الموت من الحقائق الكبرى التي لا يختلف في عظم خطرها، وجسيم مصابها اثنان. فلقد خلق الله الموت والحياة ليبلو العباد أيهم يجتهد في إحسان العمل كما في قوله تعالى : {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} وابتلاهم بالخيروالشر اختبارا وامتحانا لهم في الدنيا، وإذا تم الموت {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى {كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}(الأنبياء) {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} والموت في حقيقته زلزال عنيف يهز كيان الانسان، ويقوض بنيان العمران، وهو أمر يتكرر بتكرر أزمنة الليل والنهار، ففي كل لحظة تفارق أرواح كثيرة أبدانها، ومع كل نفس يغادر أناس كثيرون هذا العالم، وينتقلون إلى عالم البقاء، وفي كل جزء من أجزاء الليل والنهار، نودع غادين إلى القبور أو رائحين، إلا أن الموت يختلف من شخص لآخر، فمن الناس من تكون مصيبة موته عامة، وألم فراقه عظيما، ويترك ثغرة لا يكاد يُقدر على سدها، ويخلف فراغا يصعب ملؤه، ومنهم من لا يؤبه لموته، ولا يشعر الزمان ولا المكان برحيله، ولا يتأثر بفراقه قريب أو بعيد، ولا تبكي عليه سماء ولا أرض {فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين}(الدخان). بل تفرح الأكوان بموته، ويطرب الثقلان لنهايته، إذ الأموات أحد رجلين : مستريح او مستراح منه.
وإن ممن عظمت المصيبة بموته هذه الأيام، وجل الخطر برحيله : أبونا سيدي محمد العربي بن عبد الرحمن بن محمد العربي بن البشير العمراوي السجلماسي البوعصامي ولادة ومنشأ، السليماني مهاجرا ووفاة،.
لقد انتقل إلى دار البقاء صبيحة يوم الأربعاء 17 ربيع الثاني 1424ه. الموافق ل 18 يونيو 2003 بتاريخ النصارى على الساعة السادسة والنصف صباحا.
فارق رحمه الله الحياة مبتسما، بعدماعانى من مرض خطير ألم به فألزمه الفراش حوالي الشهرين، فاضت روحه الطاهرة إلى الله بعدما قضى حياته في أمرين عظيمين :
أولهما : العمل بجد واجتهاد في إعالة أهله، ونفقة عياله، متخذا لذلك وسيلتين، إحداهما : الشرط في البوادي المغربية، متنقلا بين جبال الأطلس، ومضارب الأعراب على حدود المغرب الشرقية، ثانيتهما : العمل في الزراعة بأرض أجداده بواحات سجلماسة التي كانت مزدهرة بالنخيل، عامرة بذلك، حتى كان التمر قوت أهلها الأساسي.
ثانيا قراءة القرءان وإقراؤه، وتعلمه وتعليمه، وقد كان جدُّه في ذلك واجتهاده، مضرب الأمثال في كل مكان حل به أو منه ارتحل، فكان ثمرة ذلك الجهد، حفظ أبنائه الستة للكتاب العزيز، وكذا ثلاثة من أحفاده والبقية سائر على الدرب إن شاء الله، وغيرهم كثير لايمكن معرفتهم ولا حصرهم لكونه لم يكن متفرغا للتدريس، وإنما كان يزرع في كل مكان زرعا ينبته الله بعد حين.
