لا يستطيع أي إنسان أن يدّعي الإحاطة بعلم الله تعالى وحكمته، ولكن أحاول أن أشير إلى ما يتراءى لي -اجتهاداً- على أنه بعضٌ من حِكم الله تعالى في هذا الختم، وذلك على النحو التالي :
1- مناسبة الرسالة الخاتمة للمستوى العقلي والحضاري اللذين وصل إليهما الإنسان، فهي شهادة من الله تعالى على أن الإنسان بلغ أوْجَهُ في مختلف الطاقات العقلية والفكرية والحضارية، ولم يَبْق له بعد ذلك إلا أن يكرِّر نفسه، ويحسِّن حياته ببعض التطورات والمخترعات والمصنوعات والوسائل و الأساليب، أما الإنسان في جوهره من حيث هو فطرة سليمة تنمِّيها الرّسالات، وتفسِدُها الأهواء والشهوات فلا جديد، فما كان يتصف به أبو جهل من الدّهاء والذكاء والعناد لا يَقِلُّ عما عليه المعادون للإسلام في القرن الواحد والعشرين وقبله وبعده، فالذي تغَيَّر هو الوسائل و الأشكال. فلذلك ختم الله الرسالة بكتاب معجز يتحدّى الإنسان في كل عصر وقرن إلى قيام الساعة، سواء في البيان، أو التشريع، أو العلم بجميع رِحَابِه وشُعَبِه وفروعه، أو النُّظُم، أو الأخلاق، أو المقاصد البانية للإنسان. فكان ختم النبوة كأنه ختم للسقف العقلي الذي يمكن أن ينتهي إليه الإنسان، بحيث لا يمكن أن يأتي بشيء جديد خارج عن مضامين القرآن، وصدق الله العظيم {ما فرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}(الأنعام : 39).
فكوْنُ الإنسان لا يزيد مستواه العقلي -في علم الله تعالى- عما وصل إليه، معناه أنه لا حاجة له في رسالة جديدة، وإنما الأمر يحتاج إلى إحياء ما اندثر من تعاليم الإسلام بواسطة العلماء الداعين إلى الرجوع للكتاب الكريم بعقلية الفهم المتجدد على ضوء المستويات والتحديات التي تواجه التديّن بصفة عامة في كل عصر، ولذلك كان ختمها دَلِيل إعجاز للنبو،ة والكتاب، والأمة المُخرَجَةِ قدوة للناس، كالنبوة القدوة للمومنين.
2- استمرار الهداية وإقامة الحجة في كل مكان وزمان : بما أن الإسلام انتشر في كل القارات، والأذان يُجَلْجِل على رؤس المآذن في مختلف البلدان، والقرآن يتلى ويحفظ ويفسر في مختلف البيوتات والمساجد والدّول، وهُو جوهَرُ الرسالة ولُبُّها فلا حاجة إلى نبي جديد، ولا إلى رسالة جديدة، لأن الهداية قائمة بالقرآن، والحجة قائمة بالقرآن، والقرآن جَمَعَ هداية الإسلام ونعمته ورحمته التي رضيها الله لعباده {اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُـــمْ دِينَكُــمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُــــمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُـــم الإِسْــلاَم دِيناً}(المائدة : 4).
3- تكليف الأمة بالدعوة نيابة عن الرسولصلى الله عليه وسلم: لأن انتشار الإسلام يناسبه قِيَامُ المسلمين المنتشرين في كل مكان بالدّعوة، فهم بمثابة الرسل الذين كان يبعثهم اللهتعالى في كل تجمُّع بشريّ {وإنْ مِن قَرْيَةٍ إلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ}(فاطر : 24)، فالمسلمون دعاة بمقتضى التكليف العام الصادر لهم من الله تعالى في كتابه العزيز {ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَامُرُؤنَ بالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُون}(آل عمران : 104)، فهذا أدْعَى للاستمرار وإقامة الحجة بدون انقطاع إلى يوم القيامة، فكل مسلم يحْمِل أمْرَ الدّعوة وهَمَّها عن علم وحِكمة، فالنبوّة مُدْرجَةٌ بَيْن جَنْبَيْه بكتابها المحفوظ، وسنتها المحفوظة، وسيرتها المستوعبة لدقائق حياة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.
4- سد الأبواب في وجه الكذابين، سواء الذين يمكن أن يدّعوا النبوة أو الذين ينتظرونها، أو ينتظرون ختامها، فلقد خُتِمَتْ، ونزل كتابها الذي يتحدى الجن والإنس {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ علَى أنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَاتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَان بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}(الإسراء : 88).
فالختم إبرازٌ لإعجاز القرآن الذي تحدى الثقَلَين، وتَيْئيسٌ لأصحاب الأماني من اليهود والنصارى ومن لف لفَّهم، واعتقد اعتقادهم، وانتظر انتظارهم فغرقَ في بَحْرِ الشقاء مثلهم، فلا دين بعد الإسلام، ولا كتاب بعد القرآن، ولا نبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
يكتبها :
ذ. المفضل فلواتي