التزكية: أهميتها وطرقها ومحبطاتها (3)


ثالثا: ركوب بحر الملذات والإسراف في طلب الدنيا، فإن ذلك بحر لاشاطئ له من افتتان بالأموال وانغماس فيها فذلك يميت القلب ويصرفه عن معرفة الحقائق، كما يفيض الأماني والخيالات التي لاتنتهي وذلك يفوت عليه فرص العلم والترقي في الإيمان، ولأن إدبار الدنيا ليس دليلا  على بغض الله له،كما أن إقبالها ليس دليلا على حب الله له لأنه تعالى يكرم بالابتلاء هذا، ويبتلي بالنعم هذا. وقد قال  : “إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لايحب، ولايعطي الإيمان إلا من يحب” (1) وقال بعض الصالحين من السلف :”رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لايعلم ورب مغرور يستر عليه وهو لايعلم، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لايعلم.”(2)

والمؤمن همته في طلب العلم والإيمان والعمل الذي يقربه إلى الله، فحتى المباحات وإن هي حلال فالإسراف فيها مذموم. والنصوص  القرآنية والحديثية صريحة في ذلك، إلى جانب سير الصحابة والسلف والصالح، قال سبحانه : {وكلوا واشربوا ولاتسرفوا إنه لايحب المسرفين}(الأعراف : 29) وقال كذلك : {ولاتبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}(الإسراء : 27)، كما أنه تعالى نبه وحذر من هذا الترف والإسراف فقال : ” وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}(الإسراء : 16) والإسراف في المباحات إلى ماهو حرام، قال الإمام الغزالي : “لايمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة مالم يمنع نفسه عن النعم بفيض المباح”(3).

رابعا : اقتراف الذنوب كبائرها وصغائرها، فهي من أعظم الأخطار على تزكية النفوس والقلوب فقد قال صلى الله عليه وسلم: ” إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ذاك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن : {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}(4) وقال سبحانه وتعالى في سورة النساء : {إن تجتنبوا كبائر ماتنهون نكفر عنكم سيئاتكم} وقال ابن القيم الجوزية : ” السيئات تطفئ نور القلب، وقد أخبرا لله عز وجل أن كسب القلوب سبب للران الذي يعلوها، ويخبر في آية أخرى  أنه أركس المنافقين بما كسبوا: {والله أركسهم بما كسبوا}”(5).

فالمسلم وإن حذر من الكبائر فقد يصاب بالصغائر التي تعد عقبة كبيرة في تزكية نفسه إن هو داوم عليها، ذلك أن الشيطان لا ييأس بترك المسلم للكبائر فيصيده بالصغائر، قال   في حجة الوداع : “إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه رضي منكم بما تحقرون” (رواه أحمد في مسنده) وعن أنس ابن مالك ] قال : “إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، وإن كنا لنعدها على عهد النبي  من الموبقات” (رواه البخاري).

إن الإصرار على الصغائر تحملها إلى الكبائر فعن عبد الله بن عباس قال : ” هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لاكبيرة مع استغفار، ولاصغيرة مع إصرار”(6).

خامسا : البدع التي تعد حائلا كبيرا بين الانسان وتزكية نفسه، وهي في الأفعال كما في الأقوال، لأنها اعتقاد بخلاف ما جاء به محمد  وما أنزل به القرآن العظيم.

كما أن البدع تكون بالتعبد بما لم يأذن به الله، وهي محدثات الدين المفسدة للعبد يلحقها خسران الدنيا والآخرة، وهذه  البدع تنشط إبليس اللعين وما يهلك الإنسان نفسه إلا بها، لأن المعاصي يثاب منها والبدع يعتاد عليها فتصبح ثابتة لايتاب منها، قال الإمام السيوطي في حقيقة السنة والبدعة : ” فهم يذنبون ولايتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا” (7).

سادسا : كثرة مداخل الشيطان على الإنسان، وهو اعتى أعدائه، لهذا قال الحق سبحانه : {ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} (البقرة، : 167-206. الانعام : 143) وقال كذلك : {وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} (الأعراف : 22) وكذلك : {إن الشيطان للانسان عدو مبين} (يوسف : 5) وقال : {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} (القصص : 15) ونبه وحذر سبحانه : {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} (فاطر : 6).

