خلال أسابيع ، وفي سياق إحياء الذكرى الثالثة لاندلاع انتفاضة الأقصى شاعت في بعض الدوائر السياسية الفلسطينية ومعها بعض النخب السياسية والمثقفة فلسطينياً وعربياً ظاهرة مديح الحجر وهجاء الأعمال العسكرية والعمليات الاستشهادية.
جاء ذلك في معرض تقييم عامين من انتفاضة الأقصى وما قدمته للقضية الفلسطينية، مقابل أعوام من الانتفاضة الأولى التي كان الحجر سلاحها الأول، ما يدفع إلى إبداء جملة من الملاحظات التي تناقش هذه الظاهرة وترد عليها قبل أن تغدو جزءاً من لوازم أحاديث السياسة، فضلاً عن ضرورة هذه الملاحظات في سياق الدفاع عن خيار شعب بأكمله وعن الشهداء والجرحى والأسرى ممن دفعوا ثمن هذا المسار الذي اكتشف (الواقعيون) و(العقلانيون) بعد مضي عامين – بعضهم للأمانة كان اكتشافه مبكراً – أنهم كانوا خاطئين وأقله مخطئين.
الملاحظة الأولى الضرورية كمدخل للنقاش هي البحث في حال الانتفاضة الأولى وسلاحها، وهل كان الحجر هو الغرام الذي هام به أهلها أم أنه الضرورة، وهل كان ثمة أسلحة أخرى أم لا?
يعيدنا هذا إلى ما كانت عليه حال المقاومة داخل الأراضي المحتلة قبل اندلاع الانتفاضة في 8/12/1987، ذلك أن الوضع الفلسطيني في الداخل لم يكن مفعلاً على النحو المطلوب خلال العقود الأربعة السابقة منذ الاحتلال الأول عام 1948، فطوال هذه السنوات كان مدد المقاومة يأتي من الخارج، قبل أن تتحول الثورة إلى جيش بعد ذلك، سواءً في الأردن أم لبنان. أي أن نضال فلسطيني الأراضي المحتلة كان مركزاً في الشق السياسي أكثر من العسكري، حتى أن الأعمال العسكرية التي كانت تجري ضد الاحتلال كانت تنفذ في الغالب من خلال خلايا قادمة من الخارج.
خلاصة القول هي أن الداخل كان على الدوام في انتظار الحل القادم من الخارج. وما أن أصبح للثورة الفلسطينية قواعدها وبناها التحتية في الأردن، والأهم في لبنان، حتى كان مسار العمل المسلح محكوماً لضوابط معينة في التصعيد خشية الردود الكبيرة، فضلاً عن أن أسباباً أخرى كانت تساهم في ضعفه أو إضعافه.
لنأخذ مثلاً على ذلك تعداد الخسائر الإسرائيلية داخل الأراضي المحتلة ما بين عام 78 وتاريخ انطلاقة الانتفاضة الأولى نهاية العام 1987، إذ تشير الدوائر الإسرائيلية إلى أنها لم تتجاوز 164 قتيلاً. وبالطبع فقد كانت معظمها، كما أشرنا سابقاً، بفعل عمليات نفذتها خلايا قادمة من الخارج.
لذلك كله لم تكن البنية التحتية للفصائل الفلسطينية – لم تكن حماس قد دخلت بعد على الخط – مهيأة للعمل العسكري. ولذلك فإن اندلاع الانتفاضة الأولى من خلال الحجر لم يكن إيماناً بقصة العمل السلمي وكسب الرأي العالمي، إلى غير ذلك من التنظيرات التي جاءت لاحقة على الممارسة وليست سابقة لها.
شاهدنا على ذلك أن قوى المقاومة لم تكن ضد الأعمال العسكرية حين تتوفر أدواتها، وحين تبتعد عن التجمعات البشرية في المسيرات، بدليل أن قنابل المولوتوف كانت سلاحاً شائعاً في ذلك الوقت، فضلاً عن العبوات الناسفة وإطلاق الرصاص في بعض الأحيان حين تتوفر إمكاناته التي كانت محدودة إلى حد كبير، وهو الوضع الذي أفرز ظاهرة (المطاردين) الذين نفذوا أعمالاً عسكرية ولم يلقوا حجارة فقط، والشاهد أن هناك قتلى من الإسرائيليين وصل عددهم حتى توقيع أوسلو 90 قتيلاً.
إن شيوع ظاهرة الحجارة لم تكن إلا تعبيراً عن ضآلة الإمكانات، بدليل انحسارها شيئاً فشيئاً حين تراجع الشعور بجدواها في إرهاق الاحتلال الذي أخذ يتعايش معها، بل تمكن من تحويلها إلى عبء على الشارع الفلسطيني أكثر من كونها عبئاً عليه. وهنا بدأت حرب السكاكين في مطلع العام 1990، ثم انطلقت الأعمال العسكرية من خلال إطلاق الرصاص في قطاع غزة وعلى نحو أقل في الضفة، وهذه الأعمال هي التي سرّعت مسار أوسلو وليس الحجارة، لأن انتفاضة الحجارة كانت قد لفظت معظم أنفاسها قبل مؤتمر مدريد نهاية العام 1991، ولم تمكث سبع سنوات كما ذهب البعض.
