تزويج الأب ابنته بغير رضاها


يقال بأن الشافعية يبيحون للأب تزويج ابنته البكر البالغة بدون رضاها، إذا كان هذا صحيحا فهل يتفق مع المنهج الإسلامي العام في اشتراط موافقة الفتاة المسبقة؟ وهل يشترط الولي دائما في عقد الزواج؟

من الواجب إزاء هذا السؤال المهم أن نقرر عدة حقائق :

أولا : هنا قاعدة أساسية لايختلف فيها اثنان وهي أن كل مجتهد يصيب ويخطئ، وأن كل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم ، والإمام الشافعي إمام عظيم من أئمة المسلمين، ولكنه بشر غير معصوم، وقد قال هو عن نفسه : “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، كما روي عنه قـــوله : ” إذا صح الحديث فهو مذهبي”… وفي رواية : “فاضربوا بقولي الحائط”.

ثانيا : من الإنصاف للمجتهدين أن نضع آراءهم في إطارها التاريخي، فإن المجتهد ابن بيئته وزمنه، ولايمكن إغفال العنصر الذاتي للمجتهد، وقد عاش الإمام الشافعي في عصر قلما كانت تعرف الفتاة عمن يتقدم لخطبتها شيئا إلا ما يعرفه أهلها عنه، لهذأ أعطى والدها خاصة حق تزويجها ولو بغير استئذانها، لكمال شفقته عليها وافتراض نضجه وحسن رأيه في اختياره الكفء المناسب لها، وانتفاء التهمة في حقه بالنسبة لها.

ومن يدري لعل الشافعي ] لو عاش إلى زماننا ورأى ما وصلت إليه الفتاة من ثقافة وعلم، وأنها أصبحت قادرة على التمييز بين الرجال الذين يتقدمون إليها، وأنها إذا زوجت بغير رضاها ستستحيل حياتها الزوجية إلى جحيم عليها وعلى زوجها، لعله لو رأى  ذلك لغير رأيه كما غيره في أمور كثيرة، فمن المعلوم أنه كان له مذهبان، أحدهما : قديم قبل أن يرحل إلى مصر، والثاني : جديد بعد أن انتقل إلى مصر واستقر فيها ورأى فيها ما لم يكن قد رأى ، وسمع فيها ما لم يكن قد سمع، وأصبح من المعروف في كتب الشافعية : قال الشافعي في  القديم، وقال الشافعي في الجديد.

ثالثا : أن الشافعية شرطوا لتزويج الاب ابنته البكـــــر بغير إذنها شروطا منها  :

- ألا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة، كطلاق أمها، أو نحو ذلك.

- أن يزوجها من كفء.

- أن يزوجها بمهر مثلها.

-  ألا يكون الزوج معسرا بالمهر.

-  ألا يزوجها بمن تتضرر بمعاشرته كأعمى  وشيخ وهرم.. إلخ.

- وفي هذه الشروط تخفيف لبعض آثار الإجبار، ولكنها لاتحل المشكلة من جذورها.

بعد هذا نقول : قد صح عن النبي  جملة أحاديث توجب استثمار الفتاة أو استئذانها عند زواجها فلا تزوج بغير رضاها، ولو كان الذي يزوجها أباها، منها ما في الصحيح : “لاتنكح البكر حتى  تستأذن: قالوا :كيف إذنها؟ قال : “أن تسكت”، “البكر تستأذن في نفسها، وإذنها صمتها”، “الثيب أحق بنفسها، والبكر يستأذنها أبوها”.

وفي السنن في حديث ابن عباس : أن جارية بكرا أتت النبي  فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي .

وعن عائشة : أن فتاة دخلت عليها، فقالت : إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة. قلت : اجلسي حتى يأتي رسول الله، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه ، فجعل الأمر إليها، فقالت : يارسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم الناس أن ليس للآباء منالأمر شيئ.

والظاهر من حالة هذه المرأة أنها بكر، كما  قال صاحب “سبل السلام” ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس. وقد زوجها أبوها كفئا – ابن أخيه- وإن كانت ثيبا، فقد صرحت أن ليس مرادها إلا إعلام النساء أن ليس للآباء من الأمر شيئ ولفظ “االنساء” عام للبكر والثيب. وقد قالت هذا عنده  فأقرها عليه.

وكأن هذه الفتاة الراشدة البصيرة أرادت أن توعي بنات جنسها بما جعل لهن الشارع من الحق في أنفسهن، حتى لايتسلط عليهن بعض الآباء أو من دونهم من الأولياء فيزوجوهن بغير رضاهن لمن يكرهنه ويسخطنه.

وقا الامام الشوكاني في ” نيل الأوطار” : ظاهرة الأحاديث أن البكر البالغة إذا تزوجت بغير إذنها لم يصح العقد، وإليه ذهب الأوزاعي والثوري والعترة والحنفية، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم.

وقبل الشوكاني قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه : إن استئذان البكر البالغ واجب على الأب وغيره وإنه لايجوز إجبارها على النكاح وإن هذا هو الصواب، وهو رواية عن أحمد واختيار بعض أصحابه، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره.ز وقال : إن جعل البكارة موجبة للحجر مخالف لأصول الإسلام، وتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لاتأثير له في الشرع.

وقال الامام ابن القيم في “زاد المعاد” بعد ذكر ما حكم به النبي  من وجوب استئذان البكر : وموجب هذا الحكم : ألا تجبر البكر البالغ على النكاح، ولاتزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين لله به، ولانعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله وأمره ونهيه، وقواعد شريعته ومصالح أمته.. وأفاض في بيان ذلك ].

وهذا أيضا ما أدين لله به، ولا أعتقد سواه، وإن قال من قال بخلاف ذلك.

وأما تزويج المرأة نفسها بغير إذن وليها، فهو جائز عند أبي حنيفة وأصحابه إذا تزوجت كفئا، حيث لم يصح عندهم حديث في اشتراط الولي، وهذاايضا عند الظاهرية في شأن الثيب، عملا  بقوله : “والثيب أحق بنفسها من وليها”.

ورأي الجمهور أن الولي شرط للزواج أخذا بحديث : ” لانكاح إلا بولي” وغيره من الأحاديث، والحكمة في هذا أن يتم الزواج بتراضي الأطراف المعنية كلها، وحتى لاتكون المرأة إذا تزوجت بغير إذن أهلها تحت رحمة الزوج وتسلطه حيث لم يكن لأهلها رأي في زواجها.

وعلى كل حال إذا قضى  قاض  بصحة هذا الزواج فهو صحيح ولا يملك أحد نقضه كما قال ابن قدامة في “المغني”.

من كتاب لقاءات.. ومحاورات : حول قضايا الإسلام المعاصر

د. الشيخ يوسف القرضاوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>