وقد اهتم القرآن الكريم بذكرالشيطان وأثر عداوته على الإنسان، وذكر كيده ومكره به وما يوقعه في المعاصي بما يصنع له من مزالق، وقد صنف علماؤنا الأجلاء في هذا الباب كتبا منها : إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم الجوزية وله كذلك “مدارج السالكين” فذكر فيه مدارج الإغواء، أبدع رحمه الله في التنبيه على خطواتهالتي يستدرج بها الإنسان إلى المعاصي وفصل فيها بإسهاب، وبين كيفية التخلص منه.

سابعا : النفس الأمارة بالسوء، قد تمنع صاحبها من التزكية، وتحبط مقومات التزكية السابقة للإنسان، وهذا النوع من النفس خالف النفس اللوامة والنفس المطمئنة، وقد وصفها الغزالي في إحيائه قائلا : ” المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة ف ي لإنسان.. أو الأصل الجامع للصفات المذمومة في الإنسان” (8) وقال سبحانه : {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} (النازعات : 39-40).

ولها خطر كبير على قلب الإنسان، ومحاسبتها ونهيها عن الهوى  وعن الانقياد للشهوات هو علاجها، لهذا استعاذ رسول الله  من شرها وما يصدر عنها من أفعال،  فقال : ” الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاصي من أتبع نفسه هواها، وتمنى  على  الله الأماني” ( رواه أحمد وغيره)، وقال ابن القيم الجوزية في إغاثة اللهفان : “سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس”(9).

لهذا نبه أهل السلوك كلهم دون خلاف مخالفتها لخطورتها ومداخلها على النفس واتفقوا على أن زجرها ونهيها هو جهاد المسلم فيها لاتقاء المحارم والمعاصي، فهي تعد قاطعة طريق المسلم للوصول إلى الله.

ثامنا : العجب والاستكبار والطغيان، هذا الثالوث المكب للناس في جهنم، هو أخطر الأنواع وأعصاها وأقواها في إحباط تزكية النفس، حيث إن كل واحدة من هذه الصفات الذميمة مرتبطة بعضها ببعض، فالعجب مؤد إلى الاستعلاء وهذا الاستعلاء ذمه الخالق سبحانه وذم المتعالين والمستعلين فقال : {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا}(النمل : 13) وتوعدهم بالخسران المبين، كما وعد الذين لا يبتغون العلو والفساد بحسن الخاتمة فقال : {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوا في الأرض ولا فسادا}(القصص : 83).

أما الاستكبار فيفضي إلى الكفر بما أتت به الرسل والأنبياء، قال سبحانه : {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} (البقرة  : 47)، لأن الاستكبار هو عجب النفس يؤدي إلى الإباء بغير حق، لهذا قال سبحانه : {إلى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوما عالين} (المؤمنون : 34).

فالاستكبار مطية العجب والطغيان مطية الاستكبار، لهذا قال الحق سبحانه : {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا}(الفرقان : 21)،

ومآل أصحاب هذه الخصال القبيحة المحق والدمار في الدنيا، وفي الآخرة العذاب الأليم بالنص القرآني الصريح، قال سبحانه : {فأما ثمود فاهلكوا بالطاغية} (الحاقة : 4) وقال كذلك : {وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما}(النساء  : 172).

فالمسلم مدعو إلى تزكية نفسه بكل الوسائل والطرق المشروعة للوصول إلى أرقى المدارج، بها يدرك الفلاح في الدنيا والنجاة في الأخرة.

——–

1- جامع الترمدي.

2- الجواب الكافي  لابن القيم، 41-42

3- الإحياء ص : 65-66

4- أحمد والترمدي والنساء وابن ماجة/ ومعنى نزع نفسه من المعصية والران وهي الغشاوة التي تعلو القلب كالصدأ.

5- مدارج السالكين، ج 2، ص : 25-26، والآية من سورة النساء : 87.

6-  تفسير القرطبي، ج : 5، ص: 159.

7-  الجواب الكافي لابن القيم، 174.

8- الإحياء، 3/4.

9- إغاثة اللهفان، 1/74.

د. عبد الحميد أسقال

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>