نسـاء فـي رحاب الهجـرة


المقدمة:

تزامنا مع الظروف الخاصة للمرأة، التي تشهد هذه الأيام اليوم العالمي للمرأة، وفي الوقت الذي يتحدث فيه الكثير عن ضرورة مراجعة القوانين الشرعية، وفي الوقت الذي تكثر فيه الهجرة إلى الغرب فكريا ويقع فيه المسخ الخلقي ومحاولة مصادرة أخلاق الإسلام، في هذا الوقت بالذات نحتاج إلى مراجعة الصورة التي يقدمها الإسلام للمرأة، لنقف على حجم المهام الموكولة لها في الإسلام، ولنعرف إلى أي حد تناغمت المرأة وانسجمت مع دعوتها إلى التحرر التي نادى بها الإسلام، ومدى مساهمتها في إنجاز تلك الدعوة. ومدى تحررها من قيود التخلف والتحجر والحجر والحيف.

لأجل ذلك، لا بد من أن نسجل حضورَ المرأة ومواكبتَها الدعوة الإسلامية منذ بداية نزول الوحي على رسول الله ، وخاصة أثناء الهجرة.

لقد قدمت المرأة المسلمة المؤمنة أروع الأمثلة على التضحية بالغالي والنفيس من أجل هذا الدين. فقد كانت أول من أعلم الرسول عليه السلام، بقرار قريش عزمهم قتل النبي عليه السلام، كما أنها كانت أول من وقف عمليا للإمداد والتمويل ، إلى جانب أنها شاركت إلى جانب أخيها وأبيها وزوجها وكافة المؤمنين في الهجرة. كما أنها لاقت أثناء الهجرة من أصناف التعذيب والتنكيل من الكفر ورموزه، ما لاقاه الرجل وأحيانا كثيرة أكثر. فقد ابتليت بعض النسوة من المهاجرات بما لم يصب به العديد من المؤمنين الرجال فرضي الله عنهم أجمعين.

نماذج نسائية:

1- رقيقة بنت صيفي بن هاشم:

رقيقة بنت صيفي بن هاشم أول من أخبرت الرسول ، بتدبير قريش في دار الندوة، أمر قتله ، بأيدي أربعين شابا من أربعين بطنا من بطون قريش حتى يتفرق دمه بين القبائل(1).

أ- يتصور الكثير من الناس، وخاصة النساء، أن مهمة الخروج والتحرك وجس النبض من أجل الإبلاغ بالقضايا التي تهم الأمة وقيادتها، والتي تكون محفوفة بالمخاطر، هي مهمة مقصورة على الرجال فقط. ورقيقة قدمت هذا المثل الحي على الغيرة الحقيقية إذ قامت بنفسها بالإبلاغ.

ب- كما جرت العادة عند الناس، أن المرأة إذا سمعت أخبارا تتعلق بالقتل والمضايقات وغيرها من ممارسات العنف، تخاف وتستر الخبر، وخاصة إذا لم يتعلق بواحد من أهلها كآبائها أو أبنائها أو أخوتها. بل وتحاول أن تثبط حتى زوجها وترهبه كي لا ينقل الخبر ولا يتدخل فيما لا “يعنيه” لكننا هنا مع شخصية رقيقة بنت صيفي فالأمر مختلف. إنها قوة الإيمان  التي تغير الإنسان رأسا على عقب، وينتقل الإنسان من لا شيء إلى كل شيء.

ج- لقد كان بإمكان هذه المرأة أن تُبَلِّغ الخبرَ إلى زوجها أو أحد أبنائها أو أقاربها من الرجال، فيخرجون لإبلاغ الرسول. ولكنها لم تفعل، لأن أي أحد من الرجال قد يضعف إيمانه ويخاف على نفسه، سواء كان زوجا أو ابنا أو أي رجل قريب، ولن يصل الخبر إلى رسول الله عليه السلام، وسيكون الأمر قد قضي. لذلك فإن خوفها على النبي عليه السلام، وخوفها على الدين الذي جاء به، جعلاها تأبى إلا أن تخرج بنفسها إلى الرسول عليه السلام لتطمئن على وصول الخبر إليه، حتى يعد نفسه،

2- أسماء بنت أبي بكر الصديق:

وهي أول من قامت بمهمة الإمداد والتموين. فقد كانت تحمل الزاد إلى النبي ، وإلى أبيها أبي بكر الصديق، في الغار(2). ثم هاجرت وهي حامل، ثم ولدت ابنها عبد الله بن الزبير، فكان أول مولود يولد في الإسلام بعد الهجرة(3).

