – كما صرح صاحب المقالة السابقة – أم أنه بنظامه التربوي والأخلاقي يخفف العبء ويربي النفس ويؤهلها لمواجهة الحياة؟ وهل فروض رمضان أعباء مضنية على النفس، أم جرعات تربوية لإحياء وتقوية الروح؟
شخصية الصوم متميزة بين العبادات، لا تشابهها أية عبادة أخرى…
فكل العبادات أفعال إيجابية يقوم بها المؤمن بموجب أمر إلهي، وتقتضي فعلا مجسدا ماديا.. فالصلاة تقتضي الوضوء والاتجاه إلى الصلاة وقوفا وركوعا وسجودا.. وكلها أفعال مادية مرئية وملموسة. والحج سفر وتحرك إلى بيت الله الحرام وأداء للشعائر في المشاعر المقدسة. والزكاة تحريك للمال ودفع لجزء معلوم من مال المسلم في الأوجه المخصصة والمحدودة.. وهكذا…
الصوم وحده يقف متميز الشخصية، غير ملموس وغير مرئي ولا يشكل فعلا إيجابيا يتوجب القيام به، بل هو سلسلة حركات سلبية، أي إمتناعات.. امتناع عن الطعام والشراب والرفث، إلى أن ينقضي الأجل المحدد فيزول المنع..
وهذا يدعو للتوقف عند قوة الامتناع مقارنة مع قوة الفعل، وهنا يلوح أن القدرة على الامتناع هي أقوى من القدرة على الفعل..
ففي العبادات عامة كتدريبات للروح والنفس والجسد، يبرز الامتناع “الرمضاني” كأقوى التدريبات، لأنه يكبح حاجات نفسية وجسدية جامحة وملحة.. وهذا هو سر الصيام، وصولا إلى الجوهر في فلسفة العبادة : كبح الهوى، الذي يعد أساسا للفساد الأرضي عملا بقوله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} (المؤمنون :72).
ومن المؤكد أن اتباع الهوى يؤدي إلى التردي : {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} (طه : 15). وكثير من مواقف الرفض وعدم الاستجابة للإسلام والرسول تنبع من سلطة الأهواء وتحكمها : {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} (القصص:51)..
وأسوء ما في اتباع الهوى أنه ينحرف بالإنسان عن الفطرة السوية ويحيد به عن جادة الخير، ولهذا جاء الأمر الإلهي للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه واضحا قويا حاسما: { فاستقم كما أمرت ولا تتبع أهــــواءهم} (الشورى :16).
واستنادا إلى ما تقدم تتحدد قوة ومفهوم الامتناع كمدرسة فكرية ونفسية للإرادة، وهذا ما يرفع الصوم إلى مكانته السابقة بين العادات لتجعل من الإنسان قوة منضبطة منظمة، على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي.
فمن السهل توجيه جيش أو فئة بأمر إلى قتال أو معركة، ولكن من الصعب وربما من المحال توقيفه بأمر، ومنع الاقتتال بعد الالتحام… ومن الممكن التقدم إلى موقع سياسي أو قيادي، والاستيلاء عليه، ولكن من الصعب، وربما من المستحيل التراجع عنه فيما بعد، إلا أن يسود خلق الإسلام الذي يضع الكوابح ويحكم حركة النفس ويلجم جموحها، وذلك عبر منظومة متكاملة من التدريبات الروحية والنفسية في مقدمتها دورة رمضان والصوم لتنمية القدرة على الامتناع ولجم الهوى…
قال تعالى: {أريت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلا} (الفرقان: 43)، ومغزى المخاطبة في هذه الآية بليغ الدلالة، ويفيدبأنه هل تقبل أن تكون وكيلا على من جعل إلهه هواه؟ وهذا يعني أنه فاقد الإرادة أولا، وفاقد القيم ثانيا.. ومع مثل هذا الشخص كيف يمكن التعامل لإدخاله حظيرة الإيمان؟.. لا شيء مثل الحلبة الرمضانية، تدريبا وترويضا وتمرينا إلى أن تكتمل الصحة النفسية عافية يسير ذلك في خط متواز مع الصحة الجسدية والعلاقة العلمية بينهما معروفة..
ومن معالم شخصية رمضان، الشفافية الروحية التي تطوف بالإنسان آناء الليل وأطراف النهار.. والتي يساعد على تجليها، تخلص الجسد من شواغله العادية وخلود الجملة العصبية إلى الراحة، مادام المعمل الكيمياوي الدقيق في البدن دخل في مرحلة توقف للصيانة والترميم…
أثناء ذلك تنفتح القنوات إلى الأعلى، وتمتد السيالة الفكرية والنفسية باتجاه السماوات السبع الطباق في توصيل رباني يحقق معنى العبادة الأصيل بمعنى الصلة الخالصة والتوجه الصافي نحو رب العزة جل وعلا..
وبذلك يعود رمضان حلبة سباق نحو الخير وميدانا لتهذيب جموح النفس نحو رغباتها، ليتم في نهاية الشهر تقديم الإنسان المسلم الجديد، الذي صهرته التجربة بمقومات الصبر والامتناع، وقد ازدادت شخصيته تماسكا بين أفكارها ومشاعرها وأعمال جوارحها، وانبعتت فيه روح التمرد على الهوى بأقوى قوة، لتعده لتقلد دوره الخلاق وجعله في مستوى الوظيفة المنوطة به على الأرض: (الخلافة)، وبلوغ درجة الشهادة على العالمين..
أما توهم البعض أن فروض رمضان أو غيره أعباء لا تمنح للإنسان متنفسا، فلا يجد مصداقية في أي من حضارات الإسلام أو بين رجالاته أو شعوبه المنتشرة على قارات الأرض. بل العكس صحيح، فالضيق والكآبة والانتحار والجريمة غير معروفة في كثير من أقطار الإسلام، وتنتشر في بلاد الغرب (المتقدمة)..فأيـن ذهب المتـوهـمون؟
إن التوهم بأن مردودية الدارسة بالنسبة للمدرسين والتلاميذ تتدنى في شهر الصيام وأن عطاءهم لا يكون بنفس مستوى ما قبل حلول رمضان، فهذا نقص في الإيمان وتضييق لمفهوم الصيام وحصره في دائرة الأكل والشرب..إن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، يقول: “رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ” (أحمد)..أي أن الذي يدخل الصيام بفكرة ترك الأكل والشرب فقط، ويجعل من صلاته صلاة عادة وسير وراء ما يفعل الناس.. فحظه وحصاده من وراء صيامه ذلك لا شيء سوى العناء وضياع الوقت والعمر.. وهذا يبين أن الصيام شُرع لأمر أسمى، وهدف أعلى من مجرد التوهم أنه ينقص المردودية أو يجعل الناس يكسلون عن أداء الواجبات..{كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (الكهف).