في حوار مع المفكر الإسلامي د. أحمد كمال أبو المجد: حتى لا نصبح غرباء عن العصر
أكد المفكر الإسلامي المعروف الدكتور أحمد كمال أبو المجد، أن العمل لتحقيق نهضة المسلمين فريضة دينية يجب أن يشارك فيه كل قادر عليه، حتى تستعيد الأمة الإسلامية، مكانتها الرائدة بين أمم الأرض، وتضمن لنفسها مكانا في العالم الجديد الذي يشهد تغيرات كبرى ومتلاحقة في شتى المجالات.
وحذر من أن العالم الإسلامي يعاني حاليا من ثلاث أزمات خطيرة يجب القضاء عليها، وهذه الأزمات هي: التخلف عن ركب التقدم العالمي، وتزايد الخلافات بين المسلمين، وتنامي حدة الصراع الفكري بين دعاة الجمود والتقليد، ودعاة الاجتهاد والتجديد فيما يشبه الحرب التي تستهلك طاقة الأمة، وتكاد تقعد بها عن الحركة وتعوق تقدمها نحو المستقبل.
وتساءل أحمد كمال أبو المجد: إلى متى يظل المسلمون يعتمدون على خصومهم في الغذاء والكساء والسلاح والدواء؟
وكما حذر من أن أغلب المسلمين في هذه الآونة، غارقون في طوفان كبير من “الكلام” يعوق انطلاقهم إلى”العمل” الذي هو إلى جوار “الإيمان” أساس التقدم والنهضة.
ودعا المسلمين إلى المشاركة في صياغة وتوجيه النظام العالمي الجديد حتى لا يفاجؤوا بأنم غرباء أو معزولون عن العالم.
وفي الحوار التالي نتعرف على المزيد من آرائه:
يشهد العالم منذ سنوات تغيرات كبرى متلاحقة في شتى ميادين الحياة، الأمر ا لذي وصفه بعضهم بأنه يقود إلى عالم جديد، يبحث الجميع فيه عن المكان والمكانة حتى لا ينعزلوا عن مسيرة البشرية.. فكيف ترى واقع المسلمين من تلك التغيرات؟ وهل تعتقد أنهم استعدوا لمواجهتها والتفاعل معها؟
- لقد شهد العالم خلال السنوات الأخيرة سلسلة متصلة من التغيرات الكبرى في ميادين العلم والصناعة، وفي موازين القوى السياسية والاقتصادية بين شعوب العالم، وكان من ثمرات ذلك أن تساءل الأفراد، كما تساءلت الشعوب عن مكانها المنتظر، وعن مكانتها المرجوة على خريطة عالم يبدو جديدا في الكثير من معالمه، كما يبدو جديدا في الأنساق والقواعد التي تحكم حركة الناس فيه.
ولم يكن المسلمون مستثنين من هذا الذي يجري، فتعالت الصيحات، وانتشرت التساؤلات، عن طبيعة العلاقات الجديدة التي ينتظر أن تربط المسلمين بسائر الناس في هذا العصر الجديد.
كما عكف الباحثون من العلماء وأولي الأمر من الحكام على دراسة الشروط اللازمة لدخول المسلمين في هذا العصر الجديد.
وكذلك لإحداث تغيير نوعي في أوضاع المسلمين يضمن لهم مكانة لائقة بين شعوب الدنيا، ويحفظ عليهم هويتهم الثقافية والحضارية، كما يوفر الحماية لمصالحهم الاقتصادية والسياسية.
ولما كان الأمر في هذا أمر مستقبل ومصير، فإن إحكام منهج البحث فيه يغدو ضرورة لا يجوز التفريط فيها، أو الترخص في شأنها، لأن هذا الترخص يوقع – لا محالة – في أخطاء فادحة تدفع الأجيال المقبلة ثمنها الباهض، وتتحمل نتائجها وعواقبها الوخيمة.
إن الأمر لم يعد يحتمل منهج المكابرة في وجه الحقائق، أو الإسراف في الاعتذار عن الثغرات والنقائص، أو التقصير في رصد عناصر الواقع القائم عندنا وعند غيرنا، أو الاكتفاء بالحديث عن أمجاد قديمة غابرة، والاشتغال بذلك الحديث عن معالجة حاضر يوشك أن يفضي بنا إلى مستقبل مقبل لا محالة.
