مذكرة في شأن التعليم الأصيل – من جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية سنة 1998


 إلى السيد وزير التربية الوطنية المحترم

سلام تام، مشفوع بخالص الدعاء لمولانا الإمام

وبعد، فيطيب لجميعة العلماء خريجي دار الحديث الحسنية، ممثلة في مكتبها الإداري، أن تخاطبكم في شأن ملف التعليم الأصيل، وما يتضمنه من قضايا يعتبرها العلماء من ركائز فكر هذه الأمة ومكوناتها التي لا يجوز التفريط فيها بحال.

ولا يخفى عليكم -سيادة الوزير- أن هذا النمط من التعليم هو الوريث الشرعي، والامتداد الطبيعي للنظام التعليمي الذي عرفته بلادنا منذ أن أشرقت عليها شمس الإسلام، واستضاءت ربوعها بنور القرآن. وعليه كان معولها، في تأطير حياتها العلمية والدينية والسياسية والقضائية والتشريعية والإدارية عبر الحقب والعصور. وفي ظله بنى هذا المغرب أمجاده التاريخية والحضارية. فكانت حواضره قبلة طلاب العلم يشدون الرحلة إليها من أقاصي الدنيا. ناهيكم عما أنجبه من فطاحل العلماء وأئمة الدين ورجال الإصلاح والتجديد الذين ذاع صيتهم في دنيا الإسلام ممن لا حاجة إلى التذكير بأسمائهم وما أبدعوه من عطاءات في مختلف الميادين.

وقد ظلت قلاع هذا التعليم ومعاهده ومراكزه، تمثل صمام الأمنالذي يرد عن الأمة غزو الغزاة، وغارة المغيرين. فإلى جانب حراستها العلمية الدينية، كانت رباطا للجهاد، من أجل الذود عن الوطن ورد العدوان عنه.

ولا يخفى عليكم أنه بفضل هذا التعليم استطاع المغرب أن يحافظ على وحدته الدينية عقيدة وشريعة في ضوء الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية وهو ما ارتضاه ولاة أمرنا ملوكا وعلماء منهجا ودليلا في اجتهاداتهم الفقهية فوقاهم الله بفضل هذا الاختيار الرشيد شر الفرقة والخلاف الذي ابتلي به غيرهم.

من أجل هذا وغيره بوأت أمتنا هذا التعليم المكانة اللائقة به وأحلته منها في القلب والضمير والوجدان.  إذ حظي على الدوام بالرعاية الكاملة والاهتمام البالغ من طرف ملوكنا الأبرار. وخاصة منهم ملوك دولة الأشراف العلويين الذين أحاطوا جامعة القرويين وهي تمثل المرجعية العليا للعلم والدين، حيث كان هاجس إصلاحها، وترشيد خطاها وتفعيل خطابها في مقدمة ما يشغل بالهم، وقد توارثوا خلفا عن سلف هذه العناية وذلك الاهتمام.

وعندما أحس الملك الصالح المصلح مولانا محمد الخامس -قدس الله سره، ونور ضريحه- بتعثر خطى هذه الجامعة العريقة بادر إلى إدراكها بتحديث قدميها وتنقيح مناهجها، وتثبيت خطوها على درب الإصلاح.

أما أمير المومنين جلالة الحسن الثاني، فإنه أغنى هذا التعليم، وأعاد له ما سلبه منه عهد الحماية التي كانت ترى فيه صخرة صلبة تحطمت فوقها مشاريعها الهادفة إلى تحويل أمتنا عن ذاتها العربية الإسلامية، فأنعش، ما ذبل من أغصانه، ورمم ما تصدع من بنيانه. وفي هذا السياق أحدث دار الحديث الحسنية، لإحياء علوم السنة النبوية المطهرة التي كان لسلفنا الصالح فيها حضور وظهور، وجعلها تحت نظره السامي حتى تنهض برسالتها في أحسن الظروف وعلى أكمل الوجوه.

ولا نظن أننا بحاجة إلى تذكيركم بأن من مظاهر عناية الجلالة الشريفة بهذا التعليم أنه أفرده بوزارة مستقلة ترعى شؤونه، وتسهر على تطويره وتقويته حتى يشتد ساعده ويقوي عوده واستمر ذلك لفترة طويلة.

وعندما اقتضت المصحلة جمع أشتات التعليم تحت نظر وزارة واحدة أحدثت للإشراف على التعليم الأصيل مديرية خاصة لمتابعة سيره والسهر عليه. ومنذ ذلك الحين بدأت يد الإهمال والتهميش والتجاهل تطاله، إلى أن أصبح كما مهملا ونسيا منسيا مما قد يطول شرح أسبابه ودوافعه.

