إعداد الأجيال لا يتحقق إلا بالتربية، والتربية عملية مستمرة تحمل روح الأمة وقيمها وأهدافها، وهي التي تحقق لها طموحاتها، وتوفر لها الخصائص والسبل والأدوات لصنع مستقبلها كما تريد. والتربية هي التي تصنع السياج الواقي للأفراد والمجتمع من سموم الأعداء ومكرهم، وهي التي تغرس في الأجيال الثقة والصدق والجد والطموح.. التربية.. التربية…
كل الأشياء يمكن استيرادها من الآخرين، إلا التربية، لأنها تمثل قيم الأمة وشخصيتها، وهي النسقالذي يجري في عروق كل فرد فيها. هي السمة والصنعة التي تتميز بها المجتمعات عن غيرها، وهي التي ترسخ العقيدة، وتحمي القيم، وتمثل الشرف والكرامة، وتعد- لكل هذا- أسس البقاء، وأجيال الغد الطموح.
نحن أغنياء بقيم التربية عندنا، وأغنياء بأهدافنا، وأغنياء بأساليبنا، ولكننا- حين فقدنا حريتنا وكرامتنا، وثقتنا بربنا- رحنا نتسول في أسواق الآخرين، ونأخذ من عطاياهم المتنوعة، دون أن نعرف طعومها أو سمومها، أو نتائجها، خدعتنا أضواؤهم، وعشيت أفهامنا وبصائرنا حين رأينا صلصلة قوتهم، وسالت أفئدتنا شهوة إلى ألوانهم وعُريهم، فجلبناعلى أنفسنا الضعف، وأدخلنا إلى أجسامنا الأمراض، وفقدنا كنوز الصدق والتكريم. والثقة و حب الخير.
لنتطلع إلى ما عندنا، لنعد إلى كنوزنا وتاريخنا، لنحفر في أرض أجدادنا، لنشحذ الهمم للتعبير عن ذواتنا وشخصيتنا لنسأل أنفسنا: كيف حصلنا على المجد، وأعطينا العالم فيضا من العدل والإحسان والعلم والمكتشفات، لنسمع إلى أصوات المعتدلين العادلين منهم، وهم يعترفون بأستاذيتنا في العلم والعدل والمعاملة الإنسانية، عندها فقط نستطيع أن نعرف طريقنا إلى التربية التي نريد، والأجيال التي نود تربيتها.
في كتاب الله عز وجل- وهو النبراس الأسمى لكل ما نتطلع إليه- كل ما نريد من أسس التربية، فيه المعالم التي تهدي الباحثين عن الحق، والمخلصين في بذل الجهد للوصول إلى القيم الحقيقية، والأساليب الصحيحة. وفي الآيات التالية شيء من هذا، فلنسمع نداء الرحمن، ولنتوقف عند هذه المعالم المضيئة التي ترشدنا إليها الآيات الكريمة:
قال الله عز وجل في سورة لقمان : {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد. } {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه، يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك، إلي المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي، ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. يابني إنها إن تك مثقال حبة من خرذل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير. يابني أقم الصلاة، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس، ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير.} (آيات 11 إلى 18)
كلما قرأت الآيات السابقة زاد يقيني بأن الله عز وجل- بين لنا سبيل التربية الصحيحة، وأننا نملك من ذلك الكثير الكثير، ولكننا غافلون.
وكلما أمعنت في قراءتها والتفكر فيها، اتضحت أمامي سبل ومعان كثيرة تثري حاجتنا إلى رسم المنهج الصحيح للتربية، وتحديد الأهداف والأسس لتربية تحقق لنا الخير، وتضمن لنا الصمود، وتشحذ هممنا وعقولنا للارتقاء والتقدم والنجاح.
أول ما يلفت الانتباه في هذه الآيات تلك العلاقة بين صاحب الموعظة وهو لقمان عليه السلام وابنه، فالأب الحكيم، وكل أب مسؤول عن ولده، وعليه أن يستغل ما لديه من الإمكانات، وما أعطاه الله من القدرات والنعم لإصلاح ولده، وتنشئته التنشئة الصالحة.
ولا يكفي ذلك، بل هناك مسؤولية كبيرة على الأب لتكون موعظته ذات أثر، وتربيته ناجحة، هذه المسؤولية تتجلى في القدوة الحسنة، إذ لا يمكن للابن، وهو ينظر لوالده نظرة القدوة، ويشعر نحوه بالمحبة والاحترام والمتابعة، لا يمكن له أن يصلح أمره، إن لم يجد صورة عملية للنصائح والمواعظ التي يسمعها من والده أو أمه، وهذا ما يتجلى في شخصية لقمان الأب الحكيم، الشاكر لله عز وجل- العارف حق الله عليه، وأثر الشكر والعرفان والطاعة لربه عز وجل- عليه، وعلى حياته وأبنائه، مع أن الله العلي القدير غني عن الناس، لا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم. {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد} وبهذا يعطي لقمان الحكيم صورة الأب المؤمن الشاكر، والقدوة الصادق أمام ابنه الصغير.