لقد بكته العشيرة، وبكاه الجيران، وبكاه الأصدقاء والأحباب، وبكاه كل من عرفه عن قرب، أو سمع به عن بعد، بكاه الشيوخ، وبكته النسوان، بل بكاه الشبان والشابات، فلقد كان موتهفاجعة حلت بأهله، والحي الذي يسكن فيه والبلدة التي نشأ بها، ورثاه الجميع، وذرفوا عليه الدموع، وحزنت منهم القلوب، ورددو جميعا ” إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا أبا محمد لمحزونون” ولقد ودعته مدينة سيدي سليمان تقديرا لجهوده، وعرفانا بجميله ، بجنازة حافلة، ومشهد مهيب رهيب، لم تعرف له هذه المدينة فيما ذكر أهلها الشاهدون على أحداثها مثيلا منذ تأسيسها، ولقد سمع أحد المشيعين رجلا يقول لآخر- وهما واقفان يتعجبان من حشود المشيعين الغفيرة- : لو كان هذا الرجل درويشا ما تبعه معشار عشر هؤلاء، ولا حضروا في جنازته” فقال لهما صاحبنا ” إن هذا الرجل لم يخلف في بيته سوى ألواح القرآن، وما يكاد رأس ماله يبلغ ألف درهم فازداد عجبهما، وعظم استغرابهما. ثم لا تسل عن أفواج المعزين، من الغادين والرائحين، الذين أتوا من مختلف المدن. ولا تسل عن جموع الصالحين الذين شهدوا جنازته، أو حضروا في أيام عزائه، والذين دفعتهم الأقدار ليشهدوا لهذا الرجل بالصلاح، ويرجون الله له الفوز بالجنة والنجاة من النار. ومن لطيف الاقدار، وبشائر الفلاح، أن الله تعالى حمى جنازته، من بعض من كان من المحتمل أن يحضرها وهو غير مرضي في دينه، ولا حميد في سيرته، كما حمى مجالس عزائه من أمثال أولئك، حتى إن بعضهم جاء إلى المنزل فوجده ممتلئا فنظر فلم يجد مكانا للجلوس، فقفل راجعا.
ولقد حدثني إمام المسجد العتيق بسيدي سليمان الحاج الحسين واحلو والدموع ملء عينيه، يوم الجمعة 26 ربيعI 1424 قبيل صعودي المنبر لإلقاء خطبة الجمعة بقليل بأنه لم يشهد في حياته وقد قضى في هذا المسجد وحده ما يقارب أربعين سنة- مجلسا للعزاء يعلوه الوقار، وتجلله السكينة، مثل ما شهد ليلة الأحد 21 ربيع 1 1424 في منزلنا حيث اجتمع أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، للترحم على والدنا، والاعتبار بحدث موته، كان ذلك كله، بل أكثر من ذلك حيث ظهرت كثير من البشائر تنزل هذا الرجل منزلة رفيعة عند الله عز وجل، نرجو له ذلك ونطمع في عفو الله ورحمته، ولا نزكي على الله أحدا، فما السر في هذاالقبول الذي رزقه هذا الانسان؟
إن والدي رحمه الله لم يكن صاحب مال، وإنما كان فقيرا يلتحف بالكفاف، ويرتدي بالقناعة، ولم يكن صاحب جاه، بل كان يهرب ويوصينا بالهرب من كل ما يقرب من الجاه على ما هو عند أهل الدنيا، ولم يكن ذا حسب- وإن كان ينتمي إلى أرومة صالحة محترمة- فأجداده كانوا زهادا في الدنيا، بعيدين عن مظاهر البذخ والترف والرياسة، وبالجملة فإن والدي لم يكن له من أسباب القبول الدنيوي سبب واحد فلم يبق إلا البحث عن أسباب القبول الأخرى، فهاك بعضها :
1- فالسبب الأول، وهو سبب الأسباب، وعمدة هذه الأبواب : حب القرآن الكريم، وبذل الجهد في تعليمه لأكبر عدد ممكن من الناس، والسهر على توريثه لأولاده، وقد صح في الحديث : ” إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع أخرين” ولسنا في شك من أن الله رفع قدر هذا الرجل في الدنيا بالقرآن الكريم وإنا لطامعون أن يرفع الله قدره به في الآخرة.
2- صبره الجميل، وتحمله للشدائد، من دون أن يلمح بالشكوى، أما أن يصرحفذلك ما لا يخطر ببال من يعرفه، ذلك كان دأبه في صحته وعافيته، وعلى ذلك فارق هذه الدنيا، فإنه مع ما كان ألم به من مرض السرطان- لم يكن يزيد على أن يقول : “ها نحن عند الله، الحمد الله”، ولم يشعر أحد من عواده وزواره الذين كانت جموعهم لا تنقطع عنه لحظة أن مرضه موجع ،أو أن وجعه مؤلم.