توجيه مسيرة البشرية:
فهمت من كلامكم أن الأمة الإسلامية لا تزال في حاجة إلى تهيئة واقعها ودعمه بما يحقق مشاركتها في توجيه مسيرة البشرية نحو العالم الجديد حتى لا تنعزل عن ذلك العالم إن هي لم تشارك في تكوينه وتوجيهه..أليس كذلك؟ فما هي أهم ملامح هذه التهيئة المطلوبة؟
- لاشك في أن المنهج الوحيد الصحيح في معالجة هذا الأمر هو منهج رصد عناصر الواقع في دقة واستقصاء، وفي موضوعية وشجاعة، واستخدام هذا الرصد بعد ذلك في تغيير واقع الأمة التغيير اللازم لتحقيق نهضتها وزيادة قدرتها على مشاركة سائر الأمم والشعوب في مسيرتها، نحو هذا العصر الجديد الذي تتغير كل يوم معالمه، وهي مسيرة تتسابق فيها الأمم بالقدرة، وسرعة الحركة، وقوة الفعل، ولا يجدي فيها مطلقا أي حديث عن ماض مجيد، أو وعد إلهي بالنصر، فإننا نعلم جميعا أنه وعد مشروط باتباع السنن والأسباب، وربط الكلمة الطيبة بالفعل المؤثر.. قال تعالى:.{يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} “الصف: 2-3″.
إن تناولنا واقع المسلمين في مواجهة تغيرات العصر، يقتضينا أن نضع أيدينا في وضوح تام على جوهر التغيرات الحادة التي تحدث، والتي من شأنها أن تجعل من المستقبل القريب عالما جديدا يحتاج إلى الناس جميعا – ونحن المسلمين منهم – إلى أن يتوافقوا معه، ومع عناصره الجديدة.
كما ينبغي أن نرصد واقع المسلمين بخيره وشره، ما نحب منه، وما نكره، لنصل من ذلك كله إلى توجيه مسيرتنا نحو تغيير واقعنا، استيفاء لشروط النهضة، واستشرافا لمستقبل أكثر إشراقا، تستطيع فيه الأمة أن تؤدي دورها الحضاري الذي بعثها الله سبحانه لأدائه، وهو دور ترشيد حركة الناس والشعوب بقيم الحق والخير والعدل التي أوحى بها الله سبحانه وتعالى إلى رسله، والتي توجتها الرسالة الخاتمة التي جاء بها نبينا محمد .
أخطار تهدد الجميع:
في رأيكم.. ما هي أهم المتغيرات العصرية التي ينبغي أن تستلفت انتباه المسلمين وجهودهم في إطار عملهم لتهيئة “واقع الأمة” للمشاركة في صياغة وتوجيه النظام العالمي الجديد؟
- العصر الذي نتحدث عنه يحمل سمات للباحثين، أولاها أن الثورات العلمية والصناعية، قد تعاقبت وتسارعت خطاها، وصار التغيير المترتب عليها يتم بمتوالية هندسية، لأن كل اكتشاف علمي يحمل في ثناياه جنين اكتشافات جديدة تتولد منه.
وقد وقعت هذه الثورات العلمية في ميادين عديدة، لعل أخطرها ما وقع في مجالات المواصلات والاتصالات، وكان من شأن هذه الثورات سقوط حواجز المكان والزمان، فتهاوت الأسرار الفاصلة بين الناس جميعا، وتحرك الناس بأجسامهم وحواسهم وعقولهم ومعارفهم، من أدنى الأرض إلى أقصاها، وصاروا يستقبلون كل يوم آلاف الإشارات المقبلة من كل فج عميق، وصارت الدنيا- كما يقال بحق – أشبه بقرية واحدة، وإن ظن أهلها غير ذلك.
وشهدت السنوات الأخيرة ظواهر مهمة… منها: انهيار النظام الدولي، الذي ظل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قائما على الثنائية القطبية، وفوجئت الدنيا ذات صباح باختفاء أحد القطبين، كما لو كانت قدماه قد ساختا فجأة في رمال ناعمة ابتلعته في لحظات، وتهاوت باختفائه نظريات ومقررات وفلسفة، دون أن يكون ذلك وحده دليلا على صلاح القطب الباقي، وما يمثله من قيم ورؤى وفلسفات، ولا تزال الدنيا حائرة تنتظر قيام نظام دولي جديد، لا يستطيع أن يزعم أحد أن معالمه قد تحددت، أو أن القواعد الضابطة للعلاقات في ظله قد تم إقرارها والاتفاق عليها.
