إن ما يقع على العراق من عدوان غاشم وبغي جاهلي شرس ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة ابتدأت منذ الحروب الصليبية الصريحة مثلما وقع بالأندلس، ثم الحروب المبطنة بالاستعمار والحماية أو الانتداب، ثم حروب التحرير الإسلامية في المشارق والمغارب، ثم الحروب العدوانية بواسطة “عصابة الشر” لاستئصال الفلسطينيين من بلادهم وإحلال القردة والخنازير محلهم، وما تلا ذلك من عدوان 1956 و 1967، ويدخل في ذلك الانقلابات العسكرية التي كانت موصولة بالمخابرات الغربية، وآخر ذلك ما يقع في إفريقيا، والعدوان غير المباشر على السودان باسم الحركة الشعبية ومحاصرته بدول “تقدمية” : إريتيريا وإثيوبيا، ورجعية : أوغندا، ولا ننسى العدوان العراقي نفسه على إيران ثم عدوانه على الكويت، ذلك الفخ الذي نصبته أمريكا لصدام وغدْرها به، ثم عدوانها عليه باسم الأمم المتحدة، ثم هذا العدوان الأخير خارج شرعيتهم الدولية، يضاف إلى ذلك عدوان روسيا على الشيشان وخنقها لدغستان وللجمهوريات الإسلامية الأسيوية وعدوان أرمينيا بدعم من روسيا على أذربيجان واحتلالها إقليم كارباخ، وعدوان الصرب على البوسنة والهرسك الذي ما تزال آلاف جثث المسلمين تكتشف مقابرها الجماعية في تلك البلاد، وإن التآمر العالمي على المسلمين هناك كان علانية، وما زلنا نذكر كلمة فرانسوا ميتران أمام الاشتراكيين الفرنسيين وعبيدهم بالمغرب وغيره بإفريقيا والبلاد الفرانكوفونية إذ قال :
“لا أسمح بقيام دولة إسلامية في قلب أوربا”
ومما نفس به عن بعض حقده : تسليم آلاف المسلمين للذبح على يد الصرب في سربرنتشا.. وما وقع هناك وقع نفسه في ألبانيا وكوسوفو والجبل الأسود ومقدونيا ويقع إلى الآن في ساحل العاج والكونغو والفيلبين وإريتريا وأوغندا، كما وقعت فظائع في سلطنة زنجبار التي ضمت إلى تنزانيا على يد المعلم الراهب : نيريري، ولن ننسى أبدا العدوان الاقتصادي والمالي على أندونيسيا وماليزيا بواسطة اليهودي سوروس، كما لا ننسى إبادة نصف مليون مسلم في كمبوديا وما وقع ويقع في تركستان الشرقية على يد الصين، وما حل ويحل بإخواننا الأبطال في كشمير الذين كادوا يدحرون الجيوش الهندية لولا التدخل العنيف والسريع لأمريكا التي هددت نواز الشريف إذا لم يضغط على المجاهدين الأبطال الكاشميريين في هملايا، حيث انتصروا على الهند انتصارا ساحقا!! ثم أطاحت به في انقلاب عسكري جديد…
إن حلقات العدوان على العالم الإسلامي في إفريقيا وآسيا وأوربا وأمريكا مترابطة قديمة وجديدة، لم تستثن بلدا من بلاد المسلمين، والمعتدون كما ترون من دول مختلفة وأديان متعددة وأجناس متباينة يجمعهم هدف واحد هو العدوان على المسلمين لأن بعضهم أولياء بعض… وقد حذرنا الله من استعدادهم للعدوان علينا دائماً في عدة آيات كقوله تعالى :{إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون}، وقوله تعالى : {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} وقوله تعالى : {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا}.
