لم ترد الهجرة في الاستعمال القرآني بمعان سلبية إلا فيما كان يحملها محل اجتناب الباطل ونبذ الفرقة، أو كان ينسبها إلى جحود الكفار ونكرانهم للقرآن، وذلك في موضع واحد فقط في قوله : {وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} (الفرقان :30).
فالهجرة هي خروج في سبيل الله وسعي لتحقيق رسالته في وحدة العبودية ورفعة قيم الدين. من هنا يصبح المهاجر مرادفا للمجاهد، والمعنى العكسي للقاعد والمتخاذل في أداء الرسالة، تصديقا لحديث الرسول : ” تضمن الله لمن خرج في سبيله لايخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة.. والذي نفس محمد بيده ما من كلم (أي جرح) يكْلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كُلِمَ، لونه لون دم وريحه مسك” (أخرجه مسلم).
إن وصل الهجرة بالجهاد يتنزل ضمن فلسفة الإسلام لمسؤولية الإنسان الكونية في الشهادة على الناس جميعا وحمل أمانة القيمة وخلافة النبوة في الأرض. فالهجرة أصل في تحقيق غائية وجود الإنسان وتنزيل الدين. وقد يهاجر المرء مستضعفا، ولكن لايهاجر ضعيفا؛ لأن قرار الهجرة من سنن الله العظيمة التي تشترط قوة في الإرادة وثباتا في المبدأ. لقد مثلت الهجرة دائما نقطة تحول في تاريخ البشرية، ولحظة حاسمة في رقي الحضارات أوسقوطها.
فهجرة الأنبياء كانت السبيل لنشر رسالتهم وإنقاذ أتباعها من قهر المتجبرين، وتأسيس قوائمها على أسس من العمران الآمن، بمثل ما آلت إليه هجرة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل من بناء مجتمع مكة، الذي أصبح له شأن كبير في تاريخ الإسلام لاحقا، أو هجرة العصبة من مستضعفي المسلمين الأوائل بمكة القهرية للحبشة، التي قادتإلى كسب أول نصرة خارجية رسمية لرسالة الإسلام، وكذلك هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، التي أرخت لأول دولة ومجتمع إسلاميين، ولأصول العلاقات ضمنهما.
وليست أشكال الفتح الإسلامي المتعددة، التي رسخت انتشار الإسلام في أرجاء الأرض كلها سوى نمط من الهجرة الإسلامية، التي اقتضتها بداية نشر الدعوة ومرجعية الخاتمية لرسالتها ولزوم العموم في نشرها، حتى لاتنحصر في قومية وإثنية معينة.
الهجرة الثقافية والفكرية:
لقد كان الخطاب الإسلامي يفيض دوافع وحوافز في اتجاه تعلم لغات الشعوب والاستفادة من علومها وحكمتها وتجربتها، ولد ذلك أنماطا من الهجرة الثقافية والفكرية ساهمت في تأسيس المدارس الإسلامية في الفلسفة والكلام والتربية والعمران والطب والرياضيات وغيرها، وجعلت من هذا التاريخ منارة للبشرية على مدار الأزمنة التي تلته، وخاصة منذ أن دخل الإفرنج في الاستفادة من معارف المسلمين، من العصر الوسيط نحو عصر الأنوار وإلى زماننا المعاصر.
إن اكتشاف الرجل الأوروبي لأمريكا، وقبلها اكتشافه لعلوم وفلسفات وفنون العالم الإسلامي في الفترة الوسيطة، شكل بداية الهيمنة الغربية على مقدرات العالم. فالمجتمع الأمريكي المعاصر هو النموذج الحي للهجرة، لايأبه كثيرا بالأصول بقدر ما يقوم الانتماء إليه على أساس الإنتاج. إنه انتصار لهجرة الأوروبيين الأولى، وإن كانت المنافسة السياسية والاقتصادية، هي التي تطبع العلاقة اليوم بين الأمريكيين والأوروبيين ضمن رغبة ” الرجل الأبيض” في تقاسم النفوذ على العالم.
ولئن رافق تهجير السود نحو أوروبا، وخاصة أمريكا، جميع أشكال الاستعباد والقهر، إلا أنه تحول إلى هجرة إيجابية بعد كفاح طويل ومستمر من أجل إلغاء قوانين العبودية وفرض مبدأ المساواة العرقي، والنجاح في الارتقاء بصورة الرجل الأسود من القابلية للعبودية إلى القدرة الكاملة على الإنتاج الحر والمنافسة.
في النمط الجديد للهجرة نحو الغرب:
إن الاختلال الكامن في التوازن بين عالم الجنوب والشمال أعطى لهجرة الجنوب نحو الشمال صورة دونية، دافعها الأساس ليس البحث عن الحقيقة بقدر ماهو البحث عن خلاص معيشي من خطر البطالة والفقر والجوع الذي يتهدد أهلها.
إن صورة الهجرة الإسلامية لدى الإعلام والرأي العام الدولي يغلب عليها معنى هجرة الهامش من اليد العاملة غير المتخصصة، والكوادر العاطلة، والعقول الحرة المهجرة اليائسة. وهي صورة تقترب من حقيقة الحال، ولكنها تندرج ضمن خطة الغرب في التحجيم من القيمة المستقبلية للهجرة الإسلامية، وتحويل وجهتهاالاستراتيجية البنائية والتوطينية نحو إدارة أزمات الوجود اليومي في الغرب، داخل دوامة الاعتراف وضمان الشغل والسكن والأمن تجاه أخطار الاتجاهات النازية الحديثة المتنامية. إن الغرب، وهو يعمق مصاعب إمكانات الوجود الاستراتيجي الفاعل للمسلمين في دياره، رغم شعاراته التمويهية عن الاندماج والمواطنة المتعددة الثقافات، التي يخدم بها غاياته الانتخابية المؤقتة وغاياته الاقتصادية الدائمة، إنما يزيد في ترسيخ سياسات هجرته العولمية المهيمنة على أوطاننا.
