تمهيد:
أمام هذه الذكرى، نجد أنفسنا ملزمين، بالوقوف عند بعض الأسئلة:
أ- هل حافظنا فعلا في حياتنا على هذه الذكرى؟ ب- هل فعلا حكمنا ما جاء به محمد ، داخل أسرنا ومجتمعنا؟ ج- هل بدلنا ما في وسعنا من أجل نصرة هذا الدين؟ د- إلى أي حد استطعنا تطبيق الشريعة الإسلامية في حياتنا؟
وغيرها من الأسئلة التي ينبغي أن نحاسب بها أنفسنا.
فهي ذكرى للفرح والبهجة، وهي أيضا ذكرى محاسبة، وإعادة النظر في ذواتنا.
وما دامت رسالة الإسلام، منطلقنا الأساسي، في علاقتنا بالرسول \، فلا بد أن تكون هاجسنا في الذكرى، من أجل أن نلتمس خطواتها في حركية الواقع، ودورها في نموه وتغيره. فهذا هو الذي يجعل لذكرى المولد النبوي قيمة، وهو الذي يعطيها معنى، وهو الذي يحقق لها هدفا. فبدون هذا الحديث، الحديث عن الإسلام وعن تعاليم ديننا الحنيف، لن يكون لهذا الاحتفال أي مسوغ.
وقبل الحديث عن ذلك وعن بعض أسباب نجاح الدعوة الإسلامية في حياة النبي ، لا بأس أن نتوقف بإيجاز عند بعض المحطات التي تعرفنا بمحمد .
نبذة عن حياة محمد صلى الله عليه وسلم:
ولد الرسول في أشرف بيت من بيوت العرب. وهو من أشرف فروع قريش، وهم بنو هاشم. وقد نشأ يتيما: مات أبوه عبد الله وأمه حامل به لشهرين فحسب. ولما أصبح له من العمر ست سنوات، ماتت أمه آمنة. فذاق في صغره مرارة الحرمان من عطف الأبوين وحنانهما. وقد كفله بعد ذلك جده عبد المطلب، ثم توفي ورسول الله ابن ثمان سنوات. فكفله بعد ذلك عمه أبو طالب، حتى نشأ واشتد ساعده. وفي ذلك قال الله عز وجل، مذكرا أياه بنعمته عليه: {ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى}(الضحى). والمعنى أنه ولد يتيما، فتولى الله عز وجل رعايته وحفظه، فهداه بنور القرآن، ثم كان عائلا فقيرا فأغناه من رزقه بأن وجد له طريقا ويسره له ليكسب منه رزقه. وقد قضى رسول الله طفولته في الصحراء مع بني سعد، فنشأ قوي البنية سليم الجسم فصيح اللسان. وكان عليه الصلاة والسلام يرعى في أوائل شبابه لأهل مكة أغنامهم. ثم عندما بلغ من عمره خمسا وعشرين سنة عمل لخديجة بنت خويلد في التجارة بمالها على أجر تؤديه له.
ولم يشارك أقرانه من شباب مكة في لهوهم ولا عبثهم، فقد عصمه الله من ذلك. كما لم يشارك قومه في عبادة الأوثان ولم يشرب خمرا قط، ولا لعب قمارا ولا عرف عنه فحش في القول ولا في العمل. بل العكس هو الصحيح، إذ عرف عليه الصلاة والسلام بفطنته وحكمته وصدقه في وعوده وأمانته. حتى كان عرب قريش يلقبونه بالصادق الأمين. وقد اشتهر بينهم بحسن المعاملة والوفاء بالعهد واستقامة السيرة وحسن السمعة.
ثم أفاض الله عليه من نعمه بأن تزوج من خديجة التي كان يتاجر لها بمالها. فكانت له نعم السند ونعم الأنيس.
ولما تم للرسول أربعون سنة نزل جبريل \ بالوحي في يوم الإثنين لسبع عشر خلت من رمضان.
وكان أول ما نزل عليه من كلام ربه الكريم: {إقرا بسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم}(العلق:1- 5).
وكان أول من آمن به ودخل في الإسلام زوجته خديجة رضي الله عنها. ثم بعد ذلك بدأ رسول الله ، يدعو أقرب الناس إليه ثلاث سنوات كاملة. وبعد ذلك أمره الله عز وجل بأن يبلغ الدعوة جهرا، فقال له الله عز وجل: {فاصدع بما تومر وأعرض عن المشركين}(الحجر: 94).
وبعد أن جهر رسول الله ، وأصحابه بالدعوة، اشتد أذى الكفار عليهم، حتى مات منهم من مات تحت العذاب.
