التعليم الحر بين وطنية المنشأ واغترابية الواقع


لم يعد خافيا على أي متتبع للشأن المغربي الاهتمام الكبير الذي باتت تحظى به المسألة التعليمية بالمغرب، سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي. ولعل خطاب العرش الأخير خير دليل على مدى الأولوية التي يتمتع بها هذا الملف. حيث أضحى ذِكره يقترن بأشد القضايا حساسية وأكثرها مصيرية كقضية استكمال وحدتنا الترابية وقضية تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة تقلص من البطالة وتحارب السكن غير اللائق

ولئن كان الحديث دائما ينصب حول التعليم العمومي وسبل تأهيله لإخراج أجيال قادرة على تحمل أعباء التنمية وفرض الذات داخل عالم متحرك لا يعترف إلا بالأقوى، فإن اتساع رقعة التعليم الخاص سنة بعد أخرى بشكل لافت للنظر، أصبح يفرض علينا أن نقف وقفة تأمل كبيرة جداً، في مسارات هذا التعليم، ومناهجه الدراسية ومقرراته التعليمية، خصوصا في علاقتها بالهوية وروح المواطنة

أول ما يمكن إثارته في هذا الصدد، هو المفارقة الغريبة التي تواجه الباحث في نشأة هذا التعليم، والتي تعود إلى فترة الحماية الفرنسية، حيث كان ظهوره وليد غيرة على الهوية المغربية التي حاول المتسعمر النيل منها  آنذاك عبر تأسيس ما سمي بالمدارس العصرية قصد تخريج أجيال من المغاربة بلا هوية، وإن شئت فَقُل: “مغاربة مدجنين”، لهم قسمات وملامح مغربية، لكن عقولهم وأفئدتهم فرنسية غربية

فجاء تأسيس مدرسة سيدي بناني بفاس سنة 1919م كأول مدرسة حرة بالمغرب. تلتها فيما بعد جملة من المدارس، وضعت نصب أعينها الذَّبَّ عن الخصوصية الوطنية والإسلامية للمغاربة، كرد فعل طبيعي وتلقائي تجاه انتشار التعليم الأوربي الذي أخذ يستقطب أبناء النخبة من أبناء الحواضر، فشكلت بذلك بديلاً وطنيا للتعليم التقليدي الذي لم يكن يساير متطلبات العصر؛ بديلاً يحمي أبناء الوطن من انزلاقات الاغتراب الفكري والاستيلاب الحضاري

والسؤال المطروح الآن هو : أين التعليم الحر اليوم من هذه المقاصد النبيلة والروح الوطنية العالية؟ أين الخصوصية المغربية والقيم الدينية والحضارية داخل هذا التعليم؟ل

لاشك أن القارئ الكريم ليس في حاجة لكي نستعرض أمام عينيه نماذج من الاغتراب التام لهذه المدارس، وتحلُّلها الكامل من كل ما يمت إلى مغربيتنا وعروبتنا وإسلامنا بصلة، بل إن تقييم المستوى العلمي والتربوي لهذه المدارس أصبح يقاس بمدى “تفرنسها” أو “انجلزتها”، وبمعنى أدق وأشمل بمدى غربيّتها، ومدى تهميشها وتجاهلها للمواد الإسلامية

ومع تقدم العلوم والدراسات في مجال التربية، توصل العلماء إلى أن العملية التربوية لا تتم فقط عبر المقررات الدراسية والوسائل البيداغوجية فقط، بل هناك ما يسمى بالمنهج الخفي والذي يلعب دوراً كبيراً في تشكيل عقلية التلميذ وبناء شخصيته، ويقصد بهذا المنهج كل ما يؤثر في العملية التعليمية بشكل غير مباشر كشبكة العلاقات الاجتماعية داخل المؤسسة (الناظر بالمدرس، والمدرس بالتلميذ، والتلميذ بالإدارة..) وشكل القاعات ونوع البناء وغيرها مما يشكل البيئة والمحيط المرتبط بالدراسة

