تأتي المسألة الاقتصادية التي تشكل من وجهة نظرنا العمود الفقري للعولمة، حيث حفلت أدبيات العولمة التي تعرضت لهذا الجانب بالكثير من الأفكار عن الحرية الاقتصادية وقيم السوق، حتى غدا البعد الاقتصادي للعولمة الأكثر تداولا بين المفكرين، ونال الاهتمام الأكبر من الباحثين.
ولسائل أن يسأل : ما موقفنا من هذه المسألة؟! ولنا أن نجيبه بموضوعية بأن مبادئ الاقتصاد في الشريعة الإسلامية تحفز اقتصاد السوق وحرية التعامل، ولكن بشرطين موضوعيين اثنين هما : لاربا، ولااحتكار، وقد أسهب الباحثون في الاقتصاد الإسلامي في تبيان ذلك لمن أراد المزيد من الفهم لمبادئ الاقتصاد الإسلامي وكيفية تفعيلها.
إذن : من الناحية النظرية، ليس ثمة ما يعترض طريق المسلمين للتعامل مع منظومة الاقتصاد الحر الذي تسير به محركات مركبة العولمة، مع الالتزام بالشرطين الموضوعيين الذيْن ذكرناهما آنفا.
أما من الناحية العملية المتصلة بالإنتاجية في شتى فروعها، ففي ظننا أننا المسؤولون عن ذلك، وليس الآخرون، أي ما نبذله من جهود في الصناعة والزراعة وغيرها من مقومات الاقتصاد وتحسين الانتاج للمنافسة مع الأمم الأخرى، يرجع مردوده لنا إن بذلنا ما يجب، وزاحمنا غيرنا بإنتاجنا الجيد، ويكون مردوده علينا إن غرقت أسواقنا بإنتاج غيرنا في تعاملنا مع الأمم الأخرى تحت مظلة الجناح الاقتصادي للعولمة وهو منظمة التجارة العالمية.
في العلاقة بين السياسة والاقتصاد
ولأن الاقتصاد لايعمل منفصلا عن السياسة، بات من الواجب الحديث عن العلاقة بينهما.
إذ لا أحد يشك مطلقا في وجود علاقة وثيقة الصلة ومتداخلة بين الاقتصاد والسياسة، وهي علاقة تاريخية وأزلية وإن بدت اليوم في عصر الترويج للعولمةأكثر وضوحا؛ فمن يتابع الحوارات التي تدور في المؤتمرات التي تعقد في أنحاء متفرقة من العالم تحت مظلة التجارة الدولية أو غيرها من المنظمات والمؤسسات الدولية بين الحين والآخر، وما يصاحب تلك المؤتمرات من صخب وضجيج واعتراضات، ومظاهرات ومطالبات.. يستطيع أن يدرك كُنْهَ هذه العلاقة في العصر الحاضر.. عصر العولمة، فالروابط المركبة، والمتعددة، والمتداخلة التي قيدت حركة الاقتصاد بالقرار السياسي، وقيدت السياسة بالقرار الاقتصادي على السواء لم تعد خافية على أحد، ومن الصعب التفريق بينهما في التعاملا ت… ليس بين الدول وحسب، بل وحتى داخل الدولة الواحدة.
أما وأن الأمر اتضح فإن الحقيقة التي يجب أن تدركها جميع شعوب الأرض غنيها وفقيرها، بوعي وبصيرة وموضوعية، هي أن دول العالم آخذة في التداخل فيما بينها في العلاقات الاقتصادية، والتعاون الدولي بصورة تزداد حدة مع مرور الزمن خاصة وانالحدود الدولية المتعارف عليها بين الدول تتجه نحو التقلص تدريجيا أمام تبادل السلع، والخدمات، والاستثمارات من كل حدب وصوب تحت وطأة العولمة الاقتصادية وكنتائج طبيعية لأنظمة التجارة العالمية، وما سوف تفرضه على الدول المنضمة لها من نظم في المستقبل؛ ولامفر لدول العالم من الانضمام إلى تلك المنظمة، ومن ثم الانصياع لأنظمتها.
