دراسات : الإنسان خُلُقٌ  وعمل 1


 

 

أصل هذا الموضوع عبارة عن كلمة ألقاها الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي في جمع من المومنين بمركز جمعية جماعة الدعوة بفاس ولأهميتها الكبيرة في حث المسلمين على التحلي بالأخلاق، اترأت الجريدة أن تنشرها تباعاً تطوع بإخراها من الشريط بعض الإخوة الكرام. وأعدّها للنشر : الأستاذ المفضل فلواتي.

أكمل المومنين إيماناً أحسنهم خلقا

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ن، والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لأجرا غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم..}

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أسامة، الذي صححه الإمام الترمذي وحسنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: >أنا زعيم ببيت بِرَبض الجنة لمن ترك المِرَاء وإن كان مُحِقًّا، وببيت في وسط الجنة، لمن ترك الكذِبَ وإن كان مازحا، وببيْتٍ في أعلى الجنة، لمن حسن خلقه<. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا وإياكم بحُسْنِ الخلق، لأن أقرب الناس مجالس يوم القيامة من  رسول الله صلى الله عليه وسلم  أحسنهم أخلاقا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >أقربُكُم منى مَجَالِسَ يوم القيامة أحَاسِنُكُم أخلاقا الموطَّأُون أكنافًا، الذي يألفون ويؤلفون<،  جعلنا الله وإياكم منهم.

وفي الحديث الصحيح أيضا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: >أكملُ المومنين إيمانا أَحْسَنُهُم خُلُقًا<.

ديننا منهج للتفكير والتعبير والتدبير والتسيير

هذا الدين، الذي أكرمنا الله عز وجل به، هو منهاج للفكر يعني للتفكير، ومنهاج للتعبير، ومنهاج للتدبير والتسيير، تدبير شؤون الحياة الفردية و الأسرية والعامة، ومن ثَمَّ، فليس المراد منه، أن يكون مجموعة أفكار توضَعُ في خِزانة العقل، أي في جانب من دماغنا، نضع مجموعة منالأفكار، نختزنها لنُنْفِق منها في ظروف، أوفي أوقات بعينها، وإنما هو توجيهاتٌ ربانيَّةٌ ورحمة مُتَنَزَّلَةٌ من الله عز وجل في كتابه لتَحُلّ فينا قلبا وقالبا، تحُلُّ فينا في الجانب النظري أولا، أي في الفكر وفي القلب، في العقل و في القلب، ثم تتحول إلى سلوك بتعبير اليوم، أو إلى لباس إن شئنا بتعبير القرآن، في قوله تعالى:{ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}(سورة الأعراف).

