تزايد الحاجة إلى فقه الدين وآليات تنزيله


في القابلية للنهوض من داخل خيريتنا وشهودنا الحضاري:

لننطلق في الحديث عن هذا الموضوع من حقيقة مفادها أن الأمة الإسلامية، في المرحلة الراهنة على وجه الخصوص، تحتاج المزيد من الممانعة الحضارية حتى تكون قادرة على دفع كل ما من شأنه القضاء على ما تتميز به من خصوصيات وتتمتع به من مميزات في زمن موت القيم والهبوط الخطير لثقافات الأصيلة والعريقة، بعدما استبدت  منظومة الاستكبار العالمي الجديد بزمام قيادة البشرية باتجاهات أفقدت الإنسانية برمتها الصواب الحضاري والرشد الثقافي الذي يحفظ  للإنسانية آدميتها التي تجمع بين الجانب الروحي والجانب المادي.

ففي خضم الشعور المتزايد بهذه الحاجة، يكون الكلام عن التصويب الثقافي للأمة الإسلامية نقطة أساسية لإعادة بناء المكونات الأساسية للشخصية المسلمة، التي افتقدت كثيرا من فعاليتها، وتخلت عن واجبها الرسالي تجاه نفسها أولا والإنسانية ثانيا؛ وهو ما جردها -بالتدريج – من العديد من مقومات الشخصية التي وصفها الله عز وجل بصفتيْ الخيرية والشهادة على الناس؛ فأصبح واقعها مجرد انخراط سلبي في منظومة حضارية عالمية تجبر الضعفاء على تمثل قيم و أفكار وثقافات الأقوياء بما يكفي للإبقاء على حال السكون في عمق الذات، ولا يفسح المجال أمامهم -أي الضعفاء- حتى لمجرد التفكير في ضرورة الاستقلال والتخلص من سيطرة الأقوياء.

وإذا كنا نتفق على أن ما أصابنا من ضعف حضاري متعدد الأسباب؛ فإن الضرورة النقدية تقتضي تعريتها بما يكفي لوضع الأصبع على مكامن الداء قبل وصف الدواء المناسب؛ الشيء الذي يجعل من الحديث عن مكامن الضعف وأسبابه قضية اجتهادية جماعية يتحمل مسؤوليتها كل مثقفي الأمة ومفكريها كل بحسب تخصصه ومجال اهتمامه وآليات فهمه ومعرفته ونقده، حتى تتحقق الرؤية المتكاملة للأشياء؛ لأن الضعف عام والأمة واحدة، والمصابون بهذا المرض الحضاري هم أبناؤها الذين تتقاذفهم أمواج الصراع المذهبي والتخلف الثقافي والجهل بحقيقة هذا الدين وأسباب تنزيله على واقع الناس.

المسلمون ومشكلة التدين:

وقد لا نغالي إن قلنا : إن من أهم ما أصيبت به هذه الأمة، منذ شيوع ثقافة الهبوط الحضاري، ما نلمسه في قضية التعامل مع مشكلة التدين لدى المسلمين؛ إذ أصيبت الأمة بخلل كبير في تدينها بما يكفي لأن يجعلها بعيدة، بنسب تتفاوت بين الفينة والأخرى، عن الهدي الإلاهي الذي نزل على الرسول  ؛ أصبح خلالها القرآن الكريم مجرد تراتيل عند الكثير منا، تتلى في المناسبات، أو مجرد نقوش على لوحة نعلقها على جدران بيوتنا للتزيين؛ في حين يكون المطلوب من المسلم، في كل زمان ومكان، العمل على تنزيل آياته وأحكامه وقيمه على حياته وحياة من حوله، في محاولة لتصحيح العلاقة بخالقه ونفسه ومن يحيط به من مكونات هذا الكون الواسع؛ ،لعل تغييب منهج التنزيل، الذي به تأسست الحضارة الإسلامية الأولى، هو الذي تسبب بنسب كبيرة في فقداننا لبوصلة الطريق الصحيحة، التي بها نعيد لهذه الأمة عزتها وكرامتها وخيريتها وشهودها الحضاري، لا من جهة سيطرتها على منظومات القيم كما يدعي البعض، ولكن من جهة قيادتها للإنسانية بالشكل الذي يعيد لهذه الأخيرة آدميتها، ويعمق فيها الإحساس بضرورة الخروج من بوتقة الصراع مع الذات والطبيعة، والإيمان -بدل ذلك- بضرورة العمل على استثمار ما في هذه الذات من قدرات إبداعية، وما في هذه الطبيعة من معطيات ومكونات متعددة، لعمارة الأرض بما يكفي لبناء حضارة آدمية، سياجها العدل والإخاء والإحسان والتعاون.