ويضاف إلى ذلك ظهور إحساس متزايد من الجميع بوجود أخطار عالمية تشترك في التعرض لها جميع الشعوب على اختلاف جذورها الثقافية، وأصولها الحضارية. في مقدمتها أخطار تلوث البيئة، ونفاد الموارد الطبيعية، وظهور أمراض وأوبئة تخطت حدود الدول وانتشرت في الأرض، وأوشكت أن تهلك الشعوب.. كما تفاقمت وازدادت أخطار العنف الفردي والجماعي وأهوال الإرهاب.
وازداد الإحساس بالحاجة الملحة إلى جهود مشتركة تتخطى حدود الثقافات والمصالح القطرية، لمواجهة تلك الأخطار الجديدة الطارئة.
مظاهر سلبية مرفوضة:
هناك من يرى أن الواقع المعاصر لأمتنا الإسلامية، يشتمل على مظاهر سلبية ينبغي التخلص منها حتى تنجح عملية المشاركة الإسلامية في صياغة وتوجيه النظام العالمي الجديد، ويؤكد هؤلاء أنه دون القضاء على تلك السلبيات تبقى أمتنا عاجزة تماما عن اللحاق بمتغيرات العصر، علاوة على التفاعل معها.. فكيف ترون ذلك؟
- ينبغي أن نواجه أنفسنا بصراحة، وأن نتعامل مع واقعنا بصراحة، وأن نتعامل مع واقعنا بمصداقية، فما أحوجنا إلى التخلص من مختلف السلبيات التي تعوق مسيرة انطلاق المسلمين لمواكبة التغيرات العالمية المتسارعة.
ومن الصراحة والمصداقية أن ندرك أن المسلمين اليوم يواجهون أزمات ثلاثا…هي:
أولا : في مجال التقدم العلمي والاقتصادي، أمتنا مسبوقة، لم تسهم خلال السنوات المائة الأخيرة، إسهاما مذكورا في النهضة العلمية التي تسارعت خطاها في الغرب، وأثمرت ثورات علمية وصناعية ظللنا نقنع بالتحدث عنها، والتفرج عليها دون أن يكون لنا فيها دور مذكور.
ولا تزال أمتنا أمة مستوردة، وأمة مستهلكة.. لا هي منتجة، ولا هي مصدرة… وما زلنا نعتمد في غذائنا وكسائنا ودوائنا وسلاحنا، على ما تنتجه وتبيعه لنا أمم أخرى، تتحكم بذلك كله في مستقبلنا ومصيرنا.
ثانيا: إن المسلمين – وأرجو ألا تغضب صراحتي أحدا – أمة منقسمة على نفسها، لا تكاد تجمع أمرها على شيء، ولا تزال “الوحدة” مطلبا يتحدث عنه الكتاب والساسة، ويكذبه الواقع المعاش، ويزداد كل يوم تنكرا، وابتعادا عنه.
-ثالثا: إن المسلمين – في الأغلب – يعانون حيرة ثقافية هائلة، وتتوزعهم تيارات الجمود والرتابة، والوقوف عند ظواهر النصوص وتقليد الأقدمين، وتيارات التجديد، ومحاولة التواصل مع العصر عن طريق تجديد الفكر، ومتابعة الاجتهاد في الفقه، واتساع العقول والصدور للإفادة من تجارب الآخرين.
ولا تزال الساحة الثقافية مشغولة، بما يشبه الحرب الأهلية بين دعاة الجمود والتقليد، ودعاة الاجتهاد والتجديد. وهي حرب تستهلك طاقة الأمة، وتكاد تقعد بها عن الحركة، وتحول بينها وبين التوجه للمستقبل، ومواجهة تحدياته القادمة التي توشك أن تدق على جميع الأبواب.