ولما رأت قريش ثباتَ المؤمنين على عقيدتهم وإصرارَهم عليها، قررت مفاوضة الرسول على أن تعطيه من المال ما يشاء أو تملكه عليها. فرفض \ المساومة على الإسلام.
ولما رآى الرسول إصرار قريش على الكفر أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة.
ثم مات بعد ذلك عم الرسول أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة. وكان في حياته شديد الدفاع عن ابن أخيه. ثم في نفس السنة ماتت خديجة رضي الله عنها. وقد كانت رضي الله عنها تخفف عنه همومه وأحزانه لما كان يلقاه من عداء قريش. فحزن عليها رسول الله حزنا شديدا، وسمي ذلك العام بعام الحزن.
بعد ذلك اشتد عداء قريش للرسول \ وللمسلمين. فتوجه الرسول \، إلى منطقة تدعى الطائف. والتجأ إلى بستان من بساتينها، وتوجه بهذا الدعاء الخاشع، بعد أن قذفه سفهاؤها بالحجر: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني: إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)(1).
في هذه الظروف العصيبة، وقعت له معجزة الإسراء والمعراج. حيث أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ثم عرج به إلى السماوات العلى. ثم عاد إلى بيته في مكة. وكل ذلك وقع في ليلة واحدة. وفي السماء فرضت الصلوات الخمس على كل مسلم ومسلمة. وفي ذلك من الدلالة ما فيه، حيث يبين لنا الله عز وجل بهذه الحادثة، أهمية هذا المسجد وتلك الأرض المباركة، أرض فلسطين، وأنها ملك للمسلمين جميعا، لا يجوز التفريط في شبر منها.
وبعد ذلك، أمر النبي -بعد أن ضاقت به وبأصحابه أرض مكة وطاردهم الكفار في كل مكان- بالهجرة إلى المدينة. فخرج المسلمون وبقي الرسول \. فتآمرت قريش على قتله وبيتوا النية على ذلك. حتى إذا قدموا إلى فراشه لم يجدوه، ووجدوا عليا نائما في فراش النبي \. ثم انطلق الرسول \ وأبو بكر الصديق فاختبآ في غار ثور. ثم توجهوا بعد ذلك إلى المدينة المنورة.
وما إن وصل الرسول \ المدينة حتى آخى بين الأنصار والمهاجرين. وكتب كتابا بينهم يتضمن المبادئ الأساسية التي قامت عليها أول دوله للإسلام. وفيها من الإنسانية والعدالة الاجتماعية والتسامح الديني والتعامل على أساس مصلحة المجتمع ما يجدر بكل إنسان سوي أن يرجع إليه ويتفهمه ويحفظ مبادئه.
وكان أول ما قام به الرسول \، حين قدم المدينة هو أمره ببناء المسجد. يصلي فيه المسلمون ويجتمعون لطلب العلم. مما يبين أهمية المسجد، وما له من رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين.
وبعد أن استقر الرسول \ والمسلمون في المدينة، أمرهم الله تعالى بمقاتلة كفار قريش وغيرهم من حلفائهم، الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم، مصداقا لقوله تعالى: {آذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}( الحج:39 – 40).
وبالفعل، خاض الرسول ومعه المسلمون عدة حروب وغزوات ضد الكفار، من أكبرها غزوة بدر الكبرى وغزوة أحد والأحزاب….
وأخيرا مكن الله لرسوله فتح مكة، فدخلها المسلمون وأعلن حينها مناد الرسول \: (من دخل داره فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن).
ثم حج الرسول حجة الوداع التي خطب فيها خطبته الشهيرة، وهي آخر خطبة له ، جاء فيها: (أيها الناس، اسمعوا قولي هذا، لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا…)(2). إلى آخر ما جاء في الخطبة، والتي أوصى فيها الرسول \ صحابته الكرام، وأوصانا نحن من بعده بالتمسك بكتاب الله وسنة نبيه ، حيث قال \: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)(3).
وجاء الأجل، وتوفي الرسول \، بعد أن كان قد علم من طريق الوحي بقرب أجله، وودع الناس في حجة الوداع.
أسباب نجاح دعوته:
أ- الإيمان بالله عز وجل والثقة به:
كان الرسول ، مثال المؤمن الصادق في إيمانه وتصديقه لربه. كان أعبد الناس، رغم أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وبعد أن هاجر إلى المدينة اتخذ حرسا شخصيا مخافة مكر اليهود. وبمجرد ما أنزل الله تعالى قوله: {والله يعصمك من الناس}(المائدة : 67 )، أمرهم أن ينصرفوا ليقينه أن الله سيقيه مكر اليهود والكفار.