واليوم وفي فترة توليكم -يا سيادة الوزير- مقاليد  وزارة التربية الوطنية، وصل إلى علمنا أنكم أعددتم مشروعا لهيكلة هذه الوزارة وتنظيم دواليبها مركزيا وجهويا، وهذا من حقكم وليس للعلماء أي اعتراض عليه.

إلا أن الذي لا يقبله العلماء بحال، هو أن يكون التعليم الأصيل ذو الماضي المجيد، هو الضحية لهذه الهيكلة حيث تقلص ظله واختزل اختزالا لينزل من رتبة مديرية -وهي أضعف الإيمان- إلى درجة قسم في مديرية ما، قد يكون وضعه فيها أسوأ من الوضع الحالي لقسمي التعليم الأصيل الحاليين المنبوذين بثانوية المالقي بلا تجهيز ولا هاتف ولا أثاث إداري مما يؤكد أن النية متجهة إلى تصفية هذا التعليم وإعدامه بصفة نهائية. وهنا نستسمح سيادتكم في القول -ومع كل التقدير والاحترام- بأن أمر التعليم الإسلامي بهذا البلدمثل كل المقدسات، يعتبر القرار الأول والأخير في شأنها من اختصاص أمير المومنين وحده بحكم ما ناطه الله به من حماية للدين وحراسة للمقدسات.

وبناء على ذلك فإن العلماء  -بحكم إحساسهم بهذا الأمر أيضا وصلتهم الوثيقة به-  يرون أن من واجبهم لفت نظركم إلى ضرورة المحافظة على هذا التعليم في حده الأدنى الذي كان عليه على الأقل، إن لم يكن بمقدوركم توسيع نطاقه في الوقت الراهن ويطالبون إلى جانب ذلك بما يلي :

أولا : الابقاء على مديرية التعليم الأصيل كجهاز للسهر على حسن سيره، بصرف النظر عن الأشخاص إن كان ثمة ما يعوق عملهم أو يقلل من فاعلية نشاطهم.

ثانيا : تطعيم هذه المديرية بالعناصر الصالحة المخلصة ذات القدرة على العطاء. المؤمنة بجدوى هذا التعليم، وسمو أهدافه وغاياته.

ثالثا : تزويد مؤسسات التعليم الأصيل بالروافد المتوفرة على المواصفات المطلوبة في مختلف الأطوار والمستويات.

رابعا : الابقاء على داخليات التعليم الأصيل بمطاعمها، وإعادة فتح ما سبق إغلاقه منها مع دعمها بالمنح والتجهيزات التي تساعدها على أداء رسالتها التربوية في جو ملائم.

خامسا : إحداث مؤسسات للتعليم الأصيل في المدن والأقاليم والمناطق المحرومة ولاسيما منها ذات الكثافة السكانية حيث يكثر حفاظ القرآن الكريم مثل الدار البيضاء والرباط والقنيطرة وغيرها.

سادسا : اختيار المدرسين والإداريين الكفاة الذين تتوفر فيهم الؤهلات العلمية والإدارية والسلوكية ومعها الوعي برسالة هذا التعليم ودوره الديني والتربوي والوطني. حتى يكونوا خير عون له على إنجاز مهمته السامية في بناء المواطن الصالح.

سابعا : تنظيم ندوة أو أيام دراسية لبحث ملف هذا التعليم ووضع استراتيجية فاعلة للنهوض به وتطوير مناهجه ومضامينه.

هذا ونشير أخيرا إلى أن التعليم الأصيل هو تعليم ذو طابع تخصصي لا غنى للأمة عنه، كما لا غنى لها عن الطبيب والمهندس والرياضي وعالم الذرة وسواهم من ذوي التخصصات الدقيقة، ولا يستطيع أي تعليم سواه أن يقوم مقامه أو يسد مسده في صيانة الشخصية المغربية العربية المسلمة، وعن طريق تنميته وتقويته وتطويره تستطيع الأمة أن تحافظ على شخصيتها المتميزة وانتمائها الثقافي واللغوي والحضاري وبذلك نتمكن من حسن الجمع بين الأصيل التليد والطريف الجديد في توازن تام لا يطغى المادي فيه على المعنوي، ولا الدخيل على الأصيل.

سيادة الوزير إن لنا كامل الثقة في أنكم ستولون هذه المذكرة ما تستحقه من عناية واهتمام، وذلك بالعمل على الاستجابة لما تتضمنه من مطالب وأفكار. آملين أن نرى بعض هذه العناية تنعكس على واقع هذا التعليم، بتحسين ظروفه المادية وإعادة الاعتبار للقائمين عليه حتى يتبوأ المكانة التي يريدها له راعي قيم هذه الأمة والساهر على حراسة وجودها المعنوي أمير المومنين جلالة الملك مولانا الحسن الثاني أعزه الله ونصره.

وتقبلوا سيادة الوزير خالص المودة والتقدير

الكاتب العام  : الدكتور محمد يسف

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>