أ- إن المهمة التي قامت بها أسماء رضي الله عنها، أخطر من المهمة التي أنجزتها رقيقة بنت صيفي. هذه المهمة الجديدة تعرضها مباشرة إلى الخطر الجسدي. فإذا أضفنا إلى متاعب ثقل المؤونة، ثقل الحمل، فإننا سنكون، بالتأكيد، أمام امرأة من الفولاذ، امرأة من صناعة الإسلام وحده.

ب- إن هذا الأمر لو عرض اليوم على رجل قوي في بدنه، لما قبل القيام به، ولفضل أن لا يعرض نفسه للمغامرة تحت حجة، قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة).

3- زينب بنت رسول الله  :

روى الطبراني عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما، أن رجلا أقبل بزينب رضي الله عنها، بنت رسول الله ، فلحقه رجلان من قريش فقاتلاه حتى غلباه عليها فدفعاها، فوقعت على صخرة فأسقطت وهريقت دما، فذهبوا بها إلى أبي سفيان، فجاءته نساء بني هاشم فدفعها إليهن. ثم جاءت بعد ذلك مهاجرة، فلم تزل وجعة حتى ماتت من ذلك الوجع. فكانوا يرون أنها شهيدة(4).

أ- زينب نموذج للمرأة التي لا تختفي خلف قيادة أبيها رسول الله عليه السلام للأمة، لتنعم وتأكل وتشرب وتخرج للسياحة، وتعيش عالة عليه وعلى أموال المسلمين. بل قدمت بنفسها النموذج الأكبر والرائع الذي لا ترقى إليه امرأة أخرى. وأكدت للنساء أن أمر هذا الإسلام العظيم يستحق أن يضحي من أجله أفضل البشر رسول الله عليه السلام وكذلك آل بيته. وليست قرابتها من رسول الله مانعة لها من الاستشهاد في سبيل الله والتضحية بجنينها، ثم بنفسها بعد ذلك، بعدما كابدت وصارعت رضي الله عنها الآلام التي أصيبت بها أثناء الهجرة حتى لقيت الله عز وجل وهو راض عنها، ورسول الله راض عنها.

4- أم سلمة بنت أمية بن المغيرة :

أرادت الخروج للهجرة مع زوجها أبي سلمة، فرحَّل لأم سلمة بعيرها وحمل معها ابنها سلمة. فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فأخذوا منه البعير والغلام، وحبسوا أم سلمة. فانطلق أبو سلمة وحده مهاجرا إلى المدينة.

لقد منعها أهلها من مصاحبة زوجها في الهجرة. ثم حيل بينها وبين ابنها وبين زوجها. وكانت أم سلمة تخرج كل غداة، فتجلس بالأبطح (وهو المكان الذي منعت فيه من مصاحبة زوجها) تبكي، حتى مضت سنة أو ما يقاربها. ومر رجل من بني عمها فرأى ما بها فرحمها وردوا عليها ابنها وقالوا لها: التحقي بزوجك إن شئت(5).

أ- أم سلمة من بين أكثر النساء تعرضا للأذى خلال هجرتها. وهي بذلك أكبر شاهد على إرهاب الكفر وعدم رحمته لا بالنساء ولا بالأطفال. أم سلمة تشهد بأن القرابة والإنسانية لا مكان لهما في قاموس الكفر. لقد حَرَمَها الكفر من مصاحبة زوجها، بل حرمها حتى من البقاء مع ابنها.

ب- لا شك أن هذه المرأة تثبت ثبات المرأة وصمودها وتعاطفها مع دينها وأهل دينها، ووقوفها إلى جانب الرسول الأعظم عليه السلام مهما كانت الظروف. حتى ولو حرمت من زوجها وابنها. إنها لم تجد رضي الله عنها شيئا تفعله سوى أنها تتوجه إلى الله تعالى بالبكاء.

ج- إنهم لم يرحموها ما يقارب السنة. ثبتت حتى أتى الله بالفرج.

د- بعد أن سمح لها بالمغادرة، لم تتوانى أم سلمة رضي الله عنها، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بزوجها، وهي وحيدة مع ابنها، إذ لم يلحق بها عثمان بن طلحة إلا بعد،. إنها قوة الإيمان بالله تعالى، وحب نبيه عليه السلام، إنه الرسوخ في العقيدة، الذي ينبغي أن يبعث في هذا الجيل أيضا، إنه اليقين في الله تعالى بأنه ناصر المؤمنين.