ولمزيد من مواكبة مسيرة الاقتصاد العالمي وتداخل اقتصاديات الدول بعضها ببعض في طل العولمة، نجد لزاما علينا أن نتبصر في الواقع الاقتصادي العام لأقطار الأمة والاعتراف به :
> فأولا : ندرك جميعا أن الأمة تملك ذخيرة ضخمة ومعينا ثرًّا من المواد الخامة والثروات الطبيعية التي تعتمد عليها وتحتاجها الدول المتقدمة لتُصَنِّعَها وتُعِيدَ تصديرها لدولنا في هيئة منتجات استهلاكية، بينما الصناعات في دول الأمة تتعثر ولاتكاد تبين. والأمر يحتاج إلى مزيد من الحكمة والتبصر في إدارة تلك الموارد بما يوازن بين احتياجات العالم الصناعي لها وتطوير الصناعات الوطنية ونشر الحرفية والادخار للأجيال القادمة.
> وثانيا : نلمس جميعا انخفاض إنتاجية الفرد المسلم مقارنة بصنوانه في الدول المتقدمة، مما يحول دون تنافسهما في الانتاج القومي. ويحتاج هذا الموضوع إلى معالجة أبعاده وتداعياته إن كان من ناحية التدريب والتعليم ورفع الكفاءات أو من ناحية الخطط التنموية وارتباط تنفيذها بالمهام الوطنية في أقطار الأمة وعلاقة كل ذلك بالقدرات البشرية المطلوبة.
> وثالثا : ويرتبط بانخفاض الإنتاجية عند الفرد المسلم انخفاض فعاليته الاجتماعية، ونعني بالفعالية الاجتماعية للفرد قدرته على العطاء المبدع والعمل المنتج بتضحية وإنكار للذات من أجل الأمة والوطن، وهي الطاقة الإنسانية التي تتولد نتيجة وضوح هدف معين يخلق الدافع للإنجاز، وعلاج ذلك يكون في تضمين منظومات التربية والتوعية والإعلام ما يعين على تفعيل قيم الأداء والإنجاز وصدق العطاء، وتعزيز قيم الإخلا ص والجهد والتضحية في النفس المسلمة والتذكير دوما بما زخر به الإسلام من قيم ناصعة وفعاليات قيمة ومبادئ خلاقة للابداع والانجاز.
>ورابعا : نلاحط جميعا وجود بطالة بعضها مقنعة وبعضها مكشوفة في سائر مجتمعات الأمة. فالبطالة المقنعة تظهر حين تتولى قوى بشرية محددة عملا مسند إليها القيام به من الناحية النظرية، فلا ترتقى محصلته الإنتاجية إلى مستوى ما توفر له من قوى بشرية، وهذا لايعني أن القوى لاتستثمر وقتها في الإنتاج كما يجب عليها وكما هو مطلوب منها. أما البطالة المكشوفة فتتمثل في الأعداد الغفيرة التي تملأ الشوارع والطرقات في طول العالم العربي والإسلا مي وعرضه، وتعيش عالة على مجتمعاتها، والبطالة بعامة شر لا بد من استئصاله ما استطاعت الأمة إلى ذلك سبيلا وإلا فلا أقل من تخفيض نسبتها إلى الحدود الدنيا الممكنة من خلال برامج تشارك في إعدادها وتنفيذها جميع قطاعات المجتمع الخاصة منها والعامة على السواء. تحضرني هنا بالمناسبة وصية سيدنا عمر بن الخطاب ] لأحد عماله عندما ولاه. تقـول القصة :
(وقف عمر يودع أحد نوابه على بعض أقاليم الدولة فقال له : ماذا تفعل إذا جاءك سارق؟ فقال أقطع يده، فقال عمر : وإذن فإن جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف يقطع عمر يدك. ياهذا إن الله قد استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم؛ فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناهم شكرها.
ياهذا إن الله خلق الأيدي لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملا التمست في المعصية أعمالا فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.)
العولمة ومنظومة القيم والمبادئ : كيف نواجه قيم العولمة؟!