والمسلمون- لذلك كله – يواجهون غربة عن العالم الذي أخذ يسيء الظن بهم، ولا يريد أن يفسح لهم مكانا بين شعوبه، والذي توجه تيار عريض من مفكريه وساسته إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين في حملة مشبوهة البواعث تحتاج مواجهتها إلى جهد جهيد.
شروط نهضة المسلمين:
حديثكم عما تعانيه الأمة الإسلامية حاليا من أزمات تعوق انطلاق مسيرتها يضعنا أمام تساؤل مهم… : هو كيف السبيل إذن لتحقيق نهضة الأمة، ومواجهة المتغيرات الكبرى، التي يشهدها عالم اليوم، حتى لا ينعزل المسلمون عن ركب التقدم والحضارة في هذا العالم الذي لا مكان فيه للضعفاء والمتخلفين والمفككين؟
- ينبغي أن نعي جيدا أن لله سبحانه وتعالى في خلقه سننا لا تتبدل، وقوانين لا يعفى أحد منها، وأن نعي أيضا أن النهضة ليست أمنية يتمناها الناس فيجابوا إليها، وإنما النهضة لها شروطها التي لا تتخلف.. من أخذ بها وصل، ومن تخلى عنها لم يصل.
وشروط نهضة المسلمين اليوم أربعة… هي:
أولا: إعلاء شأن العقل من جديد في ثقافة المسلمين في حياتهم كلها، فلقد غيب بعضهم العقل عن ثقافتنا وعن حياتنا اليومية، وانتشر بيننا نوع من الغيبية التي لا أصل لها في ديننا الحنيف، وتصور كثير من الناس أن النقل يغني عن العقل وأن النصوص وحدها قادرة على تحقيق النهضة، وإنجاز التغيير، وذلك وهم لابد من محاربته حتى تعاود الأمة انطلاقها على طريق النهضة.
لقد أدركت شعوب الدنيا من حولنا أن العلم قد صار معيار التقدم، وأساس تصنيف الشعوب إلى قوية وضعيفة، وإلى متقدمة ومتخلفة، كما أنه صار أكثر قيمة وفاعلية من الموارد الأولية والمواد الخام ومن الأسلحة المدمرة التي تكسب بها الحروب.
ومن هنا فإن تطوير أنظمتنا التعليمية والإعلامية والثقافية على النحو الذي يعيد إلى العقل سلطانه، هو الشرط الأول من شروط تحقيق النهضة.
وسوف تظل تلك النهضة مطلبا بعيد المنال إذا ظلت العقول معطلة، والعلم غائبا، والقدرة على ممارسة النقد سنة متروكة وملكة ضائعة.
ثانيا: لابد أن تتخلى الأمة عن الكلام الكثير، وعن مجرد القول الذي أغرقها في طوفان لا رجاء فيه، وأن تتوجه إلى العمل الذي كان شعارا لحضارتنا التي يقول قرآنها: .{وقل اعملوا}، والتي يقول واقعها – مع الأسف – إن العمل قد تراجع تراجعا هائلا في كمه، ونوعه، وفي إتقان أدائه.
ومن شروط هذا العمل حسن الأداء، والإحسان والإتقان، إذ لا يثبت في ساحة المنافسة عمل غير مجود، ولا أداء غير متقن، والله تعالى كتب الإحسان على كل شيء.
ثالثا: إطلاق النفوس من أسرها، وتحرير الملكات من قيودها، وتوفير الحرية للإنسان المسلم في كل حياته.
رابعا: تحريك الهمة، وعقد النية، ورب همة أحيت أمة، وهذه الهمة هي التي تنقل الأمة من السكون إلى الحركة، ومن الانكفاء على الماضي، إلى التوجه إلى المستقبل، وهي التي تنقل الجيل كله من الحيرة والإحباط إلى الأمل واتساع الرجاء.
إن رحى السباق دائرة، والزمن يتحرك في سرعة هائلة، ونحن لا نملك إبطاء الخطى أو التردد في ضرورة العمل للحاق بركب التقدم، كما لا نملك أبدا أن ننعزل عن الدنيا أو أن نعتزل القافلة.
وإذا كان المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، فإن سبيل القوة اليوم هو الإيجابية والإقدام، لا السلبية والانسحاب.. ولا موضع بعد هذا لمتردد، ولا مكان لعاجز، ولا عذر لمتخلف.