5- بركة أم أيمن رضي الله عنها:

بركة أم أيمن رضي الله عنها، هاجرت من مكة إلى المدينة وحدها، سائرة على قدميها. وكانت من النساء المجاهدات. وقد اشتد بها العطش في الصحراء الحارقة القاحلة. وبعد أن نفذ ما معها من ماء رأت دلوا من السماء فشربت منه. لقد تحدت قوة قريش بمفردها، فخرجت أمام أعينهم مهاجرة إلى الله ورسوله(6).

أ- إذا كانت أم سلمة قد اصطحبت ابنها في هجرتها، وفيه نوع من الأنس لها، ثم خرجت على راحلتها، وبعد ذلك رافقها عثمان بن طلحة، فإن بركة أم أيمن رضي الله عنها، حدث لها العكس تماما. إذ خرجت وحيدة، وعلى قدميها.

ب- فماذا تكون هذه القوة التي يمكن أن تدفع امرأة منفردة لكي تتحدى الكفر وأهله علانية مثل هذا التحدي، إن لم تكن قوة الإيمان بالحق سبحانه، والتصديق الجازم بصدق رسالة محمد عليه السلام، والتعلق التام بهما؟ إن هذه القوة اجتمعت في أم أيمن وحدها رضي الله عنها، لتجعل منها جبلا شامخا لا يأبه بالصحراء القاحلة ولا بمخاطرها، وتجعل منها أسدا لا يروعه الخروج دون زاد فالله يطعمه ويسقيه، وتجعل منها بطلا لا يهاب وحوش الصحراء وجوارحها.

ج- إن هذه المغامرة فوق طاقة الرجال، إلا من رحم ربك. ولذلك وبعد أن أخذت بالأسباب، وبعد أن نفذ ما كان معها من ماء، وصلها المدد من رب السماء، تروي ظمأها، وتشفي غليلها بمعجزة منه سبحانه، وتتزود للاستمرار في الطريق.

6- درة بنت أبي لهب رضي الله عنها :

أخرج الطبراني عن ابن عمر وأبي هريرة وعمار بن ياسر رضي الله عنه قالوا: قدمت درة بنت أبي لهب رضي الله عنها مهاجرة. فنزلت دار رافع بن المعلي(7) الزرقي رضي الله عنه، فقال لها نسوة جلسن(8) إليها من بني زريق: أنت بنت أبي لهب الذي قال الله فيه: (تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب) (9)؟ ما يغني عنك مهاجر.

فأتت درة النبي صلى الله عليه وسلم، فشكت إليه ما قلن لها. فسكَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اجلسي)، ثم صلى بالناس الظهر. وجلس على المنبر ساعة وقال: (يا أيها الناس! ما لي أوذى في أهلي، فو الله! إن شفاعتي لتنال حي حا وحكم وصدا وسلهب يوم القيامة)(10).  وهذه أسماء قبائل. والمقصود أن شفاعته عليه السلام، ستنالها وإن كانت أقرب الناس إلى أبي لهب.

أ- درة بنت أبي لهب هي نموذج للمرأة التي حررها الإسلام من قرابة الدم. وجعلها تؤمن بأن قرابة الدين والعقيدة، التي بعث بها الأنبياء، فوق كل القرابات وفوق كل الاعتبارات. هذه البطلة تشهد على كل أولئك الذين يرتبطون بآبائهم وحتى بأراضيهم وبأموالهم، أو أبنائهم، ويفضلونها على اتباع هدي رسول الله، المبعوث من الحق سبحانه. درة رضي الله عنها قررت أن لا تنحاز إلى عدو الله، وإن كان والدها الذي تولى تربيتها ورعايتها. هذه المرأة لم تقرر القطيعة مع أبيها لأنها تريد التنكر للرعاية والعناية، بل قررت القطيعة مع أولئك الذي أرادوا الاستمرار في سياسة وأد البنت البريئة، أولئك الذين بلغوا درجة من السفاهة حتى صاروا يعبدون ما يصنعونه بأيديهم.

ب- درة نموذج للمرأة التي قررت الانخراط في صف النبي عليه السلام، لعبادة الله وحده، حتى وإن كان ذلك على حساب قرابتها، بل حتى ولو لا حقها عار أبيها، وهي في الهجرة، من طرف بعض النساء.

