العـولـمة…. رؤية إسـلامية: شروط التواصل مع الآخر


رغم الزلزال الهائل الذي أحدثته تفجيرات المباني في نيويورك وواشنطن في العالم أجمع، وما تبعه من تداعيات بدت بتأثيراتها أعنف من الزلزال نفسه، خاصة فيما يخص الشخصية العربية والإسلامية، وما يتصل بالثقافة الإسلامية التي اتهمها البعض ظلما بأنها ثقافة عنف وإرهاب؛ نقول برغم الزلزال وتداعياته فإن التواصل والفهم المشترك ما بين العالم الإسلامي (ولا أقول العربي فقط) والأمم الـأخرى يجب أن لايتعطل، وإن تعطل فلا يصح أن يطول عطله، مما يستدعي وقفة صريحة وصادقة منا تجاه أنفسنا للتعرف على واقع منظوماتنا العربية في التعليم والتربية والثقافة والإعلام وغيرها؛ إذ أن لدى تلك المنظومات القدرات اللازمة لصياغة الفرد المعتدل والجماعة المتزنة إذا أحسن ترتيبها، ومن المهم أن نوضح أن الوقفة أو الوقفاتالتي نطالب بها للمراجعة لاتأتي استجابة لأحداث آنية أو مفروضة، ولكن لأنها مطلب ملح وضروري طال انتظار أمتنا له.

ووقفتنا الصادقة سوف تكشف لنا:

- بأن منظومة القيم والمبادئ والتقاليد الصالحة في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة قد اعتراها بعض الوهن، كما اعترى غيرها، فلم تعد للقيم سلطة السيطرة على  مجريات الحياة في المجتمع كما كانت بالأمس، وما عادت المبادئ متمكنة من النفوس ومتغلغلة في الأفئدة بنفس العمق الذي كانت عليه بالأمس، ولم تعد للتقاليد الصالحة تلك السطوة التي كانت لها من قبل في تشكيل حياة الفرد والجماعة بنفس الزخم والقوة، ولم يعد البيت  كما كان بآدابه وتقاليده وتأثيراته.

- وأن جل -حتى لانقول كل- النظم التعليمية والتربوية في العالمين العربي والإسلامي مترهلة ومرهفة، فالملاحظ :

أن أولويات الخطط التعليمية والمناهج الدراسية غير واضحة ومرتبكة ومتداخلة، وأنالطلاب تزاحمهم في أوقات التعلم مغريات من فضائيات ووسائل ترف وترفيه وملاهي ومسارب عديدة لضياع أوقاتهم في غير ما هو نافع دائما بالضرورة؛ فما عادوا يُجِدُّون في الدراسة والتحصيل كما كان أسلافهم من قبل، ولم تتوفر لهم البدائل السليمة والمستقيمة لامتصاص أوقات الفرااغ عندهم فيما هو مُجْد ومفيد، وأن جهد المعلم دون المستوى، وعطاءه دون الحد، ويبدو منهكا ومتعبا لأسباب يجدر معرفتها.

- ومنظومة الاعلام العربي وربما الإسلامي أيضا متخلفة عن الركب العالمي ومتعثرة في كثير من خططها وبرامجها، فالتلفاز في جله يبث في عصر الفضائيات برامج أقل ما يقال عنها إنها لاتجذب المشاهد فينصرف عنها إلى غيرها، وإن جذبته فإلى المفاسد والغواية،

والصحافة تلهث وراء خلق النقلات النوعية في الطباعة والإخراج- التي صارت ديدن الصحافة العالمية المتطورة- ولاتكاد تصل إليها، وإن وصلت إليها فلا تهتم بالمادة التحريرية، إذ الموضوعات التي تعالجها لاتسبر غور الحياة في مجتمعاتها وتميل إلى تسطيح القضايا ولاتراعي قول الحق ولا إظهار الحقيقة فجاءت نتائجها دو ن جدوى تذكر حتى لا نقول أنها فقدت مصداقيتها.

إن الحديث عن الإعلام العربي وربما الإسلامي أيضا شيق ومتشعب، نوجزه في كلمات :

لا أولويات محددة وواضحة.ولاخطط متفاعلة مع الاحتياجات المجتمعية والثقافية والفكرية، ولا برامج فعالة تنشر الوعي المستقيم والاعتدال المطلوب والولا ء للدين ثم للوطن،

إذا أدركنا كل ذلك أو بعضا منه، ورغبنا في التعامل مع الآخرين بتكافؤ و ندية أخذا وعطاء وتطلعنا إلى انفتاح ثقافتنا بقيمها و مبادئها على ثقافة الغير بدون توجس وتقبلنا التحدي الثقافي للعولمة القائم أمام أعيننا بعزيمة وإصرار ( ولا يبدو أمام أمتنا خيارآخر) فإن ثمة شروطا موضوعية يجب تحقيقها من أبرزها :

أولا : أن يملك عربي اليوم روح المسلم الأول الملتزم الواعي الذي يؤمن بالوسطية، والقادر على التكيف مع محيطه وعالمه بعقلانية ورشد، والمتمكن من التأثير فيه بفعالية واتزان والمتعامل معه بإيجابية واستبشار دون أن يفرط في إيمانه وثوابت عقيدته ولو لبرهة.

ثانيا : إعادة النظر في منظومتنا العربية في التعليم والتربية ومراجعة محتويات المناهج لتتواءم مع العصر، وتتجانس مع القيم والمباد والأعراف الصالحة ، لتنتج لنا إنسانا معتدلا ومتوازنا  ومنفتحا وواثقاً من ذاته ومنسجما مع نفسه ومعتزا بشخصيته وساميا بعقيدته. ونؤكد أن الإصلاح في منظومات التعليم والتربية هو المفتاح للأصل في باقي المنظومات الأخرى .

ثالثا : إفراد جهود خاصة وحثيثة للخروج بمنظومات الأمة الثقافية والفكرية من الجمود والتخشب، أو الانبهار والانحياز، أو التوجس والريبة وتنقيتها مما علق بها من شوائب، وتبديد الصورة الظالمة التي رسمتها دوائر معادية للدين والخلق الكريم، وأن ترتكز منظومات الثقافة والفكر على أسس جديدة تأخذ من ثقافات العالم المعاصر أصلح وأنقى وأجمل مافيها من قيم وأفكار وفنون وتنسجم معها، ليصبح التفاعل مع الثقافات الأخرى  من موقع الندية والاحترام المشترك لخير الانسانية جمعاء،

رابعا : تفعيل الثوابت العقدية والمقومات الفكرية المعتدلة في الفرد والجماعة ببرامج عملية تبث القيم الفاضلة وتنشر المبادئ السامية وتحيي التقاليد والأعراف النافعة وتبث السماحة والخلق؛ وتعزز دور القدوة الصالحة والنموذج الصادق في جميع مواكب الحياة.

خامسا : إفساح أوسع مجال مستطاع من حرية الفكر وحق التعبير في سياج متين من ثوابت الدين مع التفاعل والتجانس والتسامح بمالا يتعارض مع تلك الثوابت أو التعرض لها أو التشكيك فيها. ونحسب أن في زيادة مساحة الحرية ضمن الاعتبارات التي سردناها تشجيع للإبداع الفكري والثقافي، فتسمو القيم وترتقي المبادئ الإنسانية ويستعيد مبدعو الأمة دورهم في هداية البشرية وإصلاحها والتأثير الإيجابي في ثقافة الغير ومواجهة تحدي ثقافة العولمة.

-يتبع-

بقلم: أ.د. محمود بن محمد سفر السفياني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>