ومن مسؤولية الأب نحو ولده أن يعظه ويعلمه ويربيه، فكيف يصنع لقمان عليه السلام مع ابنه؟
يتوجه لقمان بأسلوب الأب العطوف الشفوق الرحيم بولده، المخلص الصادق في محبته، والحريص على نجاته وفلاحه، لذا يناديه: “يابني”، بكل ما يحمل هذا النداء من شحنة عاطفية، وأنس الأبوة الحكيمة العطوفة، وبكل ما توحي به كلمة بني، بهذه الصيغة المحببة.
وأول ما يعظه به، تذكيره بربه الخالق عز وجل الله الواحد الأحد، فيحذره من الشرك به، لأن الشرك ظلم لنفسه، وظلم لمجتمعه، وظلم لخالقه المنعم عليه.
وهو أمر يخص العقيدة التي ينبغي أن تكون الأساس والأهم في تربية الأبناء، وأن تُربط جميع الأمور والنشاطات والأخلاق والفوائد بها.
ثم يذكره بفضل الأبوين الرحيمين العطوفين، اللذين يمنحانه هذا الحب وهذه الرعاية، ويحيطانه بكل ما يسعده في دنياه وآخرته. ويخص الأم بهذا الفضل، الأم التي يعرف الابن حبها وعطفها، ويعرف معاناتها واهتمامها، وما تزال حلاوة الرضا ع والحنو تخفق في جوانحه منها، يذكره لقمان عليه السلام بالأم التي حملته، ضعفا وتعبا على ضعف وتعب، وصبرت وبذلت حتى غدا طفلا يتكلم ويمشي، ويأكل ويشرب ويلعب، بعد سنتين من عناء الحمل والولادة والرعاية. هذه الأم وهذا الأب يستحقان من الولد الشكر. ومن هذا الرباط العاطفي بين الولد وأبويه، يذكره لقمان بأن رحمة الوالدين ورعايتهما نعمة من نعم الله عليه، لذا يجب شكر الله المنعم، الذي سخر له الوالدين لرعايته وتنشئته والقيام بخدمته، والله عز وجل عليم حكيم، وإليه المصير، وبيده الحساب يوم القيامة، وهذا ربط لشكر النعمة بشكر المنعم، ومعرفة الله عن طريق الأبوين، وهو يعني أن الطفل يحتاج منذ البدء في رعايته وتنشئته إلى غرس العقيدة، عقيدة التوحيد، وربط هذه العقيدة بكل ما يعرفه ويحبه ويحسه، والطفل أول ما يشعر ويعي من الناس هما والداه، ومشاعره وأحاسيسه ترتبطان بهما ولا سيما بالأم، وعندهما يشعر بالحب، والعطف والعون والأمان، وبواسطتهما ينال ما يحتاجه لحياته من غذاء وكساء ورعاية. ولذا لا بد من تعميق هذا الشعور، وتحويله إلى ارتباط دائم، ارتباط الأرحام، ابتداء من الوالدين، لأنه المحضن الأمين، والمكان الأول في تربيته، وغرس كل ما يحتاجه من قيم وسلوك وعلاقات وارتباطات، وهي من مسؤولية الأسرة، وواجبها لأنها النواة الأساس لإقامة المجتمعات، ونشأة العلاقات، وتكوين القيم والسلوك الإنساني عند الطفل.
وهذه من القيم التربوية التي ينبغي أن تكون أساسا في بناء الشخصية، وتربية الطفل ليكون إنسانا متعاونا، جادا، مسؤولا، له هدف يعرفه، وهو يوقن بأن مصدر كل شيء هو الله الخالق، وأن ارتباطه بالحياة لا يثمر، ولا يكون صحيحا إلا إذا انطلق من دائرة الأسرة، وعلى رأسها الأبوان، وأن مشاعره وسلوكه، وتفكيره لا تستقيم إلا إذا وجدت الرعاية والحضانة الأسرية، بشكلها الصحيح، وإلا فالاضطراب والعقد النفسية، والانحرافات المختلفة، وانعدام الشعور برابطة الرحم، ثم رابطة الإنسانية ذاتها، لتحل محلها الأنانية، والمادية، والحرص على المصلحة الذاتية، كما هو مشاهد في عصرنا الحاضر.