وهنا نضيف تأثير هذا المنهج الخفي إلى ما سلف الحديث عنه من تغريب المقررات لأنه في تقديري وكما أكد المختصون في هذا المجال، أشد وطئا وأعمق تأثيراً من المناهج والمقررات الدراسية

إن ما قلناه عن ابتعاد التعليم الخاص عن روح المواطنة وصون الهوية المغربية، لا ينبغي أن يفهم على أنه عداء تجاه هذا النوع من التعليم، أو موقف من التجديد في المناهج وا لوسائل التعليمية، أو دعوة إلى رفض الآخر -الغرب- والتقوقع على الذات، بل يجب أن يوضع في سياقه ويفهم في ضوء معطيات الواقع المغربي، هذا الواقع الذي بات يعرف العديد من الأزمات، مردها في تقديري المتواضع إلى ضعف الإحساس بالانتماء إلى هذا الوطن، وتراجع صوت الوطنية داخل أبناء هذا البلد الكريم المعطاء، ولعل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة في قوارب الموت، والبحث عن بلد مستضيف آخر، كيفما كانت الظروف ومهما بلغت الإهانة والامتهان، ثم ما شهدته الدار البيضاء في ماي الأخير، كلها أمور تصب في خانة واحدة، هي أن المغربي في حاجة إلى تجديد ا لوعي بالذات، والمصالحة مع الذات مع الهوية، مع الوطن

إن ما قلناه عن التعليم الخاص، هو غيرة على الهوية الفكرية والروح الوطنية للمغرب، هذا البلد الذي هو في أمس الحاجة ا ليوم، وأكثر من أي وقت مضى إلى طاقةكل أبنائه: أبنائه المؤمنين به كوطن، وكتاريخ، وكهوية، أبنائه الذين تجري في عروقهم دماء حُبِّه والحرص على مصالحه العليا، أبنائه التواقين لرؤيته في مصاف الدول الرائدة فكريا واقتصاديا وسياسيا

إننا لا نرفض التمكن التام والجيد من باقي اللغات الحية والعلوم التقنية والعملية بل على العكس نحبذه ونحض عليه، لأن تعدد اللغات أمر مهم، خاصة وأن كل العلوم اليوم هي باللغات الأجنبية ولا سبيل إلى إدراك تلك العلوم ما لم نُجِدْ تلك اللغات، لكن شتان بين أن نتعلم تلك اللغات بإحساس المواطن المغربي الذي يفكر في تسخيرها لتنمية وطنه وربطه بالعالم المتحضر، وبين أن نتلقاها مستلبين منبهرين، نتلقاها بإحساس الدونية الذي يولد الرغبة في التنصل من الأصل، وتمثل الآخر وتقليده والدوبان في كيانه

إننا لسنا نرفض تعليما حديثا وقويا ينتج أجيالاً من العلماء والتقنيين والأطر الكفأة في شتى المجالات، ولكن كل ما نرجوه ونشدد عليه هو أن يكون كل واحد من هؤلاء مغربيّاً، قلبا وقالبا، كلُّ نبضه وكل جهوده وعطاءاته تصُب في تنمية هذا البلد وتروم الرقي به إلى المكانة التي يستحقها فعلا، لا أن نخرج أطراً لا صلة لها بالوطن، ولا انتماء لها، وإنما ولاؤها وانتماؤها للبلد الذي يدفع أكثر ويوفر رخاءاً وترفا أكثر، إننا بحاجة إلى الأطر التي لا تخجل من مغربيتها أو تأنف من عروبتها أو تتحرج من إسلامها، إننا ننشد الأطر التي مهما اشتدت أو قست ظروف العمل أو العيش بالوطن يدفعا إيمانها بقضيتها وتجذُّر هويتها إلى الاستماتة في الدفاع عنه دون أن تكل أو تمل و كأن لسان حالها يردد:ل

بلادي وإن جارت علي عزيزة
  وقومي وإن بخلوا علي كرام

 

فهل ينتج تعليمنا عموما والخاص منه خصوصا هذه النوعية النوعية من الأطر؟؟! لكم واسع النظر..!!ل

عبد الكريم دريدب

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>