نِحْلَةُ الأدب الحسن: أسلوب للحياة ومنهج تربية وبرنامج تعليم


لقد أخرج الرسول  اللغة من التعامل الضيق إلى أفق أرحب وأوسع ومن التعابير الأرضية إلى ماهو أسمى وأرقى , وأنشأ مفاهيم لم تعرف, وضمنها معاني لم ترق إليها مدارك وعقول الناس من قبل ومن بعد، وبذلك نقل اللغة من التعامل مع اللفظ المفرد إلى التعامل مع المفهوم والمصطلح، ومن ذلك مفهوم الأدب الحسن الذي لم يقتصر لديه صلى الله عليه وسلم على ما تعارف عليه الناس من شهامة وكرم وشجاعة ولكنه اتخذ بعدا معرفيا جديدا فتح آفاقا للعلم والتربية ماتزال العقول تكرع منه وتنهل, هذا المفهوم قد غطت على أبعاده التربوية والاجتماعية عاديات من الزمن ، هذه المقالة تنطلق من حديث الرسول  ” ما نحل والد ولداً من نحل أفضل من أدب حسن”, والأدب الحسن بمفهوم الرسول هو جوهر الرسالة ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ويدخل فيها الصلاح كله, والخير كله, والدين والفضل والمروءة والاحسان، فذلك ما بعثه الله ليتمه.

والأدب الحسن هو ما نحن بحاجة إليه, بل نحن أحوج ما نكون إليه اليوم، لأن الشريعة والتعليم أضحت من مواضيع الصراع الحضاري في زمننا هذا، وإذا أرادت الامة جيلا قويا في أخلا قه وثوابته وصادقا في نياته  وعمله فعليها بتربيته التربية التي تقوم على  مبدأ الادب الحسن كما حدده رسول الله.

نص الحديث:

روى الامام الترمذي- واللفظ له- عن ابن عمرو بن سعيد بن العاص عن رسول الله  قال : ” مانحل والد ولداً من نحل أفضل من أدب حسن” (أبواب البر والصلة) باب ماجاء في أدب الولد.

المعنى الإجمالي:

الأدب الحسن يراد به في هذا الحديث كل ما يجمل بالمؤمن أن يعتقده ويعلمه ويعمله.

والأدب الحسن كلمة جامعة لما ينبغي أن يعلم الأولاد أنه منهج تعليم وبرنامج  تربية على مستوى العقيدة والشريعة وآداب السلوك والصحبة. وكل ما خالف فليس من الادب الحسن في شئ. وصدق الرسول  حين قال : ” أدبني ربي فأحسن تأديبي” (1) ” وأدب الله له لن يكون إلا حسنا فهو  يرغب الآباء ويحثهم على أن يعلموا أبناءهم الأدب الحسن وذلك في حكم الواجب، فما دام ” كل راع مسؤول عن رعيته”(2) فمما سيسأل عنه الآباء يوم القيامة تعليم أولا دهم الأدب الحسن.

تحليل الحديث:

قد ينحل الاب ولده كل ما تشتهي الأنفس، لكنه يحيد عن الفطرة إذا هو لم ينحله أدبا حسنا بجانب ما يشتهي أن ينحله.

1- فإذا لم يعرف الوالد ولده با لله عقيدة وسلوكا فمن يعرفه به؟

2- وإذا لم يره في سلامة الناس من يده ولسانه واجبا دينيا فمن يره ذلك الواجب؟

3- وإذا لم ينحله أدب الاحسان إلى الوالدين والقرابة والجيران فمن ينحله ذلك؟ ومن ياخذه به؟

4- وإذا أتته النعمة فكيف يحسن شكرها؟ وإذا لم يرب على شكر من أنعم عليه وتفضل، من يربيه على  ذلك؟

5- وإذا أتته المصائب والشدائد متتالية متوالية فذهبت بالمال والأنفس والثمرات ماذا يفعل؟ وماذا يفعل أيضا حين تشتد الأوجاع والاسقام, ويتوالى الفشل والاخفاق؟.

هنا فقط وفي مثل هذه الأحوال تأتي نحلة الأدب طائعة تفعل فعلها في نفس صاحبها, وفعلها لايبتدئ من آخر لحظة من العمر أو في مرحلة الشباب وإنما يبتدئ, فعلها عندما يكون صبيا، لأن الحقائق إذا انفعلت بالنفس وامتزجت بها صارت لها عادة ولباسا تواري به سوءات الدنيا والناس, وبه تواجه بعضا من تقلباتهما وتغير أحوالهما فلا ينالا ن منه, لأن له زادا من الادب لمثل هذه المواقف سواء كانت مفرحة أومحزنة سراء أو ضراء, فذلك كله لن ينال منه شيئا, وغاية الأدب ” يتمثل بعض منها فيما أوصى به لقمان ولده:

{يابني: لاتشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}

{يابني : أقم الصلاة , وامر بالمعروف وانْهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولاتُصَاعِرْ خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لايحب كل مختال فخور}(لقمان : 13- 18)

والأدب الحسن في الحديث نكرة في سياق النفي يشمل كل ما يؤدب النفس والعقل والجسم والحواس, وكل ما يهذب الفطرة والذوق, ليكن القرآن والسيرة وليكن العلم والفن, والرياضة والصناعة, ليكن وسيلة الكسب والاتجار وأدب معاملة الناس ومخالطتهم، ليكن هذا الادب ما شاء الله أن يكون، لكن الذي أعلمه وأتيقنه أنه لن يكون أدبا إلا إذا تشبع الولد بذلك وارتاض عليه, وإلا إذا وعى الولد في بيته ومدرسته كل ذلك, وحفظه ممن يحفظ عنهم مثل ذلك, وإ لا إذا بذل الولد غاية الجهد في التحصيل والإدراك, والمداومة والاستمرار وقوبل بالإشراف والتوجيه والرعاية.

