رسالة العلماء – استنهاض المسلمين لتحرير الأمة (1)


لا يستطيع الدارس لتاريخ تحرير الشعوب الإسلامية والعربية في العصر الحديث، أن ينكر الدور الطليعي والمهمة الكبرى التي قام بها العلماء ورجال الفكر الديني -مع غيرهم من الفعاليات الثقافية والسياسية- في تحقيق استقلال هذه الشعوب والدول، واسترجاعها لسيادتها وحريتها، وذلك بما أيقظوه من حماس في نفوس المسلمين وأججوه من عاطفة دينية وأذكوه من إيمان بوحدة الوطن وسيادة الأمة الإسلامية، ووجوب الجهاد في سبيلها والدفاع عنها، حتى استثاروا الهمم والنفوس للذبعن حوزة الوطن والاستشهاد من أجله، مستنهضين عقيدة المسلمين الدينية، باعتبارها من مقومات كيان الأمة، وحافزا للثورة ضد الظلم والقهر، والأساس الذي قامت عليه أمة الإسلام، لم تزايلها قط، لكن إذا ضعفت، فذاك بداية طريق التخلف والانحطاط، مع ما يستتبعه من غلبة واستعباد، وما زالت كثير من المنظمات والهيئات التي رفعت شعار التحرير، تحمل أسماء إسلامية لها قدسيتها الدينية واحترامها في نفوس المتعاطفين معها.

من أسباب تخلف الأمة الإسلامية

كانت عملية  استنهاض الشعوب الإسلامية وتطويرها وتجديد دينها -بعد التحرير السياسي- يفترض تشخيص حالها وواقعها ومعرفة أسباب تخلفها واستعمارها، وبدا أن السر في ذلك يرجع أساسا إلى ضعف عقيدة الأمة الإسلامية وفسادها من حيث ارتباط مفهومها بالعبادات والشعائر الدينية التي تربط العبد بربه فقط، ولا صلة لها أو تأثير أو توجيه في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمة، مما سبب انفصاما بين المعتقدات والتشريعات السماوية وبين نظام حياة المسلمين، وأنماط عيشهم وسلوكهم، حيث أصبحت الممارسات الدينية من عبادات وغيرها في واد، بسبب فراغها من روحها ومقاصدها وعدم تجاوزها حدود العواطف والوجدانات، وحياة الناس بكل مباذلها ومناكرها في واد آخر، تغترف من كل الحياض، وتَعُبُّ من جميع المنابع، دون أن تراقب في ذلك وحي السماء وعدالة الله، فحصل ذلك الانشطار والانفصام بين العقيدة، والحياة الدنيوية، وأصبحنا نلحظ كيف أن المسلم، يلتزم أخلاقيا بعقيدته الدينية في إطارها العبادي : يرتاد المساجد أحيانا ويصوم رمضان ويعتمر… ولكن حياته العملية، وعلى كل المستويات والأصعدة لا صلة لها بالعقيدة الإسلامية الصحيحة والتشريعات، متغافلا عن قول الرسول  : >الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان وعمل بالأركان< أو كما قال ، مما تولد عنه الفهم الخاطئ الذي يرى ألا سلطان للدين على حياة المسلم وسلوكه ونمط عيشه، إذ الدين لله، أما الحياة فشأن آخر وواقع لا سبيل لضبطه أو تصريفه من منظور تشريعي ديني، كما هو حال الغربيين والعلمانيين، مما جعل الأمة الإسلامية، أو بعضها، تنسلخ من خصوصياتها ومميزاتها وتنتقل من مكانتها الخيِّرة والوسطية والإشهاد على الناس، والدعوة إلى الله {كنتم خير أمة أخرجت للناس}. {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}(البقرة 143) إلى منزلة التبعية والغثائية مصداقا لقول نبي الإسلام  : >لتتبعُن سنَنَ من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتوهم، قلنا يا رسول الله : آليهود والنصارى؟ قال فمن؟<(رواه أبو سعيد الخذري).

وفي ظل هذا الشرخ الكبير والاعتقاد المهترئ، وما آلت إليه حياة المجتمعات الإسلامية، تم إغفال حقيقة هذه الأمة، وأنها قامت على أساس الدين الذي له -في الحفاظ على وجودها وكيانها وتميزها- الدور الأساسي، والأثر الفعال في ضمان أحقيتها في الحياة، واستمراريتها في الخيرية، ولن تتم لها بدونه نهضة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، ولن تكون لها منعة أو عزة، ذلك أن هذه الأمة، أراد لها خالقها تعالى أن يربط وجودها بعقيدة التوحيد، وحياتها بشريعة الإسلام، حيث لا سيادة لها إلا بدوامهما، ولا سلطان لها إذا زاغت عنهما، وصدق الخليفة عمر بن الخطاب ] : “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”.