بقي أن نتعرض الآن لمنظومة القيم والمبادئ المصاحبة للعولمة وكيف نواجهها ولهذا فإننا نسأل في البدء :
هل يصنع كل جيل قيمه لزمانه لتكون وقفا عليه؟! أم أن القيم إرث يتوارثه جيل عن جيل دون أن يهتم أحد بمعرفة كيف نشأت أساسا؟!
… سؤال نضعه أمامنا ونحن بصدد البحث عن الكيفية التي تواجه بها أمتنا قيم العولمة.
… وهو سؤال نجعله مدخلا للحديث عن القيم والمبادئ التي تسود عالم اليوم، وتتحكم بكل ما فيه من صخب، وهدوء ، وضجيج، وسكون، وعبث، والتزام، وفسق، وإيمان.
فعالمنا عالم لا غرابة فيه، ولاعجب منه. وإن يبدو في نظر البعض بغير ذلك، فإن جبت دنياه رأيت فيها الأطياف المتناقضة من بني البشر الذين يختلفون في التزامهم بالقيم والمبادئ السائدة في مجمتمعاتهم باختلاف خلفياتهم العقائدية، والاجتماعية، والفكرية، والثقافية.
فمن مؤمن، متعبد، متبتل، منصرف إلى ربه بكل جوارحه، معتدل في حياته، متوازن في معاشه، ملتزم في أخلا قه، راشد في سيره، صادق في تعامله… يعيش يومه، ويعمل لما بعد الموت؛ تراه وقد اكتست أخلاقه بالحسن والجمال، وعلت وجهه سمات السماحة والطهر، وغمرت فؤاده الطمأنينة والسكينة..
تلمس في سلوكه الرقي، وفي تعامله الحضارة، وفي علاقاته طيب المعشر، فهو إذن مثال للانسان الملتزم الواعي؛
وفاسد منغمس في شهواته، منقاد إلى ذاته، منصاع لأهوائه، تتحكم فيه رغباته.. يعيش يومه ولا يفكر في غده، ترى العبوس يكسو وجهه، والقلق يسيطر على نفسه، واللهفة تبدو في عينيه؛ فمهما امتلك لايقنع، ومهما أخذ لا يشبع.. تراه يلهث خلف الدنيا فلا يرتاح، ويجري خلف سرابها فلا يستكين، ويركن إلى بريقها فلا يستفيق، وينخدع بتبهرجها فلا يهدأ؛ فهو إذن مثال للإنسان غير الملتزم، وغائب الضمير.
وسوف تجد في ذات المجتمعات البشرية في طول الدنيا وعرضها أطيافا متعددة الألوان، والمشارب، والصفات بين هذا وذاك، ومن غير هذا وذاك، !!
ولسنا ندعي معرفة أي معايير تتحكم في تصرفات البشر، ولامدى التزامهم بالقيم والمبادئ التي تحكم مجتمعاتهم وتتحكم فيها؛ ولكننا نقر بحقيقة نؤمن بها وهي أن الأديان السماوية تبقى المصدر الأول والأساس للقيم والمبادئ التي تحكم المجتمعات الإنسانية، وتتحكم في تصرفات سكان الأرض؛ لتأتي بعدها التقاليد الصالحة والعادات النافعة الخاصة بكل مجتمع، التي لاتتعارض بالضرورة مع العقيدة التي يدين لها المجتمع ويؤمن بها، وكذا الفلسفات البشرية؛ لتتشكل من كل تلك المصادر مجموعة النظم الأخلاقية التي يلتزم بها المجتمع، ويتعامل أفراده بموجبها، ويتحركون في إطارها.
.. نحن بهذا القول لانجحد ما تقوم به النظم التربوية والتعليمية من تربية وتعليم وتهذيب وإرشاد للنشء، ولاننكر ما تؤديه الثقافة ومكوناتها من أدوار هامة في التوجيه والتثقيف، ولاندحض ما تقوم به منظومة الفنون بتعدد مصادرها ومناهلها من ارتقاء بالنفس البشرية إلى مدارج سامية، ومراتب عالية من الخيال المجنح، والإدراك المبصر؛ لكننا نظل نؤمن بأن النظم الأخلاقية المنبثقة من العقائد السماوية هي في الأساس المنهل العذب، والنبع الصافي الذي تورد منه المعايير التي ترتقي بالروح والنفس معا.