ج- إن السُّبَّةَ التي وجهتها لها النسوة، لم تجعلها تتراجع عن الإسلام. بل العكس هو الذي حدث. فقد هرعت إلى نبي الله عليه السلام خير البشر، فحكمته فيمن عيرنها بأبيها. إنه لو قدر لأحد اليوم، أن يتعاون على الخير في سبيل لله عز وجل مع بعض المؤمنين، ثم سمع من أحدهم كلمة نابية جارحة، لترك العمل كله على الفور، ولتراجع عن الإيمان والإسلام نفسه. مما لم تفعله درة بنت أبي لهب رضي الله عنها.

خاتمــة:

أ- دعوة : ندعو من هذا المنبر، أولئك  الغيورين على الإسلام، من المنتمين إلى الحقل الفني السينمائي، إلى إنجاز فيلم ثان للرسالة بطبعة جديدة، وببصمات نسائية كما وردت في كتب السيرة النبوية والتراجم. وسيكون هذا العمل إن شاء الله أروع ما يمكن أن يقدم للإسلام في هذه الحقبة التاريخية الحرجة التي تمر بها المرأة المسلمة، لأنه سيظهر الصورة الحقيقية والجذابة للمرأة في الإسلام.

ب- هذه هي المرأة التي كانت تقتل من طرف أبيها قبل الإسلام خشية العار. إنها تساهم بقوة، وتبصم بأصابعها العشرة في المنعرج التاريخي الكبير الذي شهده الإسلام، والذي غير وجه التاريخ بشكل لم يسبق له مثيل وهو حادثة الهجرة النبوية.

ج- إن حظ المرأة في الهجرة بارز ثابت لا ينازعها فيه أحد. وإن البلوى في الهجرة كما حلت بالرجال، فإنها طالت النساء أيضا. فأين الحديث عن صوت المرأة عورة، وحديث أن المرأة خلقت للبقاء في البيت فقط، وأن خدمة الإسلام أمر يخص الرجال. إن الكون خلق للإعمار من الطرفين النساء والرجال.

د- ليس المطلوب اليوم الخروج وتحمل متاعب الهجرة كما تحملها السلف عليهم الرضوان، لأن هؤلاء الأوائل قاموا بهذا النوع من الهجرة، إنما المطلوب، اليوم، الهجرة بالروح والجوارح والعقل والأخلاق والسلوك، إلى التعاليم والآداب التي خلفها رسول الله عليه السلام. المطلوب هو المزيد من الغيرة على هذا الدين الذي أرسل محمد عليه السلام به.

هـ- أخواتي، حتى لا نخون أولئك اللواتي هاجرن وقدمن الغالي والنفيس، حتى استقام عود الإسلام وقويت شوكته، لا بد من الهجرة إلى الله، أن نهاجر إلى الله كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري، والذي يقول فيه رسول الله عليه السلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما نهاه الله). وبهذا لن يفوتنا فضل الهجرة، وسنفوز، إن شاء الله، بما فاز به أولئك الذي سهَّلوا وصول الإسلام إلينا.

ذة. نجـاة المديـونـي

—————-

1-الوعي الإسلامي، العدد416، محرم 1421هـ أبريل-مايو2000، ص: 68.

2- الوعي الإسلامي، العدد416، محرم 1421هـ أبريل-مايو2000، ص: 68 .

3-دروس من سيرة الحبيب المصطفى  : المرحلة السرية وفقه اصطفاء الرجال/ المفضل فلواتي، الطبعة الثانة، 1422هـ-2002م، مطبعة أنفو-برانت فاس. ص: 170-171 .

4-حياة الصحابة/ الكاندهلوي: ص306. عن الهيثمي:9/216 .

5- الوعي الإسلامي، العدد416، محرم 1421هـ أبريل-مايو2000، ص: 68. وذكره ابن إسحاق في السيرة عن أم سلمة، كذلك في: حياة الصحابة/ الكاندهلوي: ص295-296. +البداية: 3/169  .

6- الوعي الإسلامي، العدد416، محرم 1421هـ أبريل-مايو2000، ص: 69.

7- أسد الغابة:5/450.

8- أسد الغابة:5/450  .

9- المسد:1-2 .

10- مجمع الزوائد/ الهيثمي: 9/257، نقلا عن حياة الصحابة/ الكاندهلوي: ص307 .

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>