مثقفونا وواجب ترشيد الفكر والمنهج:

يتبين -إذن- في سياق ما سلف من كلام أن ثمة رغبة كبيرة في وضع اليد على مكامن الداء الذي ينخر، بشكل خطير، كيان الأمة الثقافي على وجه الخصوص؛ وأن ثمة إلحاحا -كذلك- على ضرورة تصحيح الرؤية بما يكفي لتجديد الثقة في الذات، وتقوية آليات الإبصار الحضاري في هذه الأمة الرسالية.

إنها رغبة وإلحاح متزايد أن فينا -ما دام خطاب الخيرية والشهادة على الناس يحاصرنا من كل جانب-، الشيء الذي يجعل من بحثنا عن مداخل الأزمة وحلولها مقدمة باتجاه ترشيد الفكر الإسلامي المعاصربما يكفي لإعادة تركيب منهج الفهم لدى هذه الأمة التي ضاعت بين استهلاك ثقافة الحواشي وبين ثقافة الاستكبار العالمي الجديد،  مما أفقدها التوازن الثقافي وجردها من حق الإبداع، وقتل فيها روح القابلية للتغيير.

فالمسلمون في حاجة ماسة إلى من يجدد فهمها لحقيقة الدين الإسلامي، فهما يجمع بين فقه ما نزل وفقه التنزيل على واقعهم المسيج بكل عناصر الفتنة الحضارية؛ حتى لا نبقى حبيسي إطار البكاء على تاريخ مضى صنعه رجال حكمت عقولهم روح المبادرة والاجتهاد وصناعة الحياة، أونظل مكتوفي الأيدي أمام قهر ثقافي عالمي يدمر فينا، المرة تلو الأخرى، العناصر الأساسية لمنظومة دفاعنا الثقافي حتى لا تبقى فينا سوى القابلية للاستتباع فتضيع منا خيريتنا وشهودنا الحضاري الذي به نتميز، وعلى أساسه يقوم كيان هويتنا الإسلامية.

في الحاجة إلى فِقْهَيْ ما نزل وكيف يُنزل:

إن مشكلة مشكلاتنا لا تكمن، على وجه الخصوص، في تطبيقنا لخطاب القرآن الكريم وهدي النبوة الشريف، بقدر ما تتجلى في غياب فقه هذا الخطاب والهدي، فقها يستحضر الواقع المعاصر بما يكفي لرؤية الأشياء في كليتها وشموليتها؛ إذ تسببت الرؤية النصفية والتجزيئية لدى العديد من العاملين في حقل الدعوة إلى الله إلى فشل الكثيرمن تجارب الإصلاح والتغيير. فلا يكون إصلاح ما بالناس ولا تغيير ما حل بهم إلا من داخل رؤية تستحضر الواقع المعيش بداخل النص؛ وذلك من أجل الحفاظ على خاصية التوسط والتوازن والواقعية التي هي من أهم خصائص هذا الدين؛ إذ ما أصيب فكرنا الدفاعي إلا بسبب تغيير الواقع العام الذي يعيش بداخله المسلمون، واقع تتصارع فيه الإيديولوجيات والقيم، وتموت فيه الثقافات والعقائد تباعا.

من هنا، كان التأكيد على منهج التدرج في عملية تصحيح مسار حياة أبناء الأمة، الذين فُتنوا في دينهم ودنياهم؛ فلا نتعامل معهم بلغة التكفير والهجرة والتفسيق التي هي من أبرز صفات من اكتسبوا عقلية التهمة؛ ولكن من منطلق إعادة تربية عقولهم على فهم شمولي للإسلام، عقيدة وشريعة، وتصحيح منهج تنزيله على واقعهم بما يكفي لأن يجعله واقعا صحيحا لا معتلا، ومن ثم إفهام الغافلين منهم بأن خطاب الإسلام إلى الناس عامة هو خطاب من أجل العيش خارج دائرة الخيال الحضاري الذي كان من أهم أسباب صراع الثقافات والحضارات.

إنها مرحلة مراجعة لمنهج فهمنا لخطاب القرآن بما يكفي لأن يجعلنا من أولئك الذين قال الله عزوجل فيهم في (سورة الأنعام : 127/126) : {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يَصَّعَّدُ في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون}.

ذ. عبد العزيز انميرات

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>