مع كتاب الله عز وجل :  تفسيــر ســـــــورة التغابـــن 27 : {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن}


معنى الغبن في البيع والشراء

من أسماء القيامة يوم الجمع ومن أسماء أيامها يوم التغابن {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} والتغابن مأخوذ من الغبن وهو النقص وجاء في اللغة العربية أيضا بمعنى الخديعة، وصورته في البيع والشراء، أن يكون المتبايعان في حالة تبادل البضاعة والثمن : أي يتبايعان، أحدهما ينقد الآخر الثمن وياخذ البضاعة، فاذاكانت النوايا سليمة وكان الناس أصفياء، فإن الذي يبيع الشئ غير منقوص والذي يشتري ذلك الشيء بثمن مناسب يكون البيع بيعا طبيعيا، وهو الاصل في البيع، أي الاصل في البيع سلامة النية، أي إنك مابعت شيئا وأنت ما اشتريت شيئا إلا بغرض واحد هو حاجتك إلى المال إذا بعت أو حاجتكإلى البضاعة إذا اشتريت.

لكن حينما تفسد النوايا يصير البيع مضمراً بل وسيلة، ويصير النهب والاحتيال والسرقة هي المراد، إذا فالبيع وسيلة إلى شئ آخر هو الخديعة، طبعا هذا ليس هو المراد في البيع الشرعي. إذا تم شئ من هذا البيع فأحد الناس اشترى الشئ وبيع له ذلك الشئ بثمن مضاعف فإنه حينئذ يكون قد غُبن بمعنى خُدِع نظرا للثمن المضاعف للسلعة المشتراة. وقد يكون الغبن، كذلك في السلعة أو في البضاعة كأن تكون السلعة مموَّهة ومزوَّرة فيباع النحاس مثلا في صورة ذهب ويباع البيت المتهالك المتداعي على أنه قائم متين وتباع الاشياء الساقطة على أنها أشياء نفيسة، وطبعا كما تسود في الأمة روح التدين يسود فيها التهالك على المال فيصير هذا الغبن وهذا الخداع شبه مشروع عند الناس يقبل المجتمع هذه الصورة الساقطة للبيع، وهذه الصورة الجلية للسرقة، أي يصير الناس لصوصا في صورة التجار، فالانسان يرى أن من استطاع أن ينصب على الآخرين وأن يسرق الآخرين فهو مفلح وهو تاجر ماهر بقطع النظر عن كون هؤلاء الناس سينتفعون أولا ينتفعون.

إن هذا البيع هونوع من السرقة، إذ البيع مفروض فيه سلامة النية، وإظهار العيوب، كما عند الغربيين الآن من إظهار العيوب على الورقة، إذْ غالبا ما يبيع الاوروبيون مبيعاتهم في أغلفة أو في عُلَبٍ يكتبون كل أوصاف ذلك الشئ، فيه كذا من السكر، كذا من مادة  الحديد، أو من مادة الزنك، يذكرون عينات الاشياء فتجدها على نحو ما وصفت، فلك الخيار: إما أن تشتري وإما أن لاتشتري، فإن اخترت هذا الرخيص الثمن فقد اخترت ماهو أقل جودة وإن شئت الأجود دفعت أكثر، وهذا الأمر مفروغ منه، ومتعامل به، لكن هذا أمرٌ ليس عندنا، بينما هو من شريعتنا، أُخذ منا وطُبِّق عند غيرنا فنجح وأفلح، وصارت التجارة عندهم ميسورة وعندنا بائرة.

علماء المسلمين كانوا يقولون : إن الذي يبيع بيتا ويعرف من خلال سكنه في ذلك البيت أن فيه ” البَّقّ” فباعه بدون أن يذكر ما فيه من البق، فإن ذلك البق عيب من عيوب الدار، يُرَدُّ به البيع إن شاء المشتري أن يرد البَيْتَ بعد أن وجد فيه البق، وياخذ من البائع الثمن.

لو شئنا الآن أن نكتب حيل البائعين في هذا الاتجاه لكتبنا مجلدات ضخمة مما يأتيه الناس من الصناع  الحرفيين ومن البنائين، و الخياطين، والنجارىن والحدادين وغيرهم من جميع الأصناف . لأن أمر الخداع أصبح شائعا، وهذا يدل عل أمرين : يدل على  فقدان الحس الديني عندنا، ويدل على البلادة، لأن البليد يضر بنفسه وهو يتصور أنه يحسِنُ إلى نفسه، لأنك إذا غششت الناس مرة فسيغشونك ألف مرة، إنك بتأسيس الغش وترويجه وإذاعته ستكون أنت كذلك أيضا من ضحاياه أحببت أم كرهت، لكن هؤلاء الناس، لمالم يكن لهم دين صحيح ولم يكن لهم علم، ولم يكن لهم عقل تورطوا، فلذلك أصبحت منتجاتنا من أتفه الأشياء مع الأسف كل المنتجات من البلاد الإسلامية ليس لها قيمة في الأسواق . فكيف نستطيع تكوين سوق عربية مشتركة تزاحم غيرها من الأسواق، ونحن لم نتخلص من الغش؟؟

هذا كله تسمم يجعل هذه الامة تعيش بلا دين، وبلا مبدأ، إن الاصل في البيع والشراء هو الوضوح وهو سلامة النية فاذا وجدنا شيئا من غير ذلك مثل زيادة الثمن والتمويه في الصنعة، فإن ذلك يسمى غبنا.

