لقد بلغت القلوب الحناجر، وضاقت الأرض بما رحبت، ومزق الألم الأجسام، وصارت دموع الحسرة دما ينزف؛ لما رأينا من إبادة يومية لشعب مستضعف، وظلم ووحشية وهمجية لم يسبق للتاريخ أن سجل لها مثيلا.
نعم فذاك فرعون الذي علا في الأرض {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين} (القصص : الآية 3). نعم على الأقل كان يقتل الأبناء ويستبقي على النساء. فما بالك بفرعون هذه الأيام، إنه علا في الأرض وجعل أهلها شيعا -إرهابيين وغير إرهابيين- -معهم أو ضدهم- يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ونساءهم وشيوخهم ويدك دورهم ومساجدهم ومدارسهم وأسواقهم..
وحتى لايتسرب اليأس إلى القلوب، ولكي لانظن بالله الظنون أحب أن أوضح امورا تكون عونا للمسلمين على تجاوز هذه الصدمة وهذا الابتلاء. وقد زادتهم إيمانا. أما الذين في قلوبهم مرض فسيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا!!
فكل مايجري حولنا ينبغي أن يكون عبرة لنا {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك ا لأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لايحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنواويمحق الكافرين} ( آل عمران : 141)
والذي أحب أن أركز عليه من خلال هذه الكلمة هو الحذر من استعجال نزول العذاب على الطغاة المتجبرين خصوصا وأن أكف الضراعة ممدودة إلى السماء ليل نهار.
فكلنا يتمنى أن تنزل على جنود الاستكبار صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، أو أن يخسف الله بهم الأرض، أو أن يأخذهم الطوفان في هذه الأيام وليس بعد سنة أو بعد أعوام!! وكأننا نحن المتصرفون في هذا الكون، المالكون لزمامه. أو كأننا نريد أن نملي على الله ما الذي ينبغي أن يعمله أولايعمله. أوكأن عين الله غافلة عما يجري والعياذ بالله.
ولايخفى ما في هذا التفكير من جرم كبير وشر مستطير. قال تعالى : {ويستعجلونك بالعذاب، ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ولياتينهم بغتة وهم لايشعرون، يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}(العنكبوت : 53، 54).
فالذي يمنع من نزول العذاب الآن هو عدم حلول الأجل المسمى، لم يحن الأجل بعد ولكنه سيحين على أي حال. وليس هناك شك بأن مصير الطغاة الهلاك والزوال. فهذه عقيدة المؤمن الصادق.
ومن خلال تأملي في سورة القصص، وجدت فيها درسا بليغا للمؤمنين، خصوصا فيما يتعلق بقصة موسى وفرعون . قال تعالى: {طسم تلك آيات الكتاب المبين، نقص عليكمن نبأ موسى وفرعون لقوم يومنون} فبعد أن ذكرت السورة طغيان وجبروت فرعون وحاشيته، استطردت في ذكر قصة موسى منذ ولادته ثم نشأته ثم فراره إلى مدين والتقائه بنبي الله شعيب عليه السلام(1) وعمله كأجير عنده لمدة عشر سنوات على اعتبار أتم وأكمل الأجلين، ثم تكليف الله له بإبلاغ الرسالة.
ولاندري كم بقي موسى عليه السلام في مصر وهو يدعو فرعون وقومه. فلابد أن تستغرق بضع سنين. فالعبرة التي أحب أن استخلصها من هذه القصة والتي تهمني في هذا الصدد، هو طول المدة – بمقياسنا نحن البشر- التي سيزهق فيها الباطل. فإذا أردنا أن نعد السنين التي مكثها سيدنا موسى في قصر فرعون ، سوف نجدهالاتقل عن خمسة عشر عاما، على اعتبار سن البلوغ ثم نضيف إليها المدة التي قضاها في مدين، فتصبح خمسا وعشرين سنة.
وحتى لا أقع في الوهم والخطأ سأغض النظر عن السنين التي قضاها موسى عليه السلام في دعوة وإنذار فرعون وقومه وأخلص إلى أقل مدة ما بين ظهور الطغيان واستفحاله حتى اندثاره واندحاره، وهي خمس وعشرون سنة على أقل تقدير!!
خمس وعشرون سنة، ونحن نريد لفرعون العصر وأعوانه أن تدكهم الأرض في أقل من دقيقة. {خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون}(الأنبياء : 37). هذابالنسبة للانسان بصفة عامة. ولكن بالنسبة للمؤمن فلابد أن تكون له رؤية خاصة، رؤية متميزة، رؤية ثاقبة إلى الأشياء وإلى الأحداث وأن الله بالغ أمره. وأن كل شئ عنده بأجل.
{ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} فهل من راجع إلى الله. وهل من منيب إلى الله.
علنا نكون اللبنة الأولى التي سينطلق منها البناء لأمة على يدها سيكون الخلاص {إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 11).
(1) أو الرجل الصالح. على اختلاف في التفاسير، ولكن المشهور هو أنه شعيب عليه السلام. والله أعلم.