الملاحظة الثانية تتصل بانجاز الحجر مقابل الأعمال العسكرية، ذلك أن القول إن مسار (مدريد) ومن ثم (أوسلو) قد جاء تتويجاً لثورة الحجارة هو أكبر إساءة يمكن أن توجه لها، فما قبلته المنظمة في (أوسلو) كان معروضاً على الدوام بوضع أفضل خلال السنوات السابقة، ولا شك أن وصف عدد من منظري السياسة والثقافة الإسرائيلية للإتفاق بأنه يساوي محطات مهمة في تاريخ المشروع الصهيوني، مثل مؤتمر بال ووعد بلفور الاحتلال الأول أو تأسيس دولة إسرائيل هو دليل ناصع على أنهم لم يروه تنازلاً أمام المقاومة، بقدر ما وجدوه تنازلاً من الطرف الآخر حين انسدت السبل في وجهه بعد حرب الخليج وانهيار الاتحاد السوفيتي، بل إن الطرف الفلسطيني نفسه قد قال ذلك مراراً في معرض تبرير قبوله التوقيع على اتفاق أوسلو، ولم يقل أحد إذاك أنه انجاز تحقق بقوة الحجارة وثورتها!!
نحن إذاً بإزاء تعاطف دولي لم يفرز شيئاً على الأرض، اللهم سوى نتيجة بائسة قال منظروها إنها جاءت بسبب ظروف دولية سيئة في صالح الكيان الصهيوني وليست ضده بحال من الأحوال.
الملاحظة الثالثة ولعلها الأهم التي تطرح نفسها على منظري الحجارة وجلهم من سادة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، هذه الملاحظة تأتي على هيئة سؤال يوجه إليهم يقول: (ماذا عن رأي البشر الذين تطالبونهم بإخراج أبنائهم إلى الشوارع لإلقاء الحجارة والموت أمام الدبابات كي يكتمل )المشهد الدرامي) الضاغط على أعصاب العالم أجمع?!. أليس لهؤلاء رأي في المسألة)?
حين سقط عدد من الفتية أمام أسوار المستوطنات في قطاع غزة وهم يهاجمونها بالحجارة أو بالسكاكين، أدان الكثيرون تلك الظاهرة، وقامت (حماس) بمطالبتهم بالكف عن ذلك السلوك، لأنهم أغلى من أن يسقطوا بلا ثمن برصاص الجيش الإسرائيلي.
إن انحياز الجماهير الفلسطينية ومن ورائها الشارع العربي والإسلامي إلى لغة المقاومة المسلحة والعمليات الاستشهادية لا ينكره إلاّ أعمى، وهذه الجماهير هي وحدها صاحبة الحق في تحديد شكل نضالها وليس منظرو (الواقعية).
هل ثمة مقارنة بين جنازات شهداء العمل العسكري أو الاستشهاديين وبين جنازات الذين يموتون عرضاً أو بعد إلقاء الحجارة مثلاً? ألا يعبر ذلك عن قناعة حقيقية بأن مقاومة لا توجع الاحتلال ليست مقاومة، وأنه لا شيء يوجعه مثل خسارة البشر?
لقد بدأت (ظاهرة يحيى عياش) قبل (أوسلو) بشهور وحين استشهد بعد ذلك بثلاث سنوات خرجت له مسيرة في غزة وأخرى في الضفة الغربية تعدادها نصف مليون لم يعرف مثلها في التاريخ الفلسطيني كله.
إن أحداً لا يمكنه أن يفرض على الشعب الفلسطيني أن يرسل صغاره إلى الموت المجاني، فيما هو قادر على إرسال الشبان لضرب الاحتلال و(تهديد وجوده). إنه لن يفعل ذلك لمجرد إدخال السرور إلى قلب المعنيين بالرأي العام الدولي. ولعل من المدهش أن كثيراً من أولئك كانوا يندبون على المقاومة إرسالها الشبان إلى (الانتحار)، فيما يطالبون الآلف بإرسال اخوتهم الصغار إلى (انتحار) من لون آخر، أملاً في تعاطف دولي ثبت أنه لا يقدم شيئاً على الأرض.
الملاحظة الأخيرة تتصل بتبعات انتفاضة الأقصى وكونها أعادت الفلسطينيين إلى الوراء بسبب ما ألحقته بهم من معاناة، وللرد على ذلك نقول إن سبب ذلك يعود ابتداءً إلى أن خيار المقاومة لم يتبنى على نحو واضح وكامل، ولذلك فإن من الظلم الحديث عن اختبار نتائجه. أما الأهم من ذلك فهو أن نضال الشعوب الحرة ضد محتليها لا يحسب بالمياومة أو كل عام أو عامين، وإنما بالمحصلة النهائية. أما الخيار الآخر فقد ثبت عقمه في محطة كامب ديفيد، عام 2000، فيما لا يبشرنا أحد بعودة (مظفرة) إلى تلك المحطة، بل إلى ما هو أسوأ منها بكثير، فهل نختار مساراً مضمون النتائج كما تقول تجارب التاريخ أم نواصل إضاعة الوقت ومعها التضحية بصغارنا الذين هم عدة المستقبل من أجل مسار ثبت فشله؟
ذ. ياسر الزعاترة
———-
(ü) مقال نشر في صحيفة البيان الاماراتية في 17 -10 -2002