إن الأدب الحسن يراد به الثوابت غير القابلة للتغيير أو التبديل والتي تحفظ لصاحبه شخصيته ومقوماته فلا تنال منه رياح التغيير شيئا. وأثر عن بعض الحكماء قوله ” أريد أن تهب على بيتي ثقافاتكل الأمم ولكن أنكر على أي منها أن تقتلعني  من أقدامي”.

إن نحل الأدب الحسن هنا فقط يقف شامخا متعاليا أنُوفًا لأنه حصن ولأنه وِجَاء وجُنَّة وما عند أولئك شئ من ذلك لأنهم لايعلمون إلا ظاهرا من الحياة والعلم, ولهذا فشلت المعرفة المادية كما فشلت الحضارة المادية في إنقاذ البشرية مما هي فيه من ويلات وثبور وتطاحن وتقتيل وضلال وعمى, إن الأدب الحسن هو المنقذ من الضلال.

ومهما استعنا بخبراء المعرفة وتقنيي التخطيط ومهندسي المستقبليات، ومهما أمعنوا النظر وأطالوا التفكير وابتدعوا من المناهج فلن يدركوا كُنْهَ المشكل ولن يصلوا فيه إلى قرار صائب, لأن أفكارهم وخبراتهم التصقت بالأرض وهي عاجزة عن أن تحلق في آفاق الحياة البعيدة، وصار أهلها يظنون أنهم قد بلغوا من العلم ما يجعلهم ينكرون كل علم ليس  على غرار علمهم, كما ينكرون كل منهج ليس على غرار منهجهم والتوسع في تحليل موقفهم واتجاههم هذا جعلهم ينكرون كل وحي من السماء أو سنة نبي وهذا في حقيقة الأمر, هو جوهر المشكل، وهنا تتجلى لنا إشراقة الادب الحسن ونِحْلة الأدب الحسن.

إن قول الرسول  : ” ما نحل والد ولده من نحل أفضل من أدب حسن”

أسلوب للحياة

ومنهج تربية وبرنامج تعليم

إنه شعار دين الاسلام.

هذا, وإن الرسول نبهنا على أمر قد يعزب عن بال بعض الناس وهو أن تربية الولد مقدمة على كل معروف أو صدقة يقول  ” لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع (3) والمعاني التي يدل عليها الحديث مما يجب أن يقف عندها كل أب وأم على السواء، فتربية الولد على الأدب الحسن تَفْضُلُ كلَّ أجر، هي الأجر الذي لاينتهي والثواب الذي لاينقطع، إن التربية هي الأجر الممدود الذي لن يحاكيه أجر آخر.

وبعد:

فمهما بحثنا عن نموذج حي يمثل هذا الأدب  أسمى تمثيل, ويُفَعِّله أرقى تفعيل حتى يصير دثارا لن نجد أجمل ولا أرقى ولا أفضل مما حكاه الرسول  عن النفر الثلاثة (أصحاب الغار)(5) إنهم النموذج الذي يقدم صورة متكاملة للأدب الحسن في السلوك والمواقف والمراقبة والمشاهدة ومغالبة النفس والفداء والتضحية والايثار, والأمانة والرعاية والبرور والصبر والعمل الصالح, بل إنك واجد في هذه القصة ما شئت من المعاني تصريحا أو إشارة أصلا أو تبعا نصا أو تضمنا لاأنصح بان تقرأ هذه القصة فقط, ولكني أنصح بأن تحفظ, وبأن تكتب بحروف بارزة وجميلة وتعلق على أبواب الادارة وقارعة الطرق وفي قاعات الدرس والاستراحة, وأن تصير دستورا لمربينا وتعويذة لشبابنا وشاباتنا, إن فيها كل ما نريد من الفضائل والمكارم.

إنه الأدب المحكوم عليه بالاستمرار والدوام، فلن تتغير صورته بتغير الأزمان أو تبدل الاحوال أو تعاقب الحضارات، لأنه أدب يحفظ حق الأصول والفروع، والحق في الكرامة والتكريم كما يحفظ حق الاجير ويزكي عمل الامين. وحين تغيب شمس الادبالحس عن الدنيا ويتخلى  أهل الارض عنه فعلى  البشرية السلام.

ولعل خير ما نختم به هذه المقالة هو قصة أصحاب الغار الثلاثة فقد أخرج الامام مسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله  أنه قال : بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم. فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم.

فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية أرعى عليهم فإذا ارحت عليهم (إذا رددت الماشية في المراعي إليهم والى موضع مبيتها وهو مراحها) حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني وأنه نأى بي (بعد المراعى) ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أو قظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون (يصيحون ويستغيثون من الجوع) عند قدمى فلم يزل ذلك دأبي حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم.

قال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق ارز ( إناء يسع ثلاثة أصاع الارز) فلما قضى عمله قال اعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها فجاءني فقال اتق الله ولاتظلمني حقي قلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال اتق الله ولاتستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعاءها فاخذه فذهب به فإن كنت تعلم إني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقي.

الهوامش

(1) ن كنز العمال: 91895, كشف الخفا 1/92

(2- 3) أخرجه الامام الترمذي في سننه في أبواب البر والصلة باب ماجاء في أدب الولد.

(4) أخرجه الامام مسلم في كتاب الرقاق باب قصة أصحاب الغار.

ذ. محمد علوي بنصر

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>