يقول الصحافي ماكس كلفورد : “معظم ما تقرأونه في الصحف كذب، وأنا أعرف ذلك تماما فإن الكثير مما تقرأونه من الكذب يعود لي”الشرق الأوسط ع 02/2/22).
وفي مدرستنا الابتدائية التي كنا ندرس فيها كان شيخنا المُكتب الفقيه بوذياب يحذرنا من تصديق كلام الكوازطية (الصحافيين) فهم كذّابون، وكنا مولعين بقراءة جرائد الوحدة المغربية والريف والجرائد الاسبانية : “إسبانيا”، و”أَبِ ثِ” (ABC) و”مَارَكا” الخاصة بالرياضة، ولم نكن نستمع إلى نصحيته حتى تبين لي عندما استقررت في لبنان للدراسة واطلعت على الحياة الصحافية هنالك، بل شاركت في الكتابة في جريدة “الشرق” برمز “ابن الأطلس” أو “ابن الريف” وشاهدت ميلاد بعض الصحف مثل “الجريدة” للأستاذ باسم الجسر التي كانت تنافس “الحياة” للأستاذ مروة، كما شهدت ميلاد مجلة “الآداب” للدكتور يوسف إدريس، وكنت وأنا في المغرب مولعاً بقراءة مجلة الأديب ومجلة “الأمالي” للدكتور عمر فروخ. لقد أتيح لي أن أعرف من قرب الصحافة اللبنانية وانتماءاتها وارتباط الكثير منها بهذه الجهة أو بتلك، بالداخل أو الخارج، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير بحث، لذلك كنا نقرأ فنعرف ا نتماءات الخبر أو التعليق، ومن ثمَّ أصبحت على حذر مما يرد في الصقحف، فلما انتقلتُ إلى القاهرة صادفت “تأميم” الصحافة بما فيها الوطنية النشأة وهكذا أصبحنا نقرأ “الخبر” و”المقالة” و”التعليق” و”الصورة” بعد أن تمر من القنوات الخاصة بإجازة ذلك أو باعتماده منها ابتداءً.. وهناك تذكرت نصيحة شيخنا بوذياب رحمه الله..
لقد كانت “الجريدة” عندنا تحظى باحترام خاص وأعني بها الجريدة “الوطنية” التي لم تكن ملوثة بالروح الحزبية المقيتة، بل إن “الصحافة” كانت موثوقة حتى انتهك حرمتها “الكذب” و”البهتان” و”التزوير” وأصبحت لا تستطيع أن تفرق بين مقالة و”إعلان” و”دعاية” صادرة من سفارة أو جهة مشبوهة لاسيما وقد أصبح للدول الكبرى ميزانيات ضخمة لترويج “أخبار” معينة وتعليقات “مقصودة” وتحليلات جاهزة بل وكتب كثيرة ومتنوعة تصدر عن دور حديثة النشأة أو قديمة تتمتع بثقة القراء، لكنها باعت نفسها للشيطان، بل هناك المئات من الجرائد والمجلات والنشرات تصدرها الجهات المعروفة لتزييف الحقائق وغسل الأدمغة وإعداد العقول والنفوس لقبول ما يحل بها أو ما يراد بها ومنها، بل إن الأمر أكثر من ذلك فقد أصبح لهذه الأجهزة الجبارة “فلاسفة” و”مفكرون” و”منظرون” و”مبدعون” ومؤلفون ومخرجون وممثلون ومُسَوِّقُون ومصفقون ومؤمِّنون ودلالون وبراحون ونگافات (المرأة التي تعنى بالعروسة فيما يتصل بزفافها) ومهرجون وشعراء وكتاب إلى غير ذلك، وإذا كان للأصولية النصرانية بالولايات المتحدة ما يربو على أربعة آلاف محطة إذاعية وتلفزيونية فكم تملك الدول الكبيرة والمتوسطة من محطات إذاعية وتلفزيونية وصحف؟ وكم تسخر من كتاب وشعراء و”مبدعين” و”فلاسفة” و”مدارس” و”معاهد” سواء داخل ترابها أو خارج وطنها.. وقد أعلنت أمريكا أن النتاغون ووزارة الدفاع على أهبة تنفيذ مشروع إنشاء مؤسسات ضخمة يوكل إليها القيام بعمليات دعائية سرية تهدف للتأثير على الرأي العام وعلى صانعي السياسات في الدول “الصديقة” و”المحايدة”.. والمشروع يتضمن نشاطات تهدف لتقويض تأثير المساجد والمدارس الدينية التي أصبحت بؤراً لتوليد الناشطين “الأصوليين” والمعادين للولايات المتحدة وذلك طبعا في العالم الاسلامي وفي أوساط الأقليات الاسلامية بأوروبا وسَيُنْشِئ المشروع مدارس في الدول الاسلامية مهمتها : تدريس “الموقف الاسلامي المعقول” كما يتضمن المشروع قيام الجيش الأمريكي بدفع أموال للصحافيين كي يكتبوا قصصاً إخبارية تتوافق مع السياسات الأمريكية واستئجار بعض المتعاقدين دون أن تكون لهم صلة مباشرة مع البنتاغون ليقوموا بتنظيم مظاهرات مؤيدة للسياسات الأمريكية.. ويتزعم رامسفليد وزير الدفاع هذا المشروع الذي يؤيده بحماس بالغ.
إذن فنحن أمام تزييف هائل ومهول لا تزييف الأخبار والتعليقات والبرامج والاستطلاعات والحوارات والجلسات الساخنة عبر الصحف والشاشات فقط، بل إن الأمر أصبح أوسع بكثير مما يتصور، إننا أصبحنا نعيش أجواء جلها افتراء وكذب وبهتان وتزييف للحقائق نستنشقه مع الهواء الملوث ونبصره على الورق والشاشة ونقرأه في المقالة والقصة والقصيدة وندرسه في المعاهد الدينية الجديدة!! وأصبحت هناك مصادر خاصة للفتاوى الجديدة حسب الإسلام الأمريكي “المعتدل” ويبدو أن المشروع وقع تنفيذه منذ زمن طويل، ولعلّ من ذلك ما قرأناه في بعض الصحف بالمغرب من استهجان واستنكار لعرض كتب في المعرض الأخير بالدار البيضاء مثل صحيح البخاري ورياض الصالحينمع إسماع للقرآن الكريم بأشرطة متنوعة من بعض الأجنحة العارضة.
ولذلك فإن المغرب أصبح في خطر، إذ يُروّج في معرضه بالبيضاء للقرآن الكريم والحديث الشريف والأذكار النبوية. إن وراء ذلك خلايا نائمة وأخرى مستيقظة وثالثة متحفزة ورابعة متوثبة وخامسة متثائبة وسادسة ذاكرة وسابعة قانتة وثامنة صائمة وتاسعة معتكفة…
فهل يُلام الشعب في تركيا وغيرها إذا ما فقد ثقته في أولئك الذين يهاجمون دينه بالزور والبهتان ويروجون الأخبار والأفكار المصنوعة في الخارج؟.
ومتى نعود لأيام أولئك المجاهدين الذين كانوا يقُدون “الكلمة” من ضمائرهم النقية الطاهرة ويستقون “الخبر” من مصدره الموثق ويتعاملون مع الأقوال تعاملهم مع الحديث الشريف ولا يبتغون بذلك إلا وجه الله؟.
د. عبد السلام الهراس
(ü) الجرائد : GAZETTE .