وليس المشكل هنا، لكن المشكل هو فيما يفرط فيه رعاة المسلمين ومنهم حكام العرب في حق شعوبهم : فقد خان بعضهم “الأمانة” وضيع المسؤولية، إذ ساس قومه بالسياط والإذلال والإرغام وما قصَّر في تقنين القوانين التي تضيق على المسلم وحريته، وتمعن في عبوديته وتبالغ في إهانته، مع إتاحة الفرص أمام كل مختلس أفاك أثيم يفعل من الفساد ما يشاء وقت ما يشاء دون حسيب ولا رقيب. وهناك بلاد لم تتنسم رائحة الكرامة والحرية منذ استلام رعاتهم القساة الغلاظ حكمهم مسوغين ذلك بمقتضيات مناضلة الاستعمار ومحاربة الصهيونية ومكافحة الرجعية وإعداد الشعب لحياة حرة كريمة. وهكذا استطاعوا أن يحققوا “مجتمعات الكراهية” ويسوِّدوا كل منافق، ويقربوا كل إمَّعة استولى الريْن على قلبه لقاء لعاعات دنيوية تافهة. وقد عاشت أجيال في ظل الاستبداد والطغيان وحكم الفرد المؤله المقدس الذي لا يجوز عليه الخطأ ولا النقصان، حتى تعود الناس الإدبار عن الاهتمام بالجماعة وأخلاق الإيثار والتضحية في سبيل الآخر والنصح لأمته والعمل في سبيل مجدها… وارتفعت الأعداد المهاجرة من وطنها إلى الخارج ولا سيما الأدمغة الكبيرة والكفاءات العظيمة والأيدي المتوضئة، وعمّ السخط الجميع وكلما تقدّم الآخرون زاد معظم المسلمين تخلفا وعُمْلَتهم تدهورا واقتصادهم تورُّما وتعقَّدت مشاكلهم الاجتماعية واستَفْحلت أمراضهم الأخلاقية…
إن الكارثة هي أن يُذلَّك قومك، وينتهك حرمتك أقرباؤك ويخونك أمناؤك ويغشك أحبابك ويتآمر عليكحماتك :
لا يُلام الذئب في عُدوانه إن يَكُ الراعي عَدُوّ الغَنم
ولا خير في قوم يكرهون رعاتهم ولا نفع في رعاة يغشون شعوبهم ويخدعون أمتهم ويكذبون على الله وعلى الناس وعلى أنفسهم. لذلك فإن جئت تؤرخ لحلول الكوارث والمآسي والقوارع ببلاد المسلمين وتعلل أسباب ذلك، فابحث في علاقة المجتمع داخل أفراده وعلاقتهم بقياداتهم، فإنك واجدٌ في معظم بلادنا أن ما يحكم تلك العلاقة هو سوء الظن وغياب الثقة وتبادل الكراهية وسيادة الحقد وتبادل التوجس ولا تقدُّم ولا نهضةَ ولا ازدهارَ إذا ما فُقدت الثقة في مجتمع ما…
إن المعتدين المختلفين دينا وملة وجنسًا وجغرافيةً ما كانوا ليجرؤواعلى أي اعتداء على المسلمين لو رأوهم ينعمون بالعدل ويتمسكون بالكرامة وتسودهم الأخوة والمحبة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى… إنهم تجرؤوا علينا بعدما رأوا شيوع الظلم واستحواذ الأنانية وتفرق الكلمة وتناحر الأحزاب والطوائف وشاهدوا أموال المسلمين المنهوبة تتكدس في بنوكهم، وتنصب في جيوبهم وشاهدوا ملايين المسلمين جوعى في بلادهم الخصبة إلا ثلة قليلةً تستأثر بخيرات البلاد وثرواتها الكبيرة. وشاهدوا ملايين المسلمين المحتاجين والناقمين يعانون الأخطار وهم يهاجرون من بلادهم للعمل في الخارج.
لقد جرأناهم علينا بظلم بعضنا بعضا وتمزيق وحدتنا واستيلاء حب الدنيا على الكثير منا وقلة التراحم فيما بيننا وإسناد الأمور إلى غير أهلها وإصرار الأقوياء على إذلال الضعفاء!!
فمتى يا ترى تُساس الشعوب الإسلامية بالعدل وتُقاد بالحق وتحكم بالعفة والنزاهة وتصان حقوقها وتضرب له الأمثال الصالحة بالقدوات الأخلاقية الفاضلة، {أفحكم الجاهلية يَبْغون ومَنْ أحسنُ مِنَ اللّه حُكماً لقومٍ يُوقنون}(المائدة : 50).
سيكون ذلك عندما يتقي رعاة المسلمين ربهم في شعوبهم ويحرصون على صيانة كرامة كل فرد من أفرادها ويكون القوي فيهم ضعيفا حتى يؤخذ منه الحق، والضعيف قويا حتى يؤخذ الحق له مثلما يحرصون الآن على دنياهم ونفوذهم ومصالح أبنائهم ويخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار..فحينئذ لا تستطيع أي قوة في العالم التجرؤ علينا…
وحينئذ يفرح المومنون بنصر الله.