ولكن الانحراف الذي تجذَّر في حياة الناس وثنائية الولاء، وما ترتب عن ذلك من تمزق وضياع، جعل عقاب هذه الأمة أمرا حتميا بالرغم من انتسابها للإسلام، لقد تداعت الأمم الكافرة : الغرب الصليبي الحاقد، وأمريكا الاستعلاء والاستكبار والهيمنة والعولمة، وإسرائيل المتآمرة على الأمة الإسلامية، التي تمزقت إلى دويلات متحاربة ضعيفة تتصارع فيما بينها، وتم الاستيلاء على بيت المقدس، وأبعدت شريعة الله عن حياة الناس وأحكامهم، وصدق قول الرسول  : “يوشك أن تداعى عليكم الأمم (تتجمع بالعداوة) كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا : أمن قلة نحن يا رسول الله؟  قال : “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله مهابتكم من صدور أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت<(أخرجه أبو داود.).

وزاد الأمر سوءاً اعتقادُ بعض المنهزمين الذين وقعوا أسرى حضارة الغرب وأصابتهم لوثة التطور والتغيير حتى في الثوابثوالمقدسات، أن سبب تأخر المسلمين هو تمسكهم بالإسلام، بينما الذي تخلف ليس الإسلام، ولكن المسلمين هم الذين تخلفوا لإعراضهم عن المنهج الإسلامي في الحياة، لا بسبب تمسكهم بالإسلام، وإن كانت لهم بقية من مظاهره.

سبيل الخروج من جحر الضب

إن روادا من المفكرين المسلمين المحدثين، وأعلاما من قياديي الحركة التصحيحية، بدا لهم من تشخيص ما عليه حال المسلمين، وحتى يمكنهم الخروج من التخلف وجحر الضب كما يقول الحديث النبوي(1)، حتمية الإحياء الإسلامي الصحيح وبلورته في عقول المسلمين وسلوكهم : عقيدة وشريعة ومنهج حياة.وضرورة توجيههلحياتهم وتخليصها من الثنائية والانشطار بينها وبين الدين، وقدموا من أجل ذلك تصوراتهم للإصلاح والتجديد. وكلنا يذكر رواد الفكر النهضوي بدءا بالأفغاني والكواكبي ومحمد عبده، ورشيد رضا، وعلال الفاسي، وغيرهم على اختلاف توجهاتهم واختياراتهم من السلفيين الرافضين للاغتراب والحداثة من منظورها الغربي العلماني، إلى الذي يرى إمكانية الاقتباس من حضارة الغرب مع مراعاة المقومات والخصوصيات للأمة الإسلامية، مع ما يطرحه هذا التيار من مدى القدرة على الفصل في الثقافة المعاصرة بين مضامينها المعرفية والحضارية، وقيمها المدنية التيتتحكم في عقول وسلوك الذين يرتادونها ويغترفون من حياضها، ويعيشون على قيمها المادية التي تتصادم كثيرا مع التعاليم الإسلامية والمثل التي قامت على أساسها رسالة الإسلام.

ولم تقتصر جهود هؤلاء القياديين والمفكرين من العلماء وغيرهم من المثقفين الإسلاميين، على التفكير والتخطيط، بل تجاوزت ذلك إلى مرحلة الدعوة لتطبيق أفكارهم وتصوراتهم، مستلهمين السلوك المتوازن للنماذج الإسلامية السابقة على مستوى الأفراد والجماعات التي زاوجت في حياتها وقيادتها بين دينها ودنياها.

إلا أن واقع حال المسلمين ظل كما هو، واستمر تقليدهم للغرب، وإعجابهم بحضارته ونمط حياته وإقرارهم بأستاذيته، تابعين له في مختلف حياته المادية والاجتماعية… ومعجبين بنظمه الاقتصادية ومناهجه التربوية، مما عمق الانشطار بين مقومات هذه الشعوب الإسلامية القائمة على وحي السماء وهداية الله، وبين الاختيارات والاتجاهات التي سارت في ردوبها منذ تحريرها حتى الآن.

إنها معضلة شائكة متجددة، استحكمت خيوطها في رقاب المسلمين وجعلتهم أتباعا للآخرين دون أن يحققوا من وراء ذلك نهضة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، ناهيك عن الأخلاقيات والقيم والتمسك بشريعة الله كما أرادها سبحانه، مما يستوقف النظر ويحتم دعوة جديدة لتحرير النفوس والعقول مما ترسب فيها وأفسد عليها دينها ودنياها، وأبقاها في مؤخر القافلة الإنسانية، مما لا يتم إلا بقيام أصحاب الثقافة الإسلامية المنفتحة، وممن اصطلح على تسميته بالعلماء، بدورهم في الإنقاذ الذي يخص جوانب مقومات الأمة الإسلامية وخصوصيتها، والتي لن تستقيم شؤونها وتثبت ذاتيتها إلا إذا أرست دعائمها على تلك المقومات التي اختطها وحي السماء.

ولكن هذا الأمر مازالت تعترضه صعوبات جمة وعوائق كثيرة نعرضها في العدد القادم بحول الله.

——-

(1) – إن رسول الله  قال : لتركبن سنن منكان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم…

العلامة عبد الحي عمور

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>