وعندما كان مع أبي بكر الصديق في الغار كان يقول له صاحبه : (والله يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا)، فيطمئنه الرسول \، فيقول : (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)(4).
ب- الإخلاص:
طبيعي أن من عُرِف بالإيمان القوي وهو محمد ، أن يخلص في دعوته وأن يصدق في تبليغه بما أمره به الله عز وجل. يقول تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}(البينة: 5 ). فالإخلاص، أن يخلص المؤمن لله في جميع أعماله، فلا يرجو منها إلا وجه الله تعالى. قال \: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ج-التضحية من أجل نصرة الدين:
ضحى الرسول ، بكل ما لديه لمواصلة الدعوة والجهاد في سبيل الله: ضحى بعلاقاته الشخصية مع قومه، ومكانته بينهم مُتحملاً في مقابل ذلك الاضطهاد والسخرية والمطاردة، من أقرب الناس إليه. وكان شعاره دائما: (لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دون ذلك).
د- القدوة الحسنة :
كان رسول الله ، عظيما في خلقه. وقد شهد له بذلك المولى عز وجل حيث قال: (وإنك لعلى خلق عظيم}( القلم:4).
إن هذا الجانب الأخلاقي، هو الذي ميز شخص الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ميز رسالة الإسلام ككل. فقد قال \: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). هذا الأمر هو الذي يَسَّرَ إقبال الناس على رسول الله \، والدخول في الإسلام.
إن الحديث عن أخلاقه \ يطول، ولكن لا بأس من أن نقف عند بعضها:
1- صبره \:
يتجلى ذلك في:
< تعرضه في بداية الدعوة للتعذيب والتجويع والسخرية والإهانات، من طرف الكفار. فقد رماه الكفار بالجنون والكذب والسحر، وبكل ما يجرح نفس الإنسان، ومع ذلك بقي صابرا صامدا أمام ذلك كله.
< صبره \ في غزوة أحد، التي انهزم فيها المسلمون، ومع ذلك ظل \، يشجع أتباعه على الصمود.
< صبره \ وهو يفقد أولاده وأقاربه وأصحابه، فقد قال \، عند موت ابنه إبراهيم: (إن العين لتدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون)(5).
2- رحمته \:
< كان \ يُؤذى ويُضرَب ويُضطهَد، ومع ذلك كان دائما يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)(6).
< رحمته \ التي شملت أسرى بدر، الذين طلب منهم أن يعلموا المسلمين القراءة والكتابة.
وغير ذلك من المواقف التي تظهر رأفة قلبه ورحمته بالآخرين.
3- حلمه ولينه \:
< قال الله عز وجل: {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك}(آل عمران: 159).
فالرسول \ لم يغضب لشخصه أبدا، وإنما كان يغضب للحق إذا انتهكت حرماته. كما أنه لم يكن فضا غليظا في خطابه مع الآخرين.
4- تواضعه \:
قال \: (من تواضع لله رفعه)(7). كان \ متواضعا في كل شيء: مجالسه حيث كان يجلس مع المساكين والفقراء وكأنه واحد من عامة المسلمين، وهو نبي \، متواضعا في ملبسه ومأكله، وفي كل شيء.
خاتمــــــة
تلك إذن، أهم الأسباب التي أدت إلى نجاح دعوته \. والتي لا بد لنا منها من أجل استرجاع ما أَضَعْناه، وتدارك ما فرطنا فيه. فهذه هي الدروس التي ينبغي أن نستثمرها في هذه الذكرى، وهذا هو عطاء الذكرى، وهذا هو الأسلوب الأمثل الذي ينبغي أن نثير به هذه الذكرى الشريفة حتى نحقق مزيدا من الارتباط بمفاهيم الرسالة السماوية التي جاء بها محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
——–
1- جامع الأحكام/ القرطبي: 16/211.
2- ـرواه الإمام أحمد في مسنده وانفرد به :كتاب: اول مسندالمدنيين جميعا. باب:بقية حديث أبي الغادية ,رقم الحديث:16101.
3- رواه مالك في الموطأ: كتاب: الجامع ، باب: النهي عن القول بالقدر، رقم الحديث: 1395.
4- رواه البخاري في صحيحه، كتاب:تفسير القرآن، باب:قوله {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا},رقم الحديث:4295 .
5- ـرواه البخاري في صحيحه، كتاب :الجنائز, باب: قول النبي إنا بك لمحزونون ,رقم الحديث:1220
6- رواه البخاري في صحيحه، كتاب:أحاديث الأنبياء، باب:حديث الغار، رقم الحديث:3218 .
7- مجمع الزوائد: علي بن أبي بكر الهيثمي: 8/82.
نجاة المديوني