ومع ا لانفتاح الواسع الذي تعيشه الإنسانية اليوم على عوالم الماديات، واللهو والمجون، ظهر الفساد في الأرض بما كسبت أيدي الناس، وواكب ذلك اتساع رقعة التفسخ، وانتشار سبل الخلاعة، وتعدد وسائل الانحلال، فتوارى الخجل، وانتزع الحياء، وغابت العفة عن دنيا الناس في بقاع من أرض الله الواسعة.
فأصبح الاسترشاد بضياء الحق، ونور اليقين، والتمسك بالفضيلة،و الالتزام بالخلق الرفيع، واتباع وسائل الرشاد، والبحث عن دواع الخير، والاستزادة من نوازع البر، من أكثر الأمور إلحاحا في الطلب من إنسان اليوم السوي، وغدت في ذات الوقت من أعظم التحديات التي تواجهه في حياته مع ذاته وفي تعامله مع غيره.
لقد انغمست الإنسانية في تيه متعاظم يبعدها عن الرشاد يوما عن يوم بتسارع عجيب مما يفرض على العقلاء البحث عن مخارج للأزمات الأخلاقية التي رزئت بها منذ أن تدثر عالم الروح وتوارى تعجبا من جحود كثير من الناس لرسالة السماء، واختفت قيم الحق، والخير، والبر، والعدل (أو كادت) عن دنيا كثير من الناس استحياء من إمعانهم في تحكيم أهوائهم، وإصرارهم على السير بتصرفاتهم بعيدا عن طريق الله المستقيم.
والعقلاء المتمسكون بالثوابت الإيمانية الذين يخشون الله، ويخافون مكره، ويتقون محارمه هم الأقرب لضياء الحق، ونور اليقين؛ وهم الأكثر التصاقا بالقيم الرفيعة والمبادئ السامية المنبثقة من هدى الله؛ ولذلك فهم وحدهم دون سواهم القادرون على قيادة البشرية إلى بر الأمان بالحق والعدل ومكارم الأخلاق.
ولأن عقيدتنا غنية بذلك وأكثر من ذلك، فلا خوف على أمتنا من قيم العولمة إذا نحن أدينا واجباتنا نحو الفرد المسلم تربية وتوعية وتمسكا بمنظومة الأخلاق الإسلامية في مجتمعاتنا العديدة بعيدا عن الغلو والانغلاق، وقريبا من السماحة والاستبشار من خلال البيت والمدرسة والمسجد والقدوة الصالحة.
خاتمة
وفي الختام نوجز القول في كلمات :
- نحن من حيث المبدأ مع العولمة بمقاييس ديننا الذي يحض على الانفتاح على الانسانية والتبشير بالعالمية والدعوة إلى الكونية إن كانت ملتزمة بالحق والعدل والخير، فالإسلام ظاهرة كونية ودعوته عالمية.
أما إن كانت العولمة كما يصفونها لا تغدو عن كونها دعوة للهيمنة وتيارا للسيطرة يسيره الأقوياء من خلال اتجاهات معروفة وتوجهات محددة سلفا ليدخلوا به الضعفاء الذين لاينصاعون لهم إلى دوامات متتالية وأزمات متعاقبة تعرضهم للظلم والتدمير، فإننا أبرياء من هذه الدعوة ولن نكون معها.
- إن في تنشيط قيمنا وتفعيل مبادئنا وتقوية ذواتنا في مختلف حقول العولمة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية ما يعين أمتنا على التعامل مع العولمة من موقف القدرة والإيجابية والندية.
- لابد من الاتسام بالرفق وارتفاق الحكمة والتسلح بالذاتية للتكيف مع توجهات العولمة الإيجابية، وعلى الأمة الإسلامية بدولها وشعوبها وهي تتكيف مع العولمة أن لاتفرط في ثوابت عقيدتها وقيم ومبادئ دينها.