3- سخاؤه مع الناس وبخله على نفسه، لقد كان كريما يعطي عطاء من لا يخشى الفقر اقتداء بسيد الأولين والآخرين ، وكان إذا حضر عنده ضيف يود لو يقطع قطعة من لحمه فيكرمه بها، وسواء كان من قبله أو من قبلنا نحن الأبناء، أما إكرامه لإخوته وأهله عموما، فقد كان فريد أهله، ونسيج وحده، حتى كان يعاب في ذلك من بعض من لديه علاقة خاصة، ولقد كنا نتحفه ببعض ما يتحف به أبناء بررة أبا كريما، فكان يخفي ذلك ويصره، فإذا جاءه أحد إخوته وأقاربه أعطاه إياه محاولا إخفاءه عنا تارة وإظهاره تارة أخرى.
4- تواضعه الجم : لقدكان رحمه الله مثال الرجل المتواضع الذي لا يرى لنفسه قيمة على الإطلاق، فكان يعاشر الناس بصدر رحب، وسماحة كبيرة، لا يرى نفسه فوق أحد، بل يرى الناس جميعا فوقه، يسبقهم بالسلام، ويفارقهم بالدعاء وإن تعجب، فاعجب أنه لم يكن يسمح لأحد من أولاده بتقبيل يده، سواء كان في حضر أو قدم من سفر، وإذا وقع ونزل فإنه يبادل القبلة بأختها، والضمة بمثلها، كان ذلك دأبه في حياته كلها، وهو ما فارق عليه الدنيا، حيث كان يمسك بيد أولاده وعواده فيقبلها، ويدعو ويطلب الدعاء.
5- حسن الجوار ورعاية حقوق الجيران : لقد كان رحمه الله- يعتبر الجيران إخوانه، وينزل أولادهم محل أولاده، كان يحدب عليهم حدب الوالد، ويرعاهم كأنه متولي أمورهم، ويتفقدهم عند غيبة آبائهم، ويرسل بعضا من بناته أو حفيداته للمبيت مع المغيبات من نسائهم، ويقرض المحتاج منهم، وينبه الغافل، ويوقظ النائم، وهلم جرا ولقد كان منزلنا بسبب أخلاقه مثابة للجيران، ومحط رحالهم، ومحل قضاء حوائجهم المختلفة، سواء منها المادية والمعنوية.
6- الحياء الجم : فلقد كان رحمه الله أشد حياء من العذراء في خدرها اقتداء بأخلاق المصطفى . ولذا كان يبدأ من لقيه بالسلام، وكان يجتنب مواطن الحرج لشدة حيائه، ومن أمثلة ذلك أنه كان يجلس بعد ما أخذ منه الدهر مأخذه بحديقة المنزل، فإذا سمع بحس امرأة آتية لزيارة اهلنا قام قبل أن يرى شخصها، وأسرع في الاختفاء حتى لا تراه، أما أن يراها هو فذلك ما لا يكون.
تلك بعض معالم حياة هذا الرجل الذي كان لا يعرف الهزل، ولايعبأ بسفاسف الأمور أو يرفع رأسه لصغائرها، وإنما هوجد في دين أو اجتهاد في دنيا، لعلها تكشف بعض السر في حزن الناس عليه وبكائهم بالقلوب والعيون، عند وفاته، وتأثرهم العميق بفراقه، وذلك هو السبب الأعظم فيما نرى- فيما وضع له من قبول في الأرض جعلت الألسنة تلهج بالثناء عليه، وتنطق بتهنئته بمقامه الذي يرجونه له عند الله، وهو الذي مات ضاحكا مبتسما يردد قوله تعالى {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} وقوله تعالى : {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} وإنا لطامعون أن يحظى عند الله تعالى بالقبول. فاللهم تقبله في عبادك الصالحين، واغفرله ما ضيع من حقوقك، وتحمل عنه ما ضيع من حقوق عبادك. إنك غفور رحيم.
محمد الطاهر بـن محمد العربي العـمـراوي