معنى التغابن يوم القيامة

إن يوم القيامة سماه الله تعالى يوم التغابن، فإما ان يكون المراد بالتغابن بمعنى التفاعل، والمشاركة، وإما أن يُفيد معنى الكثرة، فبعض المفسرين قالوا إ،ن هذا اليوم يوم تفاعُلٍ تغابُنٍ، أي باع هذا الآخر، فغَبَن هذا ذاك، أي أن أحد الطرفين غَبَنَ الآخر، من هما الطرفان؟ قالوا إنهم أهل الجنة وأهل النار، الفريقان دخلا في تجارة. والله عز وجل سمى التعامل معه تجارة، فقال {هَلْ أدُلُّكُم على تِجَارَةِ تُنْجِيكم منعَذَابٍ أليم}(سورة الصف)، {قُلْ إِنّ الخًاسِرِينَ الذين خَسِرُوا أَنْفُسهُم وأهْلِيهِمْ يوم الفِيَامَة}(سورة الزمر) فهناك تجارة، وهناك بيع، وهناك ربح، وهناك خسارة { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارُتُهُم ومَا كَانُوا مُهْتَدِين}(سورة البقرة).

إذاً هناك فريقان : فريق من المؤمنين، وفريق من الكا فرين، فاختار الكفرة الجانب السيء، وتمردوا على الله تعالى وشرعه، واختار المؤمنون الطريق الرابح الناجح، وكانت النتيجة هي أنهم ظفروا بالجنة، أمّا الآخرون فارتكسوا في النار، إذاً فهناك الغَابِنُ هم المؤمنون، وهناك المغْبُون وهم الكفار الذين أسَاءُوا  التجارة وخسروا فلم يفوزوا بشيء، إن عملهم لا يؤدي في آخر المطاف إلى جنة، ونعُوذ بالله، إذاً فهم مغبونون خاسرون.

ومفسرون آخرون يجنحون بهذه الكلمة الى غير معنى المشا ركة. وإنما إلى معنى الكثرة والمبالغة لأن تَفَاعَل قد تكون بمعنى الكثرة والشدة في الشيء، فتعاظَمَ مَجْدُ الله تعالى، وتبارك الله، أي عظُم مجده وكثرت بركته، بمعنى أن اليوم يوم التغابن، أي هذا اليوم يوم الغبْن الكثير الشديد الذي يقع لبعض الناس، وهذا المعنى هو الذي يُرجِّحُه السياق، فيوم التغابن معناه أن الإنسان يعْقِد الصفقات، ففي بعضها لا يُوفّق، وتصيبه خسائر، فيُغْبن ويبيع الأشياء بأقل من ثمنها، هذه خسارة الإنسان في ماله، وهي شيء عظيم  لا يتقبله الإنسان بسهولة، لكن الخسارة الكبيرة هي الخسارة التي يخسر فيها الإنسان حياته بأكملها، إنّ الكافر لم يخسر درهما واحداً أو ديناراً واحداً أو سنة من عمره فقط ولكنه سيخسر الحياة الأبدية الباقية، إذاً فأيّ خسرانٍ هذا الخسران؟؟ إن الخسارة المالية الكبرى السابقة تَبْدو شيئا صغيراً بالنسبة إلى خسارة الحياة عندما يُزجّ بالكافر في جهنم.

فالخسارة الدنيوية هي خسارة مؤقتة، أما الخسارة العظمى، فهي : خسارةالانسان يوم القيامة، إذا كان سعيه سعيا سيئاً والعياذ بالله، وإذا كانت نهايته أن يكون في نار جنهم، الإنسان يمكنه أن يقضي عمره في رغد عيش وهناء، ويظن أنه من الصالحين، ولكن يوم القيامة يحاسب حساباً شرعيا كما يريد الله فيكتشف أنه كان من أسوإ الناس سلوكاً، وأسْوئهم عملا، فيقذف به في نار جهنم، ماذا ربح من هذه الدنيا؟… يؤتى يوم القيامة بالإنسان الذي نعم في الدنيا بكل أنواع النعم، فيغمس في نار جهنم ثم يُخرج فيقال له هل مَرَّ بك من النعيم شيء فيقول : لم أر من النعيم شيئا، غَمْسَةٌ في نار جهنم تُنْسي الانسان كلّ النعيم.

ويؤتى بالذي ذاق كل عذاب من عذاب الدنيا من مرض وفقر وظلم فيُغْمس في الجنة فيُخرج منها فيقال له : هل مر بك شيء من الشَّقَاء فيقول لم أر من الشقاء شيئا، بمعنى أن غمسة في الجنة تُنْسِيه كل الآلام، وكل الأحزان، وهذا هو التصوير الحقيقي للحياة حتى لا يغتر بها الانسان، ولا ينبهر بها ولا يتابعها متابعة مطلقة، ويفرط في دينه، ذلك هو يوم التغابن، أي ليس هنالك يوم يسمى يوم التغابن إلا هذا اليوم، فإن كان الناس قد مرت بهم صفقات فشلوا فيها ولم يحصلوا أرباحاً مادية فإن ذلك أمر هين، لكن الذي يسمى يوم الخسارة ويوم الغبن، هو يوم القيامة الذي تكون في الخسارة العظمى للحياة الكافرة لأن التغابن الدنيوي في البيع والشراء يُسْتدرك بوجهين : إما بِرَدٍّ في بعض الأحوال، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى، فأما من خسِر الجنة فلا دَرك له أبداً. والحقيقة أن كل الناس سيكونون مغبونين يوم التغابن، جاء في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >لا يلقى اللّه أحدٌ إلاّ نادماً إن كان مسيئا أن لم يحْسِن، وإن كان مُحْسِنا أن لم يزدد< نسأل الله عز وجل أن يلطف بنا ويتجاوز عنا في هذا اليوم الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم : >إني أرى ما لا ترَوْن، وأسع مالا تسمعون، أطت السماء وحُق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى>(أخرجه الترمذي) يومٌ وأيّ يوم؟!

د. مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>