إن الغرب يدرك القيمة الحضارية للهجرة، وحتمية أن تنهض أمة الإسلا م من جديد بطريق الهجرة، من خلال دراستها ونقدها لتجربته وتهيئتها للمخزون الروحي والثقافي والحضاري لعالم الإسلامي، وهو منهج الاستيعاب والتجاوز الإسلامي، الذي لايتبنى الثورة ولا المسايرة، وإنما الإصلاح البناء المتوكل على الله في كل أمره : {إن أريد إلا الإصلاح مااستطعت وما توفيقي إلا بالله} (هود : 88).
وكثيرا ما ترفع عناوين الحوار الحضاري والتقارب بين الشعوب وعولمة الثقافة ليست لغايات تحرير الأمم المغلوبة من قبضة الغرب الغالب، إنما لتعميق صهر إرادتها ضمن نمطية الغرب، وشل قواها عن الإبداع، فهو منهج يقوم على امتصاص طاقات المقاومة لتيار التغريب داخل الأمم المغلوبة وإفراغ مخيلتها ومخزونها الثقافي من الإيمان بذاتها والاعتزاز بهويتها ومقوماتها الحضارية.
الهجرة ضد نمطية العولمة:
إن ظاهرة تنامي مجتمعات الهجرة والتعدد العرقي والديني تسير ضد تيار نمطية العولمة، التي عملت على طمس الهويات الجمعية وإذابتها ضمن الهوية الغربية الواحدة ادعاء بنهاية زمن الأمم وبداية وحدة الهوية العالمية تحت خيمة رأس المال وسلطة اقتصاد السوق.
ليست هذه الظاهرة إذا نتيجة إرادية ومدروسة، لامن قبل الغرب ولا من قبل باقي الأمم والثقافات المعاصرة. ولاتعبر هذه الظاهرة عن وحدة مجتمعية أو النموذج في التعددية الثقافية، إنما هي عبارة عن تداخل وتراكم عرقي وثقافي فرضه تطور الحاجة إلى التبادل بين الأمم، حاجة إلى التوسع وبسط النفوذ من جهة الغرب، وحاجة إلى اللجوء إلى الأمن والكفاف من جهة باقي شعوب العالم.
إن غياب الفكرة الموجِّهة أو القادرة على استيعاب هذه الظاهرة وتحويلها إلى أنموذج في الاعتراف بالهويات الجماعية الأقلية، أمام مصادمة الغرب لهذا المطلب الجديد الذي يعم أرجاء العالم وليس عالمه فحسب، يجعل منها ظاهرة حساسة قابلة للاستعمال المصلحي من الغرب أو التصدع في مواجهة أبسط الاختيارات في تقنين التعايش بين الجماعات المختلفة.
فعلى الرغم من أن تطور الهجرة الفردية إلى الغرب نحو تشكل وحدات جماعية عرقية وثقافية بل وحتى دينية، يمثل إكراها جديدا وتحديا خطيرا على الحداثة الغربية الأحادية، غير أن طبيعتها القهرية غير الإرادية تجعلها سهلة الاستعمال من الغرب ذاته، لحجب نمطيته وتنميق صورته التعددية في العالم، التي باسمها وباسم وحدة شعوب العالم يستزيد ويضاعف من إمكاناته على التحكم في مقدرات العالم.
كما أنه ليس من قبيل المفارقة أن يرافق هذا التنامي لمطلب الاعتراف بالهجرة الجماعية تنامي في ظاهرة “التطهير” العرقي والديني، أو نزعات الاستعلاء العنصري سواء من داخل الغرب أو خارجه.
فتعدد الهويات الجماعية ليس وليد تطور فكري، وبلوغ نضج إنساني، وقد يكون أحيانا من مصلحة الغرب ذاته تغذية انحرافاته وتفجراته لتيسير ترويج أسلحته وتجربة نجاعتها، أو للبرهنة على ضرورة الالتفاف حوله لإنقاذ مصير العالم من الدمار. ثم إن الفراغ الكبير في التداول الفكري لقضية الاعتراف بالهوية الجماعية للهجرة بين المؤمنين بها لايساعد في بلورة المناهج والنظريات المستقبلية البديلة عن نظم الحداثة المعرفية والمؤسسية الغربية العاجزة عن استيعاب مثل هذا التطور في نمط الهجرة.
” إن نمط التعايش السلمي في أزمة” (1)، هكذا عبر الفيلسوف الأمريكي ” فالزير” عن مخاوف المفكر الغربي تجاه مستقبل مبدأ التسامح بين الشعوب الذي تعتبره الحداثة الغربية ” الإطار الأنسب لنمو التعددية الدينية والعرقية” (2).. كما أن مجتمع ما بعد الحداثة سيكون – كما يرى الفيلسوف الإنجليزي لوك- مجتمع الاعتراف بالفرد فقط، فما هو فردي هو إنساني. والعالم سيكون تجمعا للغرباء، حيث لاهوية حتى للفرد، حسب استشراف الفيلسوف وعالم السياسة الكندي ” تايلور”(3).
د. محمد المستيري
———
(1) Michael Walzer, Trait sur la tolérance Ed.Gallimard1998, p : 240
(2) Taylor Charles, Multicultiralisme : Différence et démocratieEd Flammarion
(3) المصدر نفسه، 16.
عن كتاب الأمة 89 :
البعد الحضاري لهجرة الكفاءات
-بتصرف-