نظرات في مقومات البقاء في الأمة


يعيش المسلم في هذه الأيام -أكثر من أي وقت مضى- شعورا بالخوف على مستقبل هذه الأمة. وذلك نتيجة ما تتعرض له من مكائد ومخططات تهدف إلى استئصالها وسحبها من التاريخ.

ومن هنا تتأكد الحاجة إلى التذكير بمقومات هذه الأمة التي تكفل لها البقاء إلى قيام الساعة، وتمدها بالقوة اللازمة لتحدي العوائق والصعوبات مهما كانت طبيعتها ومهما اشتدت صلابتها.

إن استشعار المسلم للقوة الهائلة الكامنة في هذه الأمة عامل مهم في استعادة الثقة ومقاومة اليأس الزاحف.

وفيما يلي ذكر بعض تلك المقومات عساها تسهم في تحصيل ذلك الشعور، وبالله تعالى التوفيق ومنه سبحانه السداد.

المقوم الأول: ربانية الصياغة

هذه الأمة ربانية في أصل نشأتها، وفي الكيفية التي صيغت بها. فالله تعالى يقول : {كنتم خير أمة أخرجت للناس}(آل عمران 110)، فهي أمة لم تخرج من تلقاء نفسها، بل أُخرِجت! هكذا فعلا متعديا! والمُخرج لها هنا هو الله جل جلاله. ثم إنها ليست أمة أخرجت وحسب، بل هي خير أمة أخرجت للناس!! ذلك بأنها أمة الشهادة على الناس كل الناس! {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}(البقرة 143). فهذا هو أصل نشأة هذه الأمة: إخراجٌ وجعلٌ وخيريةٌ وشهادةٌ!! أفيتصور بعد هذا قوة في الوجود قادرة على استئصال هذا الفعل الإلهي؟؟!

صحيح أنه يمر على الأمة مراحل الضعف والوهن على مدى التاريخ البشري، وربما صارت في ذلك الضعف -رغم كثرتها- إلى الحد الذي تصبح فيه غثاء كغثاء السيل. ولكنها مراحل تمر بإذن الله تعالى؛ لأنه عز وجل بارك في أصل بذرة الأمة، فهي باقية لا يلحقها كيد الكائدين؛ بل لا يزيدها كيدهم إلا ثباتا وعزما وإرادة وإصرارا على تحقيق مقاصد الإسلام العظيمة. هذه البذرة هي التي تنتج الأئمة المجددين، والعلماء العاملين، والدعاة المخلصين، والصالحين المصلحين، والمجاهدين الصامدين.

ولا شك أن السر في خيرية هذه الأمة هو تأسسها على الوحي، هذا الروح الذي سرى فيها أول مرة فبعث فيها الحياة، وجعلها خلقا آخر! {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا}(الشورى : 52)، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة 3)، وهذا الروح خالد لا يفنى لأنه من كلام الله تعالى، وهو في شكله ومضمونه محفوظ لا يقبل تشويها ولا تحريفا ولا غير ذلك مما يلحق كلام البشر. ثم إن هذا الوحي المتمثل في صورة القرآن المجيد الذي هو خاتم الكتب والمهيمن عليها والمستوعب لها، والمصدق لما فيها من الحقائق الناصعة والحِكم النفيسة والحجج القاطعة، هذا الوحي شامل لنظم العقائد والشرائع والأخلاق الكفيلة بتوجيه حياة الإنسان على هذه الأرض حتى تقوم الساعة. بل إن الزمان لا يزيد هذه النظم إلا تأكيدا وقوة. وذلك لما فيها من التوازن والعدلوالرحمة واليسر والدقة. وصدق الله العظيم : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}(فصلت 53).

فالنظام العقدي الإسلامي مثلا يتأسس على إفراد الله تعالى بالعبودية، وهذه الحقيقة لا تزيدها الكشوفات العلمية المتتالية، وتأملات العلماء العقلاء إلا تجليا وتأكيدا. وأما النظام التشريعي فلا شك أن البشرية الآن متشوقة أشد الشوق إلى نظام تشريعي نموذجي يخرجها من شقاءها المتفاقم بكثرة الجرائم والمفاسد والخدع والمكائد. إنها متشوقة إلى نظام يتفاعل فيه ما هو عقدي وما هو خُلُقي وما هو تشريعي، نظامٍ متكامل متوازن، يحبه الجميع ويخضع له الجميع.

المقوم الثاني: توافقها مع الفطرة

كما قال الله عز وجل : {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم..}(الروم 30). ومعنى هذا أن الدعوة إلى هذاالدين هي في الحقيقة تذكير بهذه الفطرة التي هي في كل إنسان، وبناء عليه فالأمة المسلمة لا يتصور زوالها إلا بزوال البشرية كلها. إن هذا التوافق الذي تتميز به هذه الأمة هو الذي يجعلها مفتوحة للتنامي المستمر من حيث يشعر الناس ومن حيث لا يشعرون. فلا يسمع بهذا الدين أحد إلا وتنتفض فيه ذكريات الفطرة المتجذرة فيه، ولذلك كان الكفار يحولون بين الناس وبين سماع القرآن: {وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون}(فصلت 26).

المقوم الثالث: أصالتها التاريخية

وارتباطها بميراث النبوة.

فهذه الأمة ليست طارئة على التاريخ. إنها أمة شريفة في أصلها؛ إذ هي في الحقيقة امتداد للسلسلة الذهبية التي تكونت حلقاتها من الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وأتباعهم المؤمنين : {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}(الأعراف 181). وفي حديث رَسُولِ اللَّهِ  : >لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ<(رواه مسلم في كتاب الإمارة).

إن هذا الامتداد الطويل العميق في التاريخ يؤكد أن الحق الذي تؤمن به هذه الأمة هو أرسخ من أن تناله يدٌ للباطل بالاجتثاث. والتاريخ يؤكد بكل المعطيات أن أهل الباطل -وإن كثروا، وبلغوا من القوة والجبروت ما بلغوا- قد ارتد إليهم كيدهم بالدمار، وانتهوا إلى هلاك وخراب في هذه الدار، وتسلطت عليهم اللعنات تصحبهم إلى دار البوار، وبئس القرار، {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل..}(الصافات 137). {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار..}(إبراهم 25، 26). {وقلجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}(الإسراء 81)، {بل نقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق}(الأنبياء 18).

د. مصطفى فوضيل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>