فإذن الدين في طبيعته، تطبيقي، ليس نظريا فقط، ليس شيئا فكريا، يكون في الفكر أفكاراً معينة، تصورات معينة، ثم نقف، لا ، بل هو أعمال، يعني أنه فكر يظهر في سلوك، يظهر في عمل. وهذا العمل نُعْتَبَر منه، ويُعْتَبَر الدين منه، أي الدين يُعْتبر  منه التفكير، ويعتبر منه التعبير، ويعتبر منه السلوك، ويُعتبر منه التدبير، بما أن طبيعة الدين هي هاته، كان أكمل المومنين إيمانًا أحسنهم خلقا، بمعنى أن الذي لَبِس الدين، لاَبَسَهُ الدين، يعني خَالَطَهُ الدينُ فصار لباساً له، فَلَبِسَهُ، هذا الإنسانُ لا شَكَّ هُوَ أحْسَنُ الناس، بل أكمل المومنين على الإطلاق. أي إذا صارت توجيهاتُ الدين بصفة عامة،  وتعاليمُه والرحماتُ النازلةُ من عند الله عز وجل، صارتْ فعلا مُمَثَّلَةً فيه نسبة عالية كان من أكمل المؤمنين، أمّا الذي تمثَّل فيه الدين مائة في المائة، فقد كان واحدا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم شهد له الله عز وجل بهذا، فقال له : {وإنّك لعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} وشهادة السيدة عائشة رضي الله عنه حينما سئلت عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من هذا القبيل حيث قالت : >كان خلقه القرآن<. فإذن هو صلى الله عليه وسلم جُْمَلةً يساوي تطبيقيا القرآن الكريم، القرآن حَالٌّ فيه بِمَعْناه، وحَالٌّ فيه بعَمَلِه، وهذا العمل الذي يتكون من التفكير ومن التعبير ومن التدبير، بصفة عامة، عليه مَدَار الإنسان وهُوَ هُوَ الإنسان، أي أنا وأنت لَسْنَا إلا عَمَلاً، نَحْنُ عَمَلٌ فقط، أي عندما نموت نساوي مجموعة أعمال صالحة أو طالحة. وهذه النقطة في غاية الأهمية لأنها مرتبطة بهذه المسألة الأساسية، التي تحدثتُ عنها قبل قليل في مفهوم الدين، وأنه ذو طبيعة تطبيقية، وليس المقصود به الجانب النظري فقط، أبدا، ولكن الجانب النظري يُعتبر أساسا فقط للعمل للآخر، أما الثمرة الحقيقة للدين فهي العمل، العمل المحسوس في مجالات متعددة، وقد تجلت هذه الحقيقة مع سيدنا نوح \ حيث قال : {رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين} إذ نجد أن الله وعد سيدنا نوحاً بأن يُنْجِي أهله في الوقت الذي رأى ابنه قد غرق، فيتساءل : {رب إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلي}، وأنت وعدتني بنجاة أهلي، {وإن وعدك الحق}، وما دمت قد وعدتَ فأنت لم تخلف قطعا، ولكن التفويض، أدب النُّبُوّة مع الله عز وجل، ولذلك قال : {وأنت أحكم الحاكمين}، حكمتك عالية، وما فعلته قطعا هو على مقتضى الحكمة، ولكن أريد أن أفهم يا رب، فأجابه سبحانه وتعالى : {قال يا نوح إنَّهُ لَيْسَ من أهلك}، كيف؟ {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْر صالح}، بتعبير آخر : أنت يا نوح عمل صالح، وأهلك هم الأعمال الصالحة، وأصحابها هم أهلك، أي إذا وُجد من طينتك من ليس له عملٌ صالح، فهو ليس من أهلك، لأن العمل الطالح ليس من جنس العمل الصالح، {قال يا نوح إنه ليس من أهلك}، السر {إنه عمل غير صالح}.

هذه أساسا تعني أن الإنسان مجموعة أعمال، استحضر أي شخصية في التاريخ تجد هذه الحقيقة واضحة، إذا ذكرنا فرعون مثلا في القرآن، هل نرى طوله أو قصره، أو غلظه،…أو….لا، ولكن نراه مجموعة من أعمال معينة هي التي تكوِّن فرعون، موسى \ مجموعة أعمال معيَّنة، هي التي تكون لنا شخصية موسى في القرآن ، إبراهيم \… وهكذا… وهكذا…فالإنسان هو عبارة عن مجموعة أعمال، وحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. في حوار لنبي من أنبياء الله عز وجل مع قومه، هو سيدنا لوط\، قالوا: {لئن لم تنته يا لُوطُ لتكونَنَّ من المُخْرَجين}(الشعراء : 167)، فهم ينظرون إلى الفعل وهو أجابهم بالعمل {قال : إني لعَمَلِكم من القالين}، فلم يقل، إني لكم من القالين، ولكنه {قال إنِّي لِعَمَلِكُم من القالين} حيث أبرز العمل. الذي هو الأساس في الشخصية، وعليه المدار في الحياة والثواب والعقاب، بحيث لو افترضنا أنهم غَيَّروا عملهم لتحوّل البُغْض إلى محبة، ولما قال لهم :{ إني لعملكم من القالين}.

بقلم